الإقتصادُ العالمي في 2024 إلى أين؟

كابي طبراني*

كانت الأجندة الاقتصادية العالمية مُزدَحِمة في العام 2023. في تموز (يوليو) كان هناك منتدى الأمم المتحدة السياسي الرفيع المستوى، المُخَصَّص لرَصدِ التقدّمِ نحو أهداف التنمية المُستدامة. في أيلول (سبتمبر) عُقِدَت القمّة الثانية لأهداف التنمية المُستدامة، كما انعقدت قمة مجموعة العشرين في نيودلهي، وتلتها في تشرين الأول (أكتوبر) الاجتماعات السنوية للبنك الدولي وصندوق النقد الدولي في مراكش. وفي تشرين الثاني (نوفمبر)، اعتمدت الأمم المتحدة قرارًا مهمًّا بشأن التعاون الضريبي الدولي، كما اجتمعَ زعماءُ العالم في دبي لحضور مؤتمر الأمم المتحدة السنوي لتغيّر المناخ (كوب 28) الذي يختتم أعماله في 12 كانون الأول (ديسمبر).

أحدُ الدروسِ الواضحة المُستَفادة من هذه الاجتماعات حتى الآن هو أنَّ العالمَ يَستغرِقُ وقتًا طويلًا للغاية لتحقيقِ أهدافِ التنمية المُستدامة، وخصوصًا القضاء على الفقر وضمان الأمن الغذائي، وإحراز تقدّمٍ ملموس في مكافحة تغيّر المناخ. وهناك سببٌ آخر هو أنَّ الاقتصادَ العالمي يُواجِهُ صنّاعَ السياسات بمخاطر متعددة: في العام 2022، أدّى ارتفاعُ التضخّم إلى ارتفاعاتٍ سريعة في أسعار الفائدة في العديد من البلدان، الأمر الذي أدّى، إلى جانب ارتفاع الدين العام، إلى الحدِّ من قدرة الحكومات على استخدامِ سياسةٍ مالية توسّعية لمُواجَهةِ تباطؤ النمو. وعلى الرُغمِ من انخفاضِ التضخّم، فإنَّ أسعارَ الفائدة المُرتَفِعة وتباطؤ النمو ما زالا مُستَمِرَّين.

من بين التدابير التي تمَّ اقتراحُها في اجتماعاتِ هذا العام وحولها، تَبرُزُ ثلاثة. أوّلًا، لا بدَّ من توسيع تمويل التنمية الدولية بشكلٍ كبير. ثانيًا، تحتاج البلدان النامية إلى المزيدِ من الدَعمِ لتَمكينها من المساهمة في توفير السلع العالمية، وبخاصة مكافحة الأوبئة العالمية وتغيّر المناخ، وإدارة التأثيرات المُترتّبة على الاضطرابات الاقتصادية الدولية. وثالثًا، لا بدَّ من تقديمِ شكلٍ ما من أشكالِ التخفيفِ للبلدان المُعَرَّضة لخطرٍ كبيرٍ نتيجةَ ضائقة وأزمة ديون، وهي مجموعةٌ تضمُّ ما لا يقل عن ثلث الاقتصادات النامية.

لم يَتِمّ اتخاذُ سوى القليلِ من القرارات بشأنِ كيفيّةِ تَحقيقِ هذه الأهداف، ولكن يبدو أنَّ الإجماعَ قد بدأَ في الظهور حول بعض الأفكار. ويتعيّن على بنوك التنمية المُتَعَدّدة الأطراف، بشكلٍ خاص، أن تتحرَّكَ إلى ما هو أبعد من دورها التقليدي المُتَمَثّل في دَعمِ المشاريع الاستثمارية في البلدان النامية في مجالات التنمية الاجتماعية والبُنية الأساسية، لتعزيز المنافع العامة العالمية. وتتطلَّبُ هذه الأخيرة تمويلًا مُيَسّرًا، بما في ذلك للبلدان المتوسّطة الدخل واستثمارات القطاع الخاص التي تدعمها هذه المؤسّسات.

علاوةً على ذلك، تحتاجُ البلدان المُثقَلة بالديون إلى الوصولِ إلى خطوط ائتمان مُصَمَّمة حديثًا، وربما تعليق خدمة الديون، بل وحتى خفض التزاماتها في أوقاتِ الأزمات. وإلى جانب بنوك التنمية المتعدّدة الأطراف، يتعيّن على صندوق النقد الدولي أن يُساهِمَ من خلالِ آلياتِ تمويلٍ خاصة مثل صندوق المرونة والاستدامة، والصندوق الاستئماني للنمو والحدّ من الفقر، والذي تم إنشاؤه لتمويل البلدان النامية باستخدام حقوق السحب الخاصة غير المُستَخدَمة لدى البلدان المُتقدِّمة (الأصول الاحتياطية للصندوق). ومن الممكن إنشاء صناديق مُماثلة لتوجيه حقوق السحب الخاصة غير المُستَخدَمة إلى البلدان من خلال بنوك التنمية المُتعدّدة الأطراف.

يَتَعلّقُ بعض المقترحات الأكثر إثارة للاهتمام بإصلاح البنك الدولي. أحَدُ العناصر الرئيسة في خارطةِ طريقِ التطوّر الخاصة بالمؤسسة يتمثّل في تعزيز قدرتها المالية باستخدام رأس المال الحالي، وربما استكماله بموارد من مؤسّساتٍ خاصة، واستخدامٍ أكثر نشاطًا لضمانات الائتمان.

ولكن، هناك مشكلتان في هذه المقترحات. أوّلًا، إنها تتطلّب مواردَ كبيرة. وإذا كان للمؤسّسات الدولية أن تَعمَلَ على زيادةِ دَعمِها للبلدانِ النامية والمتوسّطة الدخل التي تمرُّ بأزمات، والمُساهَمة في تحقيقِ المنافع العامة العالمية، فلا بدَّ وأن يدفعَ أحدهم المال. لكنَّ البلدانَ ذات الدخلِ المُرتَفِع تعجزُ عن تحقيقِ أهداف مساعدات التنمية الرسمية التي حدّدتها الأمم المتحدة قبل نصف قرن من الزمان، وكثيرًا ما فشلت في المساهمة بالقدرِ المُتَوَقَّعِ في الصناديق الخاصة. لذا، سوف يكون إقناعها بتمويل هذه المبادرات الجديدة أمرًا صعبًا، على أقل تقدير.

المشكلة الثانية هي أنَّ زيادةَ رَسملة بنوك التنمية المُتَعدِّدة الأطراف لن تتسنّى إلّا بدَعمٍ من أصحابِ المصلحة المُهمّين، مثل الولايات المتحدة. هناك أصلًا الكثير من الجَدَلِ حولَ رأس المال، أو “الحصص”، في كلٍّ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. والدعواتُ المُطالِبةُ بزيادةِ الحصص، وبالتالي النفوذ من الاقتصادات الناشئة، وخصوصًا الصين، قوبلت بمقاومةٍ كبيرة في البلدان الغنية. وهناك الآن اقتراحٌ بزيادةِ حصصِ صندوق النقد الدولي بنسبة 50 في المئة، مع منح المجلس التنفيذي مهلة حتى العام 2025 لتطويرِ المَزيدِ من الأساليب لإصلاح الحصص. ولا يوجد اتفاقٌ حتى الآن بشأنِ رسملة البنك الدولي.

عندما يتعلّقُ الأمرُ بالديون، لم يَتِمّ اتخاذُ أيّ قرارٍ تقريبًا. كل ما تمَّ تحديده في الاجتماعات السنوية لصندوق النقد الدولي والبنك الدولي هي الحاجة إلى المزيد من المناقشة. ولم يُقدّم إعلان القادة الذي انبثقَ عن قمة نيودلهي أكثر من مُجرّدِ تأكيدٍ على التزام مجموعة العشرين بالالتزامات التي تمَّ التعهّدُ بها في الإطار المشترك لمعالجة الديون بما يتجاوز مبادرة تعليق خدمة الديون.

وقد تُرِكَت مسألة ما إذا كان ينبغي مَنحُ بعض البلدان الضعيفة ذات الدخل المتوسّط إمكانيةَ الوصولِ إلى الإطار المشترك، الذي تمَّ إنشاؤه في العام 2020 لمساعدة البلدان المُنخَفضة الدخل التي تُعاني من ديونٍ لا يمكن تحمّلها بسبب جائحة كوفيد-19، من دون إجابة. وفي كل الأحوال، أثبتت الآلية حتى الآن عدم فعاليتها، بسبب التأخير في المفاوضات مع الدائنين ومخاوف المدينين من تضرّرِ تصنيفاتهم الائتمانية.

أما بالنسبة إلى التعاون الضريبي الدولي، فإنَّ الاتفاقات التي تمَّ التوصّل إليها في العام 2021 في الإطار الشامل لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لا تزال تنتظرُ التنفيذ. ونظرًا للفوائد الضعيفة التي قد تعود على البلدان النامية من هذا الإطار، فقد تقدّمت المجموعة الأفريقية في الأمم المتحدة بقرارٍ لإنشاءِ لجنةٍ حكومية دولية لصياغةِ الشروطِ المَرجَعية لاتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التعاون الضريبي. تمت الموافقة على القرار في تشرين الثاني (نوفمبر) بفارقٍ كبير، لكنَّ الانقسامَ بين الدول النامية والمُتقدِّمة، حيث صوَّتت الأخيرة ضده، باستثناء النروج التي امتنعت عن التصويت، سيُحدّد السياقَ لمزيدٍ من التطورات في العام 2024، عندما ستكون المفاوضات بين مجموعتَي الدول الأعضاء ضرورية.

إن معالجةَ التحدّيات التي يواجهها العالم، من الديون إلى تغيّرِ المناخ إلى تحصيل الإيرادات الضريبية الكافية، سوف تكون صعبة في أفضل الأوقات. لكن التوقعات الاقتصادية العالمية بعيدة كل البعد من أن تكون وردية. يتوقع صندوق النقد الدولي أن يكون النمو العالمي مُنخفضًا في العامين 2023 (3%) و2024 (2.9%)، مُقارنةً بنسبة 3.7% سنويًا في العقد الذي سبق الجائحة، في ظلِّ معاناة كلٍّ من البلدان المُتقدّمة والنامية. وبينما يبدو أنَّ التضخّمَ يتراجع، يوصي صندوق النقد الدولي بأن تتخذ البنوك المركزية نهجًا حذرًا في التعامل مع أسعار الفائدة، ولا تُخفِّضها إلّا عندما يكون التضخّمُ تحت السيطرة الكاملة. وهذا لا يبشّرُ بالخير بالنسبة إلى النمو.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى