البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية يشكّل تهديداً للحوكمة الإقتصادية العالمية
في 17 آذار (مارس) الفائت أعلنت فرنسا، وألمانيا، وإيطاليا بأنها ستشارك في البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية التي أنشأته بكين برأسمال 50 مليون دولار. تبع الثلاثي قرار بريطانيا للقيام بذلك، وسبق هذا إعلان أوستراليا وكوريا الجنوبية ومصر والإمارات العربية المتحدة والسعودية حيث بلغ عدد الدول التي تود الإنتساب إلى البنك الجديد 50 دولة.
وكانت واشنطن نصحت حلفاءها بالحذر بشأن الإنضمام إلى البنك الجديد حيث ليس من المتوقع أن تنضم إليه. وقد إعتُبِر الإندفاع من أصدقاء الولايات المتحدة إلى الإنتساب وأن يكونوا من الأعضاء المؤسسين بأنه “كارثة” لأميركا، حسب جيدون راتشمان في صحيفة “فاينانشال تايمز”، و”إهانة” لبلاد العم سام، حسب “ساوث تشاينا مورنينغ بوست”. إن الولايات المتحدة، أشار راتشمان، تبدو الآن “معزولة ومشاكسة”. يبدو أن عهد سيطرتها على الإقتصاد العالمي ينتهي تدريجاً. ولكن نظام الحكم المجزّأ لن يكون بديلاً ناجحاً.
لندن – محمد سليم
إن إعلان الولايات المتحدة عن إستيائها لبريطانيا في وقت سابق من هذا الشهر، لمشاركتها في البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية بقيادة الصين، قد سلّط الضوء على مجموعة من الأسئلة التي لاحقت واضعي السياسات والإقتصاديين لسنوات: من هو المسؤول عن الحوكمة الإقتصادية العالمية؟ من الذي يحدد ويدير القواعد؟ وهل ينبغي أن يتم تعيينها بطريقة متعددة الأطراف؟
نظراً إلى إقراض الصين المثير للجدل إلى بلدان ذات سجلات غامضة – ليس فقط من حيث الحكم الرشيد والإستقرار السياسي، ولكن أيضاً بالنسبة إلى التصنيفات الإئتمانية – فإن المخاوف بشأن إتجاه البنك الجديد والدور الذي سيلعبه جميع المساهمين سوف ستكون تحت المجهر. ولكن موقف الولايات المتحدة تجاه المؤسسة الجديدة والدور الذي يمكن أن تلعبه الصين فيها هو أيضاً دقيق وحساس وملح. مع موافقة الكونغرس الأميركي على إصلاح صندوق النقد الدولي لا تزال معلّقة، فهل تتمتع أميركا بوضع أفضل لتبشير الآخرين عن مخاطر إستخدام العفن الصيني لتشكيل البنك الجديد؟
فيما الدول النامية الكبيرة، لا سيما الصين، قد تحوّلت وتطورت في العقدين الأخيرين، كذلك كان الأمر مع الحوكمة الإقتصادية العالمية. ولكن الحوكمة تبدو أنها تتطور بوتيرة أبطأ بكثير من الإقتصاد العالمي. ما يُسمَّى مؤسسات “بريتون وودز” – صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، وإلى حد ما، منظمة التجارة العالمية (وتقمّصها السابق، الإتفاق العام بشأن التعريفات الجمركية والتجارة) – التي كانت في المكان منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، تعكس النظام الإقتصادي العالمي الذي هيمنت عليه الولايات المتحدة. وعلى الرغم من أن عدد أعضائهما يبلغ 188 دولة، فإن كلاً من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي يدار من قبل أميركا ودول أوروبا الغربية – بريطانيا، وألمانيا، وفرنسا. وتعتبر الولايات المتحدة أكبر مساهم في صندوق النقد الدولي، حيث تساهم بما يقرب من 65 مليار دولار، وهذا يعطي واشنطن حق النقض بالنسبة إلى مداولات الدول الأخرى وذلك بفضل نظام التصويت المرجّح للصندوق.
لسنوات، دعا كثيرون في جميع أنحاء العالم إلى إجراء إصلاحات في الحكم لصندوق النقد الدولي لمنح البلدان الأخرى صوتاً أكبر في صنع القرار. حتى الآن، أُحبطت تلك الجهود إلى حد كبير. ونتيجة لذلك، يستمر إعتبار كل من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي إمتداداً للنفوذ الأميركي الإقتصادي والجيوسياسي. هذا على الرغم من التطوير الذي قدّمه ما يُسمّى إجماع واشنطن – تدابير السياسة العامة التي كانت جزءاً من القروض المشروطة لصندوق النقد الدولي – منذ تجاوزات ثمانينات وتسعينات القرن الفائت. وحقيقة أن كلاً من صندوق النقد الدولي والبنك الدولي هما الآن أكثر تنوّعاً بكثير مما كانا عليه – على سبيل المثال، ما يقرب من نصف موظفي صندوق النقد الدولي هم من البلدان النامية الآن – لم تفعل شيئاً يُذكر لتغيير الإعتقاد بأن المنظمتين توجّههما واشنطن كما تبغي.
إن إنشاء البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية هو رد على الفجوة التمويلية للبنية التحتية الكبيرة في آسيا، والتي تشير التقديرات إلى أن تكاليفها تصل إلى 8 تريليونات دولار بين عامي 2010 و 2020.
ومع ذلك، بالإضافة إلى هذه الحجة الإقتصادية البحتة فإنه سيكون من الصعب عدم كشف الهدف من وراء إنشاء البنك الجديد وهو رغبة الصين في تعزيز نفوذها في المنطقة. وبموجب الترتيب الحالي، فإن البنك الآسيوي للتنمية، الذي هو جزء من البنك الدولي، هو المسؤول الأول عن تمويل البنية التحتية في آسيا وغيرها من المشاريع الإنمائية. لكن الصين لديها تأثير محدود في البنك الآسيوي للتنمية، والذي هو في قبضة قوتين مؤسستين ومؤكدتين في آسيا: الولايات المتحدة واليابان.
الواقع أنه للوهلة الأولى، يبدو الإعتراض الأميركي على إنشاء البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية متجذّراً في الرغبة الأنانية لحماية البنك الدولي ومقره واشنطن والبنك الآسيوي للتنمية ومقره مانيلا في الفلبين. ومما يعزز هذا التصور الحجة الصينية القائلة بأن هناك حاجة إلى تنظيم لديه المال في منطقة تتسوَّل للحصول على تريليون دولار لإستثماره في الطرق والسكك الحديدية، وكابلات الألياف الضوئية. وعلاوة على ذلك، فإن المؤسسة المتعدّدة الأطراف الموجودة في المنطقة المجاورة، بنك التنمية الآسيوي الذي تلقى إنتقادات كثيرة، لم يهتم سوى في مشاريع التخفيف من حدة الفقر أكثر من تعزيز البنية التحتية والإقتصاد.
هل أميركا قلقة من هذا البنك الجديد؟ ربما، ولكن كما أن واشنطن لاحظت بهدوء، إن البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية، في المنحى المتوخى الذي يسير به في الوقت الحاضر من جانب بكين، ليس هو الحل لتلبية الإحتياجات الموجودة. الصينيون، على سبيل المثال، يريدون أخذ 49 في المئة من رأسمال البنك بحيث أنهم، من الناحية العملية، لهم حق النقض.
هذه المساهمة الكبيرة تشكّل أمراً غير عادي لمؤسسة متعددة الأطراف. على النقيض من ذلك، فإن المساهمة الأميركية في البنك الدولي هي 16.1 في المئة فقط وفي البنك الآسيوي للتنمية هي 15.6 في المئة.
لماذا تريد الصين ما يقرب من نصف قوة التصويت في البنك الجديد المقترح؟ هناك العديد من الأسباب المحتملة، ولكن إثنين منها تثير قلقاً خاصاً. الأول هو أن بكين تريد إنتزاع السيطرة على الصندوق الجماعي لتقديم قروض ليس لها طابع تجاري، وبالتالي فإن هذا الأمر لن يكون حكيماً. الشك هو أن البنك الإستثماري الجديد سوف يدعم المشاريع التي سيتم بناؤها من قبل العمال الصينيين الذين يعملون لدى شركات البناء الصينية، وأن البنية التحتية الجديدة سوف تستخدم لتسهيل تصدير البضائع الصينية التي لا يستطيع الاقتصاد الصيني المريض أن يمتصّها.
ثانياً، هناك قلق من أن يصبح البنك الآسيوي للإستثمار في البنى التحتية “أداة للسياسة الخارجية الصينية إذا تمتعت بكين في نهاية المطاف بحق النقض على قرارات البنك”. وليست واشنطن العاصمة الوحيدة التي تعتقد ذلك. جولي بيشوب وزيرة الخارجية الأوسترالية، هي أيضاً قلقة بشأن المساهمة المقترحة من بكين.
من جهتها وعدت الصين بأن البنك الجديد سيكون “منفتحاً، شمولياً، شفافاً، ومسؤولاً”، ولكن إختبار نواياها سيتجلّى في إستعدادها لقبول تقليص دورها الكبير ومساهمتها في البنك، وبالتالي ضمان أنه لا يمكن لها الإقراض بطرق غير نظامية وعبر إتخاذ القرارات من بكين.
ولكن حتى لو كان إنشاء البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية هو في مصلحة الصين كقوة إقليمية جديدة، فإن هذه الخطوة لا تفعل شيئاً يُذكر للرد على الحاجة إلى تحسين التعددية وتعزيز الحوكمة الإقتصادية العالمية. في الواقع، قد تفعل العكس. إن الخطر الآن هو أن تنشأ كتلتان من النفوذ الإقتصادي في آسيا: إحداهما بقيادة الصين والأخرى بقيادة الولايات المتحدة واليابان. إن الطلب على الإستثمار في البنية التحتية هو كبير بما يكفي لإستيعاب كل منهما – حتى أن بنكاً للتنمية ثالثاً ربما يمكن أن يجد الطلب – ولكن ليست هذه هي النقطة. على المحك هو الحكم الرشيد والتعددية – على سبيل المثال، في عالم الحوكمة المجزّأ ما هو الحافز الذي يجعل الكونغرس الأميركي يوافق أخيراً على الإصلاحات المطروحة لصندوق النقد الدولي؟
بالإضافة إلى تجزئة الحوكمة وتبعثر المؤسسات، فإن البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية يمكن أن يشكّل تهديداً لإحداث وخلق معايير إستثمار متباينة – وهو خطر مهم فعلياً بالنسبة إلى التجارة كما كان رد فعل الصين على الشراكة عبر المحيط الهادئ، التي هي ليست عضواً فيها، من خلال تسريع الترتيبات التجارية الخاصة بها في المنطقة. هل يمكن أن تتحمل بقية دول العالم – وليس فقط الولايات المتحدة – أن تضع الصين معاييرها الخاصة بالنسبة إلى كل من التجارة والإستثمار؟ القلق هنا ليس على جودة هذه المعايير – والإفتراض هو أن مجموعة المعايير الصينية هي بحكم التعريف غير كافية وغير مناسبة وغير كفوءة. إن الحفاظ على إطار موحّد ومتسق، ومتعدد الأطراف من القواعد والمعايير هو الذي يساعد على دمج، بدلاً من تجزئة، الإقتصاد العالمي.
بدلاً من تنفيس إحباطها على بريطانيا، فإن الولايات المتحدة سوف تستفيد أكثر من أن تكون مثالاً قيادياً يُقتدى به وتبني إستراتيجية ذات شقين. أولاً، يمكن للكونغرس المضي قدماً والموافقة على إصلاحات صندوق النقد الدولي من دون مزيد من التأخير. ثانياً، يمكن لإدارة أوباما الإنخراط في محادثات مع الصين بشأن قضية البنوك الإقليمية الجديدة – البنك الجديد للتنمية، والمعروف باسم بنك “بريكس”، هو التالي الآتي – في إطار الإعداد والمنبر اللذين يقدمهما منتدى مجموعة العشرين “G20”.
منذ أعقاب الأزمة المالية العالمية، كانت مجموعة العشرين المنتدى الرائد للشؤون الإقتصادية والمالية العالمية، بعدما إستولت على بريق مجموعة الثمانية “G8” بعد تشرين الثاني (نوفمبر) 2008. وحتى لو بقيت مجموعة العشرين منتدى غير رسمي من دون أمانة عامة، فإنها قد تكيّفت بشكل أفضل مع الديناميات المتغيرة للإقتصاد العالمي أكثر من صندوق النقد والبنك الدوليين. على وجه الخصوص، كانت مجموعة العشرين أفضل من المؤسسات القائمة في جلب وإنخراط الإقتصادات الناشئة – جميع الإقتصادات الكبرى للأسواق الناشئة هي أعضاء في المجموعة.
لقد كان إندلاع الأزمة المالية العالمية محفِّزاً، ونقطة تحول، بالنسبة إلى إدارة وحوكمة الإقتصاد العالمي. أصبحت مجموعة العشرين حاسمة لحوكمة الإقتصاد العالمي، وبخاصة للتعامل مع الإضطراب الإقتصادي وعدم الإستقرار المالي. وهذا هو السبب بأن هذا المنتدى ينبغي أن يوفّر السياق الجيد لمناقشة الإعداد لمؤسسات جديدة متعددة الأطراف، مثل البنك الآسيوي للإستثمار في البنية التحتية والمنظمات الإقليمية الأخرى، وضبط اللهجة، والقواعد، للحوكمة العالمية الجديدة.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.