أَكروبوليس أَثينا: هيبة، عبادات، حُضُور (1 من 2)

العلَم النازيُّ الـمُحتلّ على هضبة الأَكروبوليس

هنري زغيب*

لا نزال حتى اليوم نبحث في التاريخ عن معالِم خالدة في التاريخ الديني والدنيوي مدى العصور القديمة. فبعضها زال وانقرض لمعالِمه وأعلامه وعلاماته، والبعض الآخر ما زال ماثلًا أمامنا بكامل هيبته وحضوره، يروي للأجيال المتعاقبة أمجادًا من التاريخ القديم، خصوصًا ما يتعلق منها بالميثولوجيات التي وصلتْنا من الماضي حاملةً تلك العبادات التي انصرفَت لها، بعمْق وإِيمان، تلك الشعوب القديمة بطقوسها ومعابدها وهياكلها.

من تلك المعالِم الخالدة: أَكروبوليس أَثينا أُعالجه في هذا المقال من جزءَين متتاليَين.

المجمَّع الخالد

إِنه حصنٌ واسع مَهيب، جاثم عند تلَّة على منبسَط صخري فوق مدينة أَثينا (بعُلُوّ نحو 150م. وبمساحة نحو ثلث كلم مربع). وهو مجَمَّعٌ يضم بقايا أَبنية تاريخية قديمة ذات هندسة معمارية مذهلة الجمال الفني، أَجملُها مبنى “البارثنون” (معبد “أَثينا”= إِلهةُ الحكمة والحرب، وإِحدى 12 أُلوهة في الميثولوجيا اليونانية).

بقايا معبد البارثنون القديم في الأَكروبوليس

في التسمية

كلمة أَكروبوليس يونانية ذاتُ شقين: “أَكرو=”النقطة الأَعلى” و”پوليس”=مدينة، ما يعني: “أَعلى نقطة في المدينة”. ولها، في الزمن القديم، معنى آخر هو “سِيكْروپيا”، على اسم “سيكْروپْس” أَول الملوك الأَثينيين.

ورد في بعض المراجع القديمة أَن تلك التلة كانت مسكونة منذ الأَلف الرابع قبل الميلاد، وذكَرها القائد الأَثيني بيريكليس (495-429 ق.م.) في القرن الخامس (ق.م.)، ويشير إِلى أَن أَبرز ما في ذاك المجمَّع السَكنيّ الضخم: معبد البارثنون. تم تدمير أَجزاء من معظم أَبنية ذاك المجمع الضخم سنة 1687 عندما جيشُ البندقية حاصر أَثينا إِبان الحرب الموريّة، إِذ تمكَّن البندقيون من تفجير مخزن كبير كان الأَتراك جمعوا فيه الذخيرة (أُفصِّلُ لك في الجزء الثاني من هذا المقال).

البارثون في صورة حديثة (1978)

على لائحة التراث العالَمي

للتاريخ والحضارة والثقافة في اليونان حضور ساطع في العصور المتعاقبة. ففي تلك البلاد آثار وأَبنية تاريخية عريقة تشير إِلى هيبة الماضي الذي تتواصل حتى اليوم.

ولأَجل أَن تحافظ الدولة على ما لديها من كنوز تراثية، سجَّلَتْ لدى منظمة اليونسكو في باريس 18 موقعًا أَثريًّا تاريخيًّا، 16 منها ثقافي سنة 1987، واثنان سنة 1988 (صخور “ميتيورا” وجيل “آثوس”) وهما موقعان ثقافيَّان وطبيعيَّان معًا.

الأَشهر بين جميع هذه المواقع أَعلاه: أَكروبوليس أَثينا. يعتبره المؤَرخون، من حيث هندسته المعمارية والفنية، أَكبر مجمَّع في التاريخ القديم ما زال قائمًا حتى اليوم. نشَأَتْ أَبنيتُهُ في القرن الخامس (ق.م.) إِبان عهد الأَغارقة الذهبي حين ظهرت الديموقراطيا، وأَخذ القادة يشجِّعون التعليم والفنون، فاشتهر فترتئذٍ النحات والرسام والمهندس المعماري فيدياس (480-43- ق.م.) بأَعمالٍ ما زالت ماثلة حتى عصرنا الحاضر، منها تمثاله “زوس” الذي حلَّ بين عجائب الدنيا السبع.

الأَكروبوليس جاذب سياحي في قلب العاصمة

مهد الفلسفة والمسرح

يُعزى إِلى هذا الأَكروبوليس أَنْ كانت في رحابه وأَرجائه ولادةُ الفلسفة والمسرح والخطابة، وسائر ما شكَّلَ نهضة العالم القديم. وما زال الأَكروبوليس يستقطب سنويًّا آلاف الزوار كل يوم إِبان المواسم السياحية المتتالية من دون تَوَقُّف. ذلك أَنَّ ما فيه من جمالات يجتذب السياح والزوَّار من كلِّ العالم إِلى تلك التلَّة العالية المشرفة بأُبَّهةٍ على المدينة/العاصمة أَثينا، وهي تختزن فيها جميع عناصر الحضارة والميثولوجيا والتاريخ التي يكون السياح والزوار قرأُوا عنها في المراجع أَو شاهدوها في وسائل التواصل الإِلكتروني.

سوى أَنَّ للأَكروبوليس، عدا قيمته الجمالية والتاريخية والميثولوجية الخالدة، عناصرَ جاذبةً أُخرى، هنا أَبرزُها:

الأَكروبوليس منارةُ المقاومة ضد النازية

سنة 1941 كانت اليونان واقعة تحت احتلال هتلر. لذا نُصبَت، عند أَعلى الأَكروبوليس، ساريةٌ عليها العَلَم بالصليب المعقوف (شعار النازية). كان معظم اليونانيين ضدَّ هذا الاحتلال، وكانوا على غضب من ارتفاع السارية النازية على مَعْلَمٍ مُسالِمٍ من أَقدس معالم بلادهم. انطلاقًا من هنا، وبدافع وطني عالٍ ونبيل، قام الطالبان الجامعيَّان مانوليس غليزوس وأَبوستولوس سانتاس بمغامرة خطِرة على حياتهما: إِنزالُ تلك السارية. وبالفعل: تسلَّلا على غفلة من الحرَّاس النازيين، وأَنزلوا السارية والعلَم. وكانت مبادرتهما تلك تاريخيةً أَكثر منها شُجاعة، وسرى خبرُها في المدينة فسائر البلاد، ما شجع الكثيرين فترتئذٍ على الانتفاضة ضدَّ النازيّ المحتلّ.

تاريخ بناء الأَكروبوليس

تم بناء معظم مجمَّع الأَكروبوليس في القرن الخامس (ق.م.). ويُعتبر معبد البارثنون قلب ذاك المجمَّع. استنفد بناؤُه نحو 100 أَلف طن من الرخام الجميل، وتم نشْر وتقصيب القطع الرخامية في المكان ذاته، كي يسهُلَ نقْلُها إِلى البناء بها، حتى إِذا اكتمل بناء المبنى، أَصبح مرنى سكان المدينة وأَهلها والزوار والسياح، وما زال مرناهم منذ تلك العصور القديمة حتى اليوم.

تتمة عناصر الجذب إِلى الأَكروبوليس: في الجزء المقبل من هذا المقال.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى