جَبهاتُ غَزّة والضَفَّة الغَربِيّة والجنوب اللبناني: أيُّ تَرابُطٍ قائم؟

الدكتور ناصيف حتّي*

يزدادُ الخطابُ الإسرائيلي، خطابُ الحرب، حِدّةً بأهدافهِ المُرتَفِعَةِ مُنذُ اليومِ الأوّل وغير القابلة للتحقيق كما تَبَيَّنَ منذُ شهرين ونيف من الحرب من جهة، ويزدادُ العدوانُ الإسرائيلي على غزة عُنفًا واتساعًا بهدَفِ “تنظيف” شمال القطاع كُلِّيًا من أهله تحت عنوانِ التخلّصِ من حركة “حماس” وخلق المنطقة الآمنة المطلوبة كهدفٍ أوّلي بالطبع، ودفع السكان نحو جنوبِ القطاع لمُحاصَرتهم وبالتالي العمل على خَلقِ الظروفِ الضاغطة لتهجيرهم لاحقًا من جهة اخرى. يُظهِرُ هذا العدوان المُتَصاعِد حَجمَ المأساة التي يعيشها أهل غزة من جهة، وحجم المأزق الإسرائيلي من جهةٍ اخرى من حيث عدم القدرة على تحقيق الأهداف المُتَوَخّاة والمُعلَنِ عنها في حربِ الإخضاع والإلغاء التي أطلقتها إسرائيل. أهدافٌ استراتيجية صعبة التحقيق تترك تداعياتها ايضًا على كافة جوانب الوضع في الدولة العبرية إذ سيُعاني الاقتصاد الاسرائيلي من ركودٍ قوي نتيجةَ انهيارِ الاستثمارات الخارجية والخسائر الكبيرة التي أصابت القطاعات الاقتصادية الأساسية في البلاد في حربٍ تبدو مفتوحة في الزمان، وقد تتوسَّعُ في المكان. ويرى أكثر من اقتصادي إسرائيلي أنَّ السنة المقبلة ستكون سنة قاتمة على هذا الصعيد .

عَدَمُ القُدرَةِ على تحقيقِ هدفِ إخضاعِ قطاع غزة كُلّيًا يُرَجِّحُ سيناريو دخول إسرائيل في حربٍ طويلة أو مُمتَدَّة في القطاع، الأمرُ الذي يدلُّ على حجمِ المأزقِ الذي وضعت إسرائيل نفسها فيه. لجوءُ الأمين العام للأُممِ المتّحدة أنطونيو غوتيريش لاستعمالِ صلاحياته الخاصة الذي تمنحه إياها المادة ٩٩ من ميثاق الأُمم المتحدة لتنبيه مجلس الأمن إلى الخطر الذي يُهدّدُ السلم والأمن الدوليين لم يمنع الولايات المتحدة من استعمال حق النقض (الفيتو) للإطاحة بمشروع القرار الذي دعا إلى “وقفِ إطلاق نارٍ إنساني فوري”. وللتذكير، إنَّ هذه الخطوة قد استُخدِمَت مراتٍ قليلة في تاريخ المنظمة الدولية في الحالات التي وَجَدَ فيها الأمين العام للمنظمة أنَّ هناكَ أزمةً حاملةً لتهديداتٍ كبيرة غير عادية إذا لم يتم احتواؤها، كما حدثَ في العام ١٩٨٩ بشأن لبنان وحِدّةِ الأزمة وتداعياتها الخطيرة التي كان يعيشها حينذاك.

البعضُ يقولُ أنَّ واشنطن قد أعطت إسرائيل فترةً زمنيةً مُحَدَّدة، هناكَ خلافٌ حول مُدّتها بين أصحاب هذا الرأي، قارَبَت على نهايتها لإنهاءِ العملية العسكرية بحجمها وقوّتها والتي لا يمكن أن تستمرَّ بهذا الشكل. وبَعدَها سيجري العملُ على بلورةِ تسويةٍ يجب أن تحفظَ ماءَ الوجهِ للسلطة في إسرائيل، وإن تحقّقَ لها أبرز أهدافها في إضعافِ ومُحاصَرة وتَهميش دور “حماس” وإخراجها من اللعبة إذا لم يكن من المُمكن كما هو واضحٌ التخلّص منها كُلّيًا، كما أعلنت إسرائيل عن ذلك في اليوم الأوّل للحرب. الدَعمُ الأميركي لإسرائيل والموقفُ الذي يُراوِحُ بَينَ الدَعمِ والتَفَهُّمِ الآخذِ بالتراجعِ ببطءٍ وبسرعاتٍ مُختلفة عند مُعظم وليس كل القوى الأوروبية، ساهمَا، ويُساهِمُان، في تعزيزِ سياسة التشدّد الاسرائيلي. لكن ضغوطات الرأي العام الدولي ومخاطر انفجار الوضع بشكلٍ كبيرٍ بأشكالٍ مختلفة في المنطقة من بوّابة غزة تساهمان في بدايةٍ ما زالت خجولة عند هذه القوى المؤثّرة بالموقف الاسرائيلي للدفعِ باتجاهِ وقفِ الحرب تحت عناوين مُختلفة من أهمّها هدنة انسانية مفتوحة يجري تعزيزها مع الوقت وذلك تلافيًا لاستعمالِ تَعبيرِ وَقفِ إطلاقِ النار.

يتواكبُ ذلك مع ازديادِ سياساتِ تهويد الضفة الغربية على صعيدَي الديموغرافيا والجغرافيا من خلالِ مُصادَرَة الأراضي تحت عناوين مختلفة، منها إحداثُ تواصُلٍ جغرافي بين المستوطنات، وكذلك إقامة بؤرٍ استيطانية زراعية جديدة وتصعيدٌ واضحٌ في سياسات ترهيب السكان الفلسطينيين عبر أعمالِ العنف التي يقوم بها المستوطنون الذين تدعمهم القوى الأمنية في هذا الشأن، الأمرُ الذي يُهدّدُ بانفجارِ الوَضعِ في الضفّة الغربية في أيِّ لحظة .

وفي سياقِ هذه التطورات بدأت إسرائيل بإعادةِ إثارةِ موضوع استكمال تطبيق القرار ١٧٠١ الخاص بلبنان عبر إخلاء المنطقة الواقعة بين حدودها الشمالية ونهر الليطاني من أيِّ قوةٍ مسلَّحة غير الجيش اللبناني وقوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان “يونيفيل” تحت عنوان عدم العودة الى الوضع الذي كان قائمًا قبل السابع من تشرين أول (أكتوبر). الوَضعُ الذي كانت تُنَظّمه قواعد الاشتباك التي تبلوَرَت بعد عدوان صيف ٢٠٠٦. طبعًا الردُّ من قبل لبنان الرسمي، وكذلك “حزب الله”، يعتبرُ أنَّ إسرائيل لم تحترم تنفيذ القرار ١٧٠١ في كافةِ جوانبه، ومن الأمثلة على ذلك اختراق الطيران العسكري الإسرائيلي للأجواء اللبنانية بشكلٍ مُتكرّر، والهجوم على سوريا عبر الأجواء اللبنانية، إلى جانب كاميرات المراقبة على الحدود المُوَجَّهة نحو كافةِ مناطق جنوب الليطاني. أضف أنَّ هنالك مشكلةَ النقاطِ الثلاث عشرة الحدودية الخلافية والتي يُفتَرَضُ تسويتها، وضرورة الانسحاب من شمال الغجر وتلال كفرشوبا، وهي مناطق لبنانية، إلى جانب الانسحاب من مزارع شبعا رُغمَ أنَّ الأُمم المتحدة لا تعتبرُ أنها تخضع للقرار ٤٢٥ الخاص بلبنان. كما إنَّ استراتيجية “وحدة الساحات” لتي أعلنَ عنها “حزب الله” في بداية العدوان على غزة تُساهِمُ أيضًا في زيادة التعقيدات حول صعوبة العودة إلى الوضع الذي كان سائدًا قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر) .

ومن الواضح أنَّ المطلوبَ بدايةً هو التوصّلُ إلى وِقفٍ لإطلاقِ النار في غزة قبل البحث الفعلي والجدّي ببلورة “قواعد اشتباك جديدة” على الحدود اللبنانية-الإسرائيلية. قواعدٌ تأخذُ بعين الاعتبار المُتَغَيِّرات التي أحدثتها حربُ غزة في الجبهات المشتعلة، عندما  تتوقف هذه الحرب. مُتَغَيِّراتٌ تدلُّ على الترابطِ الفعلي والجديد في بعض أشكاله وفي إدارته بين جَبهَتَي غزة والجنوب اللبناني مرورًا بجبهة الضفّة الغربية .

وإلى حين التوصّلِ إلى ذلك، أي وقف الحرب في غزة، ستبقى كافةُ الاحتمالاتِ قائمة بشأنِ جبهات القتال رُغمَ اختلافِ حدّة هذه الحروب وطبيعة إدارتها، وستبقى المنطقة على صفيحٍ ساخنٍ وقابلة لحدوث سيناريوات مستقبلية مختلفة، وذلك رُغمَ الضغوطات الدولية لمنع حدوث حرب مفتوحة على الجبهة اللبنانية.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى