غزَّة في خَاصِرَةِ الوَعي

رشيد درباس*

يبدو أّننا نُجابِهُ أصعبَ شعوبِ التاريخ
الكاتب الإسرائيلي آري شافيت (هآرتس)

يَحتَدِمُ النقاشُ في المحافلِ العربية والدولية حول شَكل الحكم في غزّة بعد وقف العدوان والتدمير، فتَتَعَدَّدُ الاقتراحات وتَكثُرُ المشاريع، فيما لا يزال الصراعُ غير معروف النتائج، بعد إذعان إسرائيل للتفاوض العملاني مع “حماس”، في ظلِّ تعثّرِ الأعمال العسكرية وتقصيرها حتى الآن عن إنجازِ الأهدافِ المُعلَنة، وأوّلها استئصال حركة ” حماس”، بما يعني أنَّ الميدانَين العسكري والسياسي ما زالا يزخران باحتمالاتٍ يصعب التنبّؤ بها منذ الآن.

وعليه، فإنَّ ما يَهُمُّ ليس إنفاق الوقت بالتحليل والتوقّعات، بل ضرورة الانخراط  في مواكبةِ الأحداث والتأثير فيها على كلٍّ من الصَعيدَين الفلسطيني والعربي واستطرادًا اللبناني.

أبدأ بالقول إنَّ هدفَ اجتثاثِ “حماس” قد صارَ مُستَحيلًا، لأنَّ عمليةَ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) قد أكسبتها نفوذًا سياسيًا كبيرًا تخطّى حدودَ فلسطين وترسّخ في الوجدان العربي العام،  بغض النظر عما ستؤول إليه نتائج المعارك العسكرية، فالمرحلة المقبلة لن تكونَ محكومةً بالميزان الحربي، بل ستتشكّل وفق المتغيّرات في فلسطين وبلاد العرب، والرأي العام العالمي؛ لقد كان الأمين العام للأُمم المتحدة أنطونيو غوتيرتش أوّلَ الشجعان، لكن انتفاضة المواطنين العاديين في لندن والعاصمة الأميركية والعواصم الأوروبية، ونخوة الحكومات في أميركا اللاتينية وأوروبا وأفريقيا، أمورٌ أعادتنا للزمان الذي عبرت فيه الجيوش العربية إلى المعركة في السادس من تشرين الأول/ أكتوبر قبل خمسين عامًا، حيث أوقف الملك فيصل بن عبد العزيز ضخّ النفط، ووقفت العرب خلف الجنود الشجعان الذين كسروا هَيبة التفوّق، وها هي “حماس” تكسرُ هذه الهَيبة مرّةً أخرى بوسائل قليلة وحنكة هائلة، فحصدت  القضية الفلسطينية في ساعاتٍ معدودة، ثمار صبرها وعنادها ورفضها للتكيّف مع الاحتلال. كان ذلك عملَ فصيلٍ واحد، لكن نتائجه أضخم بكثير من قدرة هذا الفصيل على امتلاكه والاستئثار به، فقد صارت وقفًا قوميَّا عامَّا، لا وقفَّا حزبيَّا، مَهَرَهُ الواقفون بدمائهم، وقالوا لفلسطين هذا خراجك الثمين، فَوَظِّفيه في استثمارٍ حصيف.

ملاحظةٌ أُخرى يجب التوقّف عندها وهي الموقف العربي الذي تجلّى برسالةِ ولي العهد السعودي، الأمير محمّد بن سلمان، القطعية الدلالة والتي تُعلِنُ بوضوح أنَّ الكيان الإسرائيلي ليس له ممرٌ إلى دنيا العرب طالما بقي الاحتلال واستمرّ.

هذه الرسالة تزامنت وتآلفت مع موقفِ كلٍّ من الرئيس عبد الفتاح السيسي والملك عبدالله الثاني برفضهما الصارم لأيِّ تهجيرٍ من قطاع غزة، إلى درجة أن الرئيس المصري صنَّفَ الأمرَ بمثابةِ إعلانِ حرب؛ إنَّ تلكَ المواقف وضعت حدَّا للاسترخاء الإسرائيلي الذي ظنَّ أنه يتَفَشَّى بيسرٍ لدى الأقطار العربية، فثبت بالملموس أن التطبيع فشل منذ “كامب دايفيد” بل إنَّ الشعورَ بالنقمة أصبح سائدًا في كلِّ نفسٍ عربية. وكذلك، وبغضِّ النظر عن نتائج القمة العربية والاسلامية، فلقد كانت للمشهدِ قيمةٌ عالية وتأثيرٌ لا يُنكَر.

أما العامل الذي لم يتأخّر كثيرًا  فهو ردود الفعل التي انطلقت من لندن وواشنطن، وعَمّت أوروبا، شعوبًا وحكومات، فنَقَلَ إسرائيل، في  أيامٍ قليلة، من ضَحيّةٍ يتعاطَفُ الكون معها، إلى مجرم حرب تنبذه الإنسانية، الأمر الذي جعل الرئيس الأميركي جو بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن الذي يعتزُّ بيهوديته على العودة إلى حلِّ الدولتَين في كلِّ خطاب وكلِّ لقاء. ولعلَّ من اللافت أن “الواشنطن بوست” نشرت تحقيقًا مُطَوَّلًا عن ارتباك الرئيس الأميركي، والخلاف في صفوف موظّفي البيت الأبيض الذين لم  يعد معظمهم قادرًا على السكوت عن مشاهد المسلخ  الذي استمر خمسين يومًا.

ومن النتائج الإيجابية، أنَّ لغةَ “حماس” السياسية تتَّخِذُ سمتًا واقعيًا يصعب معه على إسرائيل استبعادها بتهمتَي الإرهاب والتطرّف، إذ استطاعت أن تديرَ مع الوسيطَين المصري والقطري مفاوضات عقلانية، وأجبرت كلًّا من أميركا وإسرائيل على الاعتراف بأنها أمرٌ واقعٌ لا يُمكن تخطّيه، وهذا يقتضي، فورًا، وبلا أيِّ تأخيرٍ وبالتوازي مع المعارك، فتح حوار ثنائي، بلا وسطاء، مع منظمة التحرير الفلسطينة بهدف الخروج بمطالب وطنية مُوَحَّدة  تمنع إسرائيل وأميركا من اللعب على التناقضات، والنفاذ من الثغرات، على غرار ما حدث طوال السنين العجاف الماضية.

نُضيفُ إلى ما تقدّم، الموقف الإيراني الذي أخذ بعين الاعتبار مدى استعداد أميركا للتدخّل، بدليل حاملات الطائرات والبوارج والمواقف، فزاوج بين الحذر المحمود، والتصلّب المَعهود، وراحَ يتحرّك بين حَدَّين في منطقةٍ يشوبها خطر الألغام التي تحاول تفاديها.

بالتزامن مع هذا، طفا القلقُ الإسرائيلي الشعبي على السطح، وشكّلت مسألةُ الرهائن عُنصرَ ضغطٍ على الحكومة والجيش، وتضعضع موقف نتنياهو بما يشير إلى قرب تقاعده، وبدأت النُخَبُ الإسرائيلية تتجرّأ على الجهر بعبثية الاحتلال وقمع الفلسطينيين جيلًا بعد جيلٍ.

أردتُ من كلِّ ما تقدّم، أن أذكر بعددِ المُبادراتِ والفُرَص التي أحبطتها إسرائيل، لأنها (دار حرب) وتخشى السلام. وفي كل مرة، كانت تنفذ من ثغراتِ الخلافات العربية والاتصالات المباشرة، لكن عشرين ألفاً من شهداء أهل فلسطين،  بحسب آخر أرقام العدّاد الدموي، يستحقّون منا مراكمة الإيجابيات لكي يدخل العرب، وعلى رأسهم الفلسطينيون في الحوارات القائمة لاستثمار الحالة الجديدة التي قد لا تتكرّر إلّا بعد سنين كثيرة وشهداء أكثر.

أما لبنان الذي يجاور النار فتلسعه بأعزِّ أبنائه، فالأمرُ فيه غاية الغرابة، لأنَّ “حزب الله” مهما حاول ضبط قاعدة الاشتباك، فإنَّ قرارَ الحرب ليس مرهونًا بموقفه، بل بالنِيّةِ الإسرائيلية التي لم يكفِ “نتنياهو” وساسة إسرائيل والقادة العسكريون عن إعلانها بإرجاع لبنان إلى العصر الحجري. ورُغمَ ذلك  نجد القوى السياسية فيه، وفي الصدارة منها فريق المُمانَعة، لا يعيرون انتباهًا إلى أنَّ التهديدَ الإسرائيلي يجد فرصته السانحة في تحلّلِ الدولة وتشتّتِ المسؤوليات، والتباس الحالة الشعبية. وبعبارةٍ أُخرى، إذا كانت المقاومة قد أعدّت للأمرِ عدّته لجَبهِ العدوان العسكري، فمَن هم الذين يقفون في الصفوف الخلفية -في هذا الهامش المُتبَقّي- للتموين والتذخير والطبابة والإيواء؟ هل هي الدولة التي يُعَوِّدوننا أن تكونَ بلا رأس، أم هو الجيش الذي يصرّون على قطع رأسه، أم النظام المصرفي المشلول، أم التضخّم الذي يلتهم الأخضر واليابس، أم هو الموقف “الشعبي المُوَحَّد” حيث يُغَنِّي كلٌّ منا على ليلاه؟ ورُغم هذا، فقد شاهدنا إيجابية كبرى بزيارة سماحة نائب رئيس المجلس الشيعي الأعلى لبكركي،  ونوع الكلام المُتبادَل والمُتناغِم، وما فيه من دقِّ نواقيس الإنذار للحضرة السياسية “المحترمة”. كما إنَّ اللبنانيين، بغالبيتهم المُعادية لإسرائيل والمُتعاطفة مع أهلِ فلسطين، حريصون جدًا على وحدتهم الوطنية وعلى مكوّناتها، فكلُّ فئةٍ جُزءٌ من النسيج، وكذلك كل طائفة، أما ما يعتري بعض النخب المسيحية، لا سيما المارونية، بأنهم، لعِلّة استشراءِ حالات الشغور، صاروا في عرف فرق الممانعة والتمنع، من قبيل لزوم ما لا يلزم، فمردودٌ عليه بمواقف غبطة البطريرك بشارة بطرس الراعي وسيادة المتروبوليت الياس عودة، لأنهم قبل هذا وبعد ذاك، ما زالوا جوهر اللزوميات، ومدماكًا أساسًا في بنية الدولة الأولى، فإذا أحسّوا بالتهميش ونزع بعضهم “للطلاق”-كما يتردّد- فحَرِيٌّ بكلِّ طائفة أن تستشعرَ الخطر، وحَرِيٌّ بالعَلَمِ اللبناني أن يرتعشَ وَجَلًا من احتمالِ سقوطِ أرزته من البياض المُسَيَّج بِخَطَّيْ دم.

إن السابع من تشرين الأول (أكتوبر) استعادَ وحدةَ الكلمة، ويجب أن يُستَتبَعَ بالمُقارباتِ المؤتلفة، خاصةً وأنَّ سلامَ فلسطين، هو سلامُ العرب، وسلامُ لبنان.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى