الروبل يهدّد أحلام بوتين؟

أدّى هبوط أسعار النفط إلى كوارث على صعيد إقتصادات الدول المنتجة له وعلى رأسها روسيا التي أخذت عملتها بالتهاوي مُسجِّلة خسارة تُقارب ال50% منذ بداية العام 2014. لكن التحليل الجيوسياسي يُظهر أن إنخفاض أسعار النفط والعقوبات المفروضة على روسيا هي أدوات مثالية لتركيع روسيا القيصرية.
دخلت الثورة الصناعية إلى الأمبراطورية الروسية بعد وقت طويل على دخولها إلى أوروبا. وهذا التأخير في إعتماد الوسائل الصناعية الحديثة أخّر في تطور الإقتصاد الروسي إلى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حيث إستطاعت الأمبراطورية الروسية أن تلحق بالدول الأوروبية والولايات المتحدة الأميركية وشكّل إقتصادها 8.5% من الإقتصاد العالمي مع ناتج محلي إجمالي يُقدّر ب230 مليار دولار (1990 هي سنة الأساس). وبعيد الثورة الروسية في العام 1917، أخذ النظام الشيوعي طريقه في الإقتصاد حيث سيطرت الدولة على كل الماكينة الإنتاجية من الصناعة إلى الزراعة والتجارة مما سمح بتطوير هذه الماكينة وخصوصاً الصناعة العسكرية. كما تمّ تسجيل مستويات نمو عالية ما لبثت أن بدأت بالإنحدار في ستينات القرن الفائت وذلك بسبب تغيّر الهيكلية الإنتاجية والإستهلاكية في العالم مع تحسّن المستوى المعيشي للإنسان. لكن الشعب الروسي لم يستفِد من هذا التحسّن وبالتالي لم يتطور إقتصاد البلاد. وهذا ما دفع الرئيس السوفياتي الأسبق ميخائيل غورباتشيف إلى القيام بإصلاحات إقتصادية هدفها تحفيز الإقتصاد المحلّي، لكن هذه الإصلاحات أدّت إلى تفكك الإتحاد السوفياتي وبالتالي إنهيار الإقتصاد الروسي. ومع تبوء بوريس يلتسين سدة السلطة في روسيا، أخذت موجة الخصخصة طريقها حيث إنتقل ما يوازي ال50% من القطاع العام إلى القطاع الخاص. وهذا الأمر دفع بالبطالة إلى الإرتفاع وزادت معها نسبة الفقر في روسيا وزاد الأمر تعقيداً مع الأزمة المالية التي عصفت بآسيا في العام 1998 حيث إنهار الروبل وأُعلِن إفلاس الدولة الروسية. ومع وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم، أخذت الإصلاحات طريقها مدعومة بإرتفاع كبير في أسعار النفط. وهذا سمح بتسجيل نسب نمو عالية تٌقارب الـ 7% إنخفضت مع الأزمة المالية العالمية وعادت في العام 2010.
وبالنظر اليوم إلى واقع الإقتصاد الروسي نرى أن هذا الاقتصاد الليبيرالي لم يسمح بتأمين عدالة إجتماعية، وبالتالي فإنه لم ينمُ بشكل مستدام بل بشكل تميزي حيث يحتكر الإقتصاد عدد من الشركات ورجال الأعمال المقربين من الحكم في ظل ما يُسمّى بالمجموعات الإستراتيجية التي يتحكّم بها “قيصر” روسيا. كما أن الأرباح التي نتجت من إرتفاع أسعار النفط في السنين الماضية لم يتم إستثمارها كما يجب لدعم الإقتصاد، وخصوصاً قطاع الشركات الصغيرة والمُتوسطة الحجم، بل تم حجز 10 مليارات دولار لدعم شركات ذات مديونية عالية وفي معظمها تابعة (سياسياً) للنظام الحاكم.
هذا الأمر أدّى من دون أدنى شك إلى إستمرار تعلّق الإقتصاد الروسي بأسعار بيع النفط والغاز بشكل كبير مما أبرز إلى العلن ضعف الهيكلية للإقتصاد الروسي في ظل ضعف التكنولوجيا الصناعية التي يحتاجها الإقتصاد الروسي لكي يواكب التطور العصري والتي حُرم منها على مدى عشرين عاماً.
في هذا الوقت كان الكرملين، وبدفع من “قيصر” روسيا، يخوض مواجهات سياسية مع الغرب في عقر داره. وحاول بوتين تكوين قطب إقتصادي يضم دول الإتحاد السوفياتي ودول أوروبا الشرقية، لكنه فشل أمام طموحات هذه الأخيرة بالإنضمام إلى الإتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي. وأدّى هذا الأمر إلى مواجهة سياسية كبرى في أوكرانيا إنتهت بإحتلال شبه جزيرة القرم ونُشوب نزاعات في جنوب شرق أوكرانيا بين الموالين لموسكو والحكومة الأوكرانية. هذا الأمر فرض ردة فعل من قبل الغرب تمثّلت بفرض عقوبات على روسيا.
وحاولت روسيا تفادي هذه العقوبات عبر القناة الديبلوماسية لكنها لم تفلح في ظلّ التشدّد الغربي الذي يصرّ على الإنسحاب الروسي من شبه جزيرة القرم وتوقف موسكو عن دعم الثوار في شرق أوكرانيا. هذا الفشل دفع بوتين إلى فرض عقوبات على أوروبا وأميركا ما حرم الإقتصاد الروسي من الكثير من المداخيل. وهنا تجدر الإشارة إلى المحاولات الروسية التي تُعتبر الأولى من ناحية الحجم والمدى والتي تتمثل بالخروقات لقاذفات إستراتيجية من سلاح الجو الروسي للمجال الجوي الأوروبي، وهذا الأمر يدّل على قلة الخيارات الإقتصادية المُتاحة أمام الرئيس الروسي.
من هنا نستنتج أن إنهيار الروبل الروسي يأتي من ثلاثة عوامل: إنهيار أسعار النفط العالمية (العامل الأساسي)، العقوبات الغربية على روسيا والهيكلية الضعيفة للإقتصاد الروسي. وللتذكير فإن العملة تعكس القوة الإقتصادية للبلد المعني مما يعني أن الأسواق تُصنِّف الإقتصاد الروسي في خانة الإقتصاد المُتآكل.

Image415506

ويبقى السؤال عن مدى تورط الغرب وخصوصاً الولايات المتحدة الأميركية في سيناريو خفض أسعار النفط العالمية لردع الماكينة العسكرية الروسية؟ في الواقع إن الأوروبيين ما زالوا يحملون أثار الحرب العالمية الثانية حتى الأن، ويخافون من ظهور ديكتاتوريات بخاصة أن الطرق الروسية لحل المشاكل تعتمد بشكل أساسي على الماكينة العسكرية. كما وأن حلف شمال الأطلسي ومن ورائه الولايات المُتحدة الأميركية لا تُريد أي مواجهة عسكرية مع روسيا لما في ذلك من أخطار كبيرة عبّر عنها الروس بقاذفاتهم الإستراتيجية التي خرقت الأجواء الأوروبية. من هنا تأتي الخطة الأميركية “المُفترضة” لردع الروس عن الولوج عسكرياً في أوروبا عبر البوابة الشرقية. والمُلاحظ أن هذا الأمر أعطى نتائجه إذ أن أي عمل عسكري سيفرض تمويلاً مالياً كبيراً تعجز عن توفيره روسيا اليوم. فهل ترضخ روسيا للغرب وتنسحب من أوكرانيا؟

بقلم البروفسور جاسم عجاقة*
• خبير إقتصادي وإستراتيجي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى