لماذا يَنهارُ نظامُ الأسد بهذه السرعة؟
بينما لم يكن أحدٌ ينظر أو ينتبه والعالم يُركّز إهتمامه على تحدياتٍ أخرى، كان النظام السوري يتدهور ويتلاشى بشكلٍ متزايد.
تشارلز ليستر*
منذ الأسبوع الفائت، أصبح مستقبل نظام بشار الأسد موضع تساؤل وحيرة.
لقد شنَّ تحالفٌ من فصائل المعارضة المسلّحة هجومًا في شمال سوريا، واستولى على نحوِ 250 مدينة وبلدة وقرية، وضاعفَ مساحة الأراضي الخاضعة لسيطرته بأكثر من الضعف. وتمّ الاستيلاء على ثاني أكبر مدينة في سوريا حلب في غضون 24 ساعة (قبل أن يُسيطرَ على مدينة حماه اليوم (5/12/2024))، بينما انهارت خطوط جبهة النظام السوري واحدة تلو الأخرى. بَعدَ ما يقرب من خمس سنوات على تجميد خطوط السيطرة الإقليمية في جميع أنحاء البلاد، فإنَّ هذه التطوّرات تُعتَبَرُ دراماتيكية ومُغَيِّرة لقواعد اللعبة.
مع ذلك، لا ينبغي أن تكون هذه التطوّرات مفاجئة كُلّيًا وبالكامل. إنَّ الأسد لم “يربح” حقًا في الحرب الأهلية التي اجتاحت بلاده، كما إن حكمه كان يضعف منذ بعض الوقت. وأصبح وضعه أكثر ضُعفًا من أيِّ وقتٍ مضى.
لسنوات، كانت الحكمة التقليدية في التعامل مع الأزمة السورية تقضي بأنَّها أزمةٌ مُجمّدة، وأنَّ الأعمال العدائية أصبحت شيئًا من الماضي، وأنَّ نظامَ الأسد هو المُنتَصِرُ الحتمي. مع ذلك، تضاءلَ الاهتمام الدولي، وانتهت تقريبًا الديبلوماسية التي تُركِّز على سوريا، وبدأت الحكومات الأجنبية تدريجًا تحويلَ مواردها بعيدًا من السياسة التي تستهدف سوريا إلى تحدّياتٍ عالمية أخرى. وفي الوقت نفسه، ومع تَفاقُمِ الأوضاعِ في سوريا، اتخذت الحكومات العربية خطوةً لإعادةِ التعامُلِ بشكلٍ جماعي مع الأسد بدءًا من العام 2023، ما أدّى فعليًا إلى تطبيع وضعه في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
بالنسبة إلى صنّاع السياسات في الولايات المتحدة، كانت حقيقةُ أنَّ الجهاتَ الفاعلة الإقليمية بدت وكأنّها تتولّى مسؤولية ملف سوريا علامةً مُشجّعة ومصدرَ ارتياح. في الآونة الأخيرة، ونتيجةً لمُعارَضتها سياسة الاتحاد الأوروبي في عزل الأسد والإيمان بانتصاره المؤكّد، انضمّت مجموعةٌ من عشر دول أوروبية، بقيادة إيطاليا، وعملت معًا لإعادة التواصل مع نظام الأسد واستكشاف سُبُلٍ للديبلوماسية وعودة اللاجئين إلى سوريا.
كانت كلُّ هذه التطوّرات مدعومةً بافتراضٍ مفاده أنه على الرُغم من سوءِ الظروف في سوريا، فإنَّ الأزمةَ نفسها كانت مُجمّدة ومُحتَوَيَة – وأنَّ الأسد نفسه لم يكن يعمل على تعزيز وضعه فحسب، بل كان يعمل على ترسيخه أيضًا. لقد كان هذا الافتراض في غير محلّه.
كان الاقتصادُ السوري في حالةٍ سيئة يُرثى لها منذ سنوات. عندما أدّى وقفُ إطلاق النار الذي اتفقت عليه تركيا وروسيا -اللتان تدعمان الجانبين المُتعارِضَين- إلى تجميدِ خطوطِ الصراعِ في أوائل العام 2020، كان الدولار الأميركي يساوي حوالي 1,150 ليرة سورية. عندما بدأ هجوم المعارضة قبل أسبوع، كان الدولار يساوي 14,750 ليرة سورية. في الرابع من كانون الأول (ديسمبر)، وبعد أسبوعٍ من تجدّد الأعمال العدائية، بلغ عدد القتلى 17,500 قتيل.
بدلًا من تحقيقِ الاستقرار في البلاد وتقديم بعض الراحة والطمأنينة للمدنيين السوريين بعد أكثرِ من عقدٍ من الحرب، تفاقمت الأزمة الإنسانية في سوريا منذ التوصُّل إلى الاتفاق في العام 2020، حيث أفادت الأمم المتحدة أنَّ ما لا يقل عن 90 في المئة من السوريين يعيشون الآن تحت خط الفقر. وفي حين أنَّ احتضانَ النظام للجريمة المنظّمة يجلب ما لا يقل عن 2.4 ملياري دولار من الأرباح كل عام من بيع نوع واحد فقط من المنشّطات الاصطناعية، فإنَّ أيًا من ذلك لم يساعد الشعب السوري. الواقع أنَّ إعانات الدولة على الوقود والغذاء خُفِّضت بشكلٍ كبير في السنوات الأخيرة.
لكن الأسد لم يَعُد لديه مَن يُنقذه من إفلاس الدولة. فقد تضرّرَ اقتصادُ روسيا بشدة من آثار حربها في أوكرانيا، واقتصاد إيران في حالة سيئة يُرثى لها أيضًا.
لم يَكُن لزامًا أن يكونَ الأمرُ على هذا النحو بالضرورة. لو كان الأسد انخرطَ بشكلٍ بَنّاءٍ مع الحكومات الإقليمية التي طَبَّعت علاقاتها مع سوريا في العام 2023، ولو كان تبنّى انفتاحَ تركيا على التطبيع في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، لكانت سوريا في مكانٍ مختلف بشكلٍ ملحوظ اليوم.
مع تفاقُم الأزمة الإنسانية في البلاد أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، وانخفاض إرادة العالم وقدرته على المساعدة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، كان الشعب السوري يُعاني ويتألّم. وبعد أن أدرك السوريون أنه لا يُوجَدُ ضوءٌ في نهايةِ النفق، بَدَؤوا العودة إلى الشوارع والمُطالبة بإسقاطِ الأسد.
وقبل أشهرٍ، بدأ مقاتلو المعارضة السابقون، الذين “تصالحوا” مع الحكومة بموجبِ اتفاقٍ قبل ست سنوات، تحدّي قوات النظام مرة أخرى – والفوز.
في الوقت نفسه، وفي ظلِّ الانهيار الاقتصادي الذي تعيشه سوريا، تسلّلت الجريمة المُنظّمة فضلًا عن إنتاج المخدرات والاتجار بها على المستوى الصناعي إلى قلب جهاز الأمن التابع للأسد. الواقع أنَّ نظام الأسد ربّما أصبحَ الآن أكبر دولة مخدرات في العالم ــ مُتخصّصة في إنتاج الأمفيتامين المعروف باسم الكبتاغون.
إنَّ تجارة المخدرات تُديرها الفرقة الرابعة النخبوية في سوريا (التي يقودها شقيق الأسد، ماهر)، لكن شبكتها امتدّت إلى كلِّ ركنٍ تقريبًا من شبكة الجيش والميليشيات الموالية في البلاد. مع ذلك، مزّقت الجريمة المنظّمة وأمراء الحرب ما تبقّى من تماسُكٍ داخل الدولة الأمنية السورية.
في الوقت نفسه، أدّت حربُ روسيا في أوكرانيا والأعمال العدائية الإقليمية التي دفعت إسرائيل لمهاجمة إيران وشبكتها من الوكلاء والعملاء منذ تشرين الأول (أكتوبر) 2023 إلى تحويلِ انتباه روسيا وإيران بعيدًا من الجهات الأمنية السورية اللصيقة. كانت قواتٌ من روسيا وإيران -وكذلك “حزب الله”- موجودة وحاضرة على خط المواجهة عندما بدأ هجومُ المعارضة في 27 تشرين الثاني (نوفمبر)، وتكبّدت جميعها خسائر مُبكِرة.
لكن مع وجود الجهات الفاعلة الخارجية على خطوط المواجهة، لم يكن هناك الكثير مما يُمكِنُ لأيٍّ من داعمي سوريا فعله للحفاظ على تماسُك قوات النظام السوري بينما كانت تتجه نحو الفوضى. لكن الهجوم لم يكن مُفاجئًا لأحد، نظرًا لأن خطط ميليشيا هيئة تحرير الشام كانت معروفة منذ منتصف تشرين الأول (أكتوبر)، عندما تدخلت تركيا في محاولةٍ لوقفها، ونفّذت روسيا أيامًا من الغارات الجوية المُكثّفة ردًّا على ذلك.
لقد أظهرت الأحداث الأخيرة أيضًا أنَّ ثماني سنوات من الاستثمار الروسي في إعادة بناء جيش نظام الأسد لم يكن لها تأثيرٌ يُذكَر في قدرته على القتال بفعالية تحت الضغط. ورُغمَ أنَّ جهودَ روسيا عزّزت بعض القدرات الفعّالة داخل وحداتٍ عسكرية مختارة، مثل فرقة المهمّات الخاصة الخامسة والعشرين، فإنَّ القوات المسلحة السورية ككل لا تزال غير مُوَحَّدة وتنسيقها ضعيف. وفي جميع النواحي تقريبًا، أُصيبَ الجهازُ العسكري للنظام بالركود في السنوات الأخيرة، حيث انهارَ من الداخل وتفكّكَ من الخارج. ويمكن القول إنَّ شبكةً غير واضحة المعالم من الميليشيات الموالية تُمثّلُ قدرةً عسكرية أعظم من الجيش نفسه. والقدرة النوعية الوحيدة التي أضافتها روسيا إلى جيش الأسد في السنوات الأخيرة هي استخدام الطائرات المُسَيَّرة الانتحارية من منظور الشخص الأول – ومع ذلك فقد تفوّقت عليها بشكل كبير من حيث الحجم والتأثير وحدة الطائرات المسَيَّرة التي كشفت عنها هيئة تحرير الشام أخيرًا والتي أطلقت مئات الأجهزة على مواقع النظام الأمامية والدبابات وقطع المدفعية وكبار القادة خلال الأسبوع الماضي.
وهذا يسلط الضوء على التناقُض الصارخ على الجانب الآخر من الخط، حيث عملت هيئة تحرير الشام وجماعات المعارضة المسلحة الأخرى بشكلٍ مكثّف منذ العام 2020 لتعزيز قدراتها الخاصة. وقد أنشأت هيئة تحرير الشام، على وجه الخصوص، وحدات جديدة تمامًا يمكن القول إنها غيّرت قواعد اللعبة على ساحة المعركة في الأيام الأخيرة. وكانت وحدة القوات الخاصة التابعة للمجموعة، والمعروفة باسم “العصائب الحمراء”، بمثابة رأس حربة العمليات النهارية، في حين حققت “سرايا الحراري” مكاسب كبيرة كل ليلة لمدة أسبوع، حيث كان كل مقاتل من مقاتليها البالغ عددهم حوالي 500 مقاتل يحملون أسلحة مجهّزة بمناظير الرؤية الليلية، وفقًا للمجموعة.
في حين نجحَ لواءٌ آخر من ألوية هيئة تحرير الشام يُعرف باسم “كتائب شاهين” في إخراج أسلحة ثقيلة للنظام عبر خطوط المواجهة، استخدمت المجموعة أيضًا صواريخ كروز محلية الصنع، والتي تعادل قوتها التفجيرية شاحنة مفخخة يقودها انتحاري. وبفضل أساطيل الطائرات المسَيَّرة الاستطلاعية في الجو على مدار الساعة طوال أيام الأسبوع، تفوّقت هيئة تحرير الشام وحلفاؤها الآخرون تمامًا على الجيش السوري.
بالتتطلُّع إلى المستقبل، يبدو أنَّ نظام الأسد يواجه معركةً شاقة ومُهَدِّدة له مع استمرار الهجوم الذي تقوده هيئة تحرير الشام في التحرك جنوبًا على محورين على الأقل في محافظة حماه بوسط البلاد. كما ألهم الافتقار الحاد لشعبية النظام في جميع أنحاء سوريا والتقدم الدرامي للمعارضة الفصائل المسلحة في جميع أنحاء البلاد للتعبئة واتخاذ الإجراءات. في درعا في الجنوب، وحمص في الوسط، ودير الزور في الشرق، تواجه مدن النظام والخطوط الأمامية العسكرية تحديات خطيرة.
في المرة الأخيرة التي اضطر فيها الأسد إلى التعامل مع تحدّياتٍ مُتعددة ومُتضافرة لسيطرته الإقليمية ــفي العام 2015ــ تمَّ دفعُ نظامه إلى نقطة الانهيار، واضطرت يومها روسيا إلى التدخُّل عسكريا لإنقاذه. اليوم، لا يبدو أنه سيكون هناك منقذٌ من هذا القبيل.
- تشارلز ليستر هو زميل أول ومدير برامج سوريا ومكافحة الإرهاب والتطرف في معهد الشرق الأوسط في واشنطن. يُمكن متابعته عبر منصة “إكس” على: @Charles_Lister
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورِن بوليسي” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.