مائية نادرة عن بيروت قبل 183 سنة

سهيل منيمنة*

بعد وقت قصير من وصوله إلى بيروت في 6 سبتمبر 1832، سار الشاعر الفرنسي الشهير لامارتين (1790-1869) من مكان إقامته المؤقت في حي مار مارون صعودًا إلى تلة مار متر على مرتفعات منطقة الأشرفية. ألقى نظرة طويلة على المدينة، ثم أخرج قلمه ومدوّنته وكتب: ” لطالما تخيّلتُ في طفولتي هذه الجنّة الأرضيّة، جنّة عدن التي تختزنها كل الأمم في ذاكرتها، إما حلمًا جميلًا، أو ناموسًا لزمان ومكان في غاية الكمال؛ تتبّعت خطى ميلتون (john Milton) في وصفه المبهج لسحر مكان إقامة أجدادنا الأوائل؛ غير أن الطبيعة هنا، كما في كل شيء، تتفوّق للغاية على الخيال. لم يمنح الله الإنسان القدرة على الحلم بهذا الشكل الجميل الذي صنعه. حلمت بجنّة عدن، وبوسعي القول أنني رأيتها [يقصد بيروت]”. (كتابه “رحلة إلى الشرق” 1832-1833).

بعد سبع سنوات قام دبلوماسي بلجيكي وفنان هاوٍ وعالم نبات يدعى بنجامين ماري Benjamin Mary بتلوين كلمات لامارتين الشاعرية عبر لوحة مائية بانورامية تحبس الأنفاس بروعتها، أتمها ووقعها في يناير 1839.

ولد الفنان سنة 1792 في مدينة مونس البلجيكية ودرس القانون في جامعة بروكسل. بعد مسيرة مهنية قصيرة في السياسة الداخلية، انتقل في يوليو 1832 أول قائم بالأعمال لدولته إلى البرازيل في ريو دي جانيرو لـخمس سنوات، ووقع باسم بلجيكا على معاهدة تجارية أبرمتها البرازيل مع الهولنديين سنة 1828، وظفر باستحسان الملك ليوبولد الأول وتنويه من الحكومة البرازيلية. وخارج أنشطته المهنية كان يمضي وقته في رسم مخططات خاصة بالنباتات. ويتم الاحتفاظ ببعض رسومه البرازيلية لدى مؤسسات عامة في البرازيل وأوروبا.

سنة 1839 انتقل أول سفير لبلجيكا في اليونان. وبين 1839 و1845 سافر ورسم في اليونان وألمانيا والجزر الأيونية وسوريا وليبيا وتركيا ومصر والبرتغال وإسبانيا. خلال تلك الفترة وضع  ملف Voyage en Grèce et en Orient وفيه  21 مشهدًا بانوراميًا، بينها 11 بالقلم الرصاص وأربعة باللون البني الداكن، وستة ألوان مائية بينها صورتان بانوراميتان لبيروت هي اليوم معروضة في معرض “بيروت 1840-1918: صور وخرائط” لدى متحف نابو (الهري – شمال لبنان).

توفي ماري في 2 آب/أغسطس 1846 في منتجع  بانير دو لوشون الفرنسي.

وضع ماري الصورتين البانوراميتين في يناير 1839، وهو تاريخ ولادة فن التصوير. وفيهما تفاصيل دقيقة للمباني الرئيسية التي تحيط بها الحدائق والبساتين الجميلة.

أكتفي في هذا المقال بإحدى اللوحتين، المرفقة بهذا المقال. ويظهر فيها من اليسار إلى اليمين: برج الشامية سنتينا ثم برج القلعة البحرية ثم برج تنكز (الشهير آنذاك ببرج البعلبكية) وجزء من برج المصلّى. وتبدو مئذنة جامع الأمير منذر خلف قيسارية الصاغة يليها مباني محلة الشيخ رسلان ومئذنة الجامع العمري الكبير. ثم تظهر سراي الأمير منصور عساف وباب السراي وجامع السراي (جامع الأمير عساف).

وتنقلنا اللوحة إلى مزارع منطقة الصيفي التي يبدو فيها برج أبو هدير (وهو غير برج أبو حيدر في منطقة المصيطبة). وفي الوسط تبدو المباني المطلة على ساحة البرج (معظمها خانات ومقاهٍ) وصولًا إلى برج الكشاف الشهير، وإلى يسار الناظر محلة القيراط (ساحة الدباس لاحقًا) ويبدو فيها برج زخور وبرج الأمير أسعد الشهابي (لاحقًا برج ناصيف فياض) وخان الكنفاني. وإلى شرق برج الكشاف تبدو مباني ما كان يعرف بدرب النهر (الجميزة ومحيطها) وفي الأعلى مزارع وبيوت منطقة الأشرفية.

في أسفل اللوحة يبدو بالأبيض الجزء الجنوبي من سور بيروت وفي أوسطه باب الدركه ومحلة الدركه. وفي الجزء الأيمن منطقة رأس النبع وفي طرفها الشمالي محلة الدحداح التي تضم برج دندن وبرج دعبول، وفي الجزء السفلي شواهد قبور مقبرة الباشورة.

  • سهيل منيمنة هو مؤسس/رئيس “جمعية تراثنا بيروت”

للإطلاع على تاريخ معالم بيروت القديمة الأخرى وأحداثها يمكن الرجوع إلى كتاب بدر الحاج وسمير مبارك في جزءين: “Beirut 1840-1918: A Visual & Descriptive Portrait”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى