القاموسُ كَريم

رشيد درباس*

في الثاني من كانون الأول (ديسمبر) 2015، كُنتُ مُشارِكًا في مناقشة  كتابين حديثي الصدور لكريم مروّة، الأوّل “الرواد اللبنانيون في مصر”،  والثاني “معالم الشخصية اللبنانية”. وأذكرُ أنني ختمتُ مُداخلتي بجملةٍ قلتُ فيها:

وأنتَ خصيب، فمَن تفرَّسَ في خلجاتِ وجهك رأى أكمامًا كثيرة يُنَقِّرُها الضوء لتخرجَ إليه ثمارَها، في مواسمها الطبيعية، لا خبط عشواء -كما قال زهير-، ولهذا فإنَّ ثمانين حولًا أخرى … لا أب لك .. تليق بك … فلا تسأمِ .

فعقَّبَ قائلًا: “إنني بلغت الخامسة والثمانين وأُّعِّدُّ نفسي للعيش خمس عشرة سنة أخرى”.

بعد ذلك كتبتُ له مقدّمة كتابه “روّاد الإصلاح الديني في العصر العربي الحديث” وأعطيتها عنوان “القاموس كريم”، ربطتنا علاقة عميقة وممتدة من أوائل السبعينيات ولم تنقطع إلّا لشهرٍ مضى، ربما بسبب مرضه الذي لم أعرف به.

ورُغمَ سنّه المُتقدِّمة، فإنني لم أُحَضّر نفسي لأكتب عن رحيله إذ صدَّقتُ أنه مؤجَّل ذلك الموعد إلى أن يبلغ المئة، ولكنه “غدرنا وغادرنا” على حد تعبير السيدة زوجته.

فاستنسبتُ، ومن باب الحفاوة برحيله أن أُقدِّمَ لكم توليفة مُختَصَرة مما قلتُ فيه وفي بعض مؤلّفاته، لأنَّ ألطفَ ما يرشُّ على موكبه الأخير، هو الحبر والحروف.

وقد قلتُ في ما قلت: إنَّ القواميس من ورق، أما “القاموس كريم” فمِن علق، يقرأ ويكتب بالقلم، ويُعَلَّم ويتعلم، كأني به مُكَلَّفٌ بأن يزرعَ للخريطة البحرية مناراتها النابضة بالإشارات المختلف، حتى إذا أراد الملّاحون إطلاق زوارق المعرفة، لا يضلّون ضوءًا، ولا يبتلعهم تيار كامن، ولا تنهشهم صخور غادرة.

أما عن شخصية كريم مروّة الشاملة، فلقد وَصَفْتُهُ مرة بأنه الرجل الذي خرج من دينه مرَّتين وذلك عند اعتناقه للعقيدة الشيوعية على حساب مَنشئه الديني الشيعي، والثانية عندما خرج من إسار الدوغمائية الحزبية مُنفتِحًا على مجالاتِ التنوير أينما وجدت، يُعينه على ذلك عمق فهمه للجدلية، وتحرّره في الوقت نفسه من النتائج المُسبَقة التي كانت تُمليها الدوغمائية والتنظيمات الحديدية، ولذلك كانت له شجاعة دعوتنا إلى التجوّلِ بين الحَوْزات والتّكايا، وإلى النزهة في جوار الحسين وأعمدة الأزهر، ليُسَلِّطَ أضواءه الدالَّة، على مشايخ وعلماء اعتمّوا وتَجَلْبَبَوا منذ اليفاع، ما خلا مَن مات في زيِّه المدني وهم طه حسين ومالك بن نبي وخليل عبد الكريم ومحمد أركون وعلي عبد الرازق، وكانوا فقهاء دين ودُنيا، بل قبسوا من أصل الإسلام حقَّ نوره ونَزَّهوه عن البدع والخرافات، واشتبكوا مع أهل التزمّت والتخلّف، ودَفَعَ كثيرٌ منهم أثمانًا باهظة، قتلًا ونَفيًا وسجنًا واضطهادًا، وراحوا يستخدمون علومهم ومواهبهم في استثمار الإصلاح الديني لمصلحة الدنيا، عملًا بالقاعدة الشرعية “حيث تكون مصالح الناس، فثمة شرع الله”.

يلفت النظر أنَّ القاموس كريمًا لا يُعلّمك الكتابة، بل يدلّكَ على الكلام الصحيح، إذ يُبرِزُ لك أهم أفكار روّاده ويُحيلك إلى مراجعها، ويدلّكَ على أنَّ استنارتهم الدينية كان لها أعمق الأثر في الأحداث الكبيرة التي عمّت البلدان العربية في القرنَين  التاسع عشر والعشرين، فرأيته بأسلوبه هذا مُتَبنِّيًا لمبدَإِ العلامة  العلايلي:”الإبداعُ عطاءُ الفرد والتطور عطاءُ الجماعة، ومُتَمَتِّعًا بواقعيةٍ سياسية وثقافية تقرُّ بتأثير الأديان على الشعوب لا سيما في المنطقة العربية التي للدين الإسلامي فيها طابع ثقافي وإيماني حاسم على الجموع، بما يجعل لأولئك الروّاد فضلًا كبيرًا لأنهم استثمروا معارفهم الدينية لتبصير الناس بمصالحهم وإزالة غشاوة الخرافات عن الأبصار والبصائر.

من الأسماء ما يَشْهد للأهلِ بحسنِ الفِراسةِ وأَنهم توسّموا خلائقَ مواليدهم منذ البَكْوةِ الأولى، ومنها ما يُخَيِّبُ خُبْرُه الخبر ويكذِّبُ موصوفُه الصِّفات…

كان كريمٌ عند حسن التوقّع. بل فاقه بأشواط، إذ راح يبذل ريعان الشباب، وعزم الرجولة، وحكمة الكهولة، وشجاعة الشيخوخة في سبيل الناس والإنسانية والمبادئ التي اعتنقها بحماسة وقور، ثم راحت بعد ذلك تؤرق يقينه، وتقلِّبه على فراشٍ من قلق. حتى إذا مرَّت عليه الأحوال، واضطرب اليقين، وانقلبت خريطة العالم رأسًا على عقب، بقي هو على رصانته الفكرية، لا تعصف به العناصر؛ وظلَّ على كرمه، بل تمادى فيه، مُتنقّلًا من منصّةٍ إلى أختِها، من غير أن يغادر مصبطته الأصلية القائمة على انحيازه الفكري والعاطفي إلى المستغَلِّين والفقراء وإلى الثقافة نافذة للتنوير، وبابًا مفتوحًا لكسر الجمود.

هو الكريمُ القلمِ، الباذخُ الحبرِ الذي عاصر جودُهُ التطوّر الفني الهائل في الطباعة، فأسهلَ أمره. ولولا هذا لأوقع عمال صفِّ الأحرف في ضَنْكٍ شديد وشغلهم بتنضيدِ ما يكتب، عن نضالهم الأممي الذي انطلق في لبنان من انتظام السطور على الطروس، ودوران المبادىء كعجلات المطابع في العقول والنفوس.

أما المروة، فهي المروءة لُيِّنَتْ همزتُها، أي هي الإنسانيّة بعينِها. ولأنَّ المروءة فِعلٌ إيجابي، فقد أوقع التليين في الاعتقاد العامِّ، أنها الهمّة والنشاط والحيوية، وهذا ما ينطبقُ عليه اسمًا وكُنية، قالَبًاً ولقبًا، إذ لم توهنْ عقودُ عمره، الثلاثة الأصابع، ولم يشحَّ فيضُه كما شحَّ النظر، ذلك لأنه لا يعالجُ عللَ القرنية والشبكية والبؤبؤ بأنواع النظارات والقطرات والأحرف المكبَّرة، بل ببصَرٍ حديد، كشف عنه غطاؤه، عنيتُ به البصيرة النفّاذةَ، والرؤيةَ بالرؤيا، والقراءة بالمُقَلِ الواسعة.

ختاماً، أسألك، يا أبا أحمد، كم تركت لنا من الكتب التي لم تُطْبَعْ بعد؟

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى