مؤتمر “فتح” و… عودة فلسطين إلى رادار واشنطن!

محمّد قوّاص*

أسئلةٌ كثيرة تدورُ بشأن الهمّة الطارئة التي قادت إلى الإعلان عن عقد المؤتمر العام الثامن لحركة “فتح” في 17 كانون الأول (ديسمبر) المقبل. صحيحٌ أنَّ عَقدَ المؤتمرات الحزبية يُفتَرَضُ أن يكونَ روتينيًا دوريًا، لكنه بالنسبة إلى الحركة لطالما كان حدثًا استثنائيًا يكاد يكون نادرًا، سواء في عهد الرئيس الراحل ياسر عرفات أم في عهد سلفه الرئيس محمود عبّاس.

هو ثامنُ مؤتمرٍ في تاريخ “فتح” الذي يمتدُّ على مدى 58 عامًا. وإذا ما تَعقُدُ الأحزابُ السياسية مؤتمراتها دوريًا وبعضها سنويًا، فإن أسبابًا وأعذارًا كثيرة، منها السياسي والموضوعي والأمني، لطالما حالت دون الانعقاد الدوري قبل تشكّل السلطة الفلسطينية وبعده. ولئن يحتل المزاج القيادي (عرفات – عباس) حيّزًا كبيرًا في الإفراج عن قرار عقد المؤتمر، فإن ذلك يُشرّعُ الأبوابَ أمامَ شائعات عمّا يُحاكُ من وراءِ عقدِ المؤتمر المقبل.

تعطّلت الحياة السياسية الفلسطينية منذ الانقسام الشهير الدراماتيكي والدموي في العام 2007 بين حركتَي “فتح” و”حماس” إلى حدِّ انفصالِ “حالة” قطاع غزة عن “حالة” الضفة الغربية. لكنّ ظروفًا أخرى عَطّلت الماكينة السياسية الفتحاوية، وهي العمود الفقري لكلِّ المشهد السياسي العام لمنظمة التحرير الفلسطينية و”السلطة” المُنبثقة منها. بدا أن “فتح” فقدت دينامياتها السياسية السابقة في صناعة القرار، وباتت إمّا مُهَمَّشة عن القرارات التي يتّخذها مقر القيادة في المقاطعة في رام الله، وإمّا أداة من أدوات إدارة الحكم في يد الرئيس.

في ظلِّ غيابِ إرادةٍ رئاسية لعقد اجتماعاته، كان على المجلس الثوري لحركة “فتح” أن يُبادِرَ هو ب”الإجماع” إلى دعوة أبو مازن إلى حضور الدورة الـ11 للمجلس في منتصف الشهر الماضي. والمُفارقة أنَّ الرئيس، الذي كان بإمكانه الحَرَد من مبادراتٍ استفزازية من هذا النوع، لبّى الدعوة وحضرَ أيضًا، للمفاجأة، كل الجلسات. وإذا ما كان أعضاء “الثوري” يدفعون من خلال تحريك عجلة اجتماعاتهم إلى ممارسة ضغوط على الرئيس لإعطاء الضوء الأخضر لعقد مؤتمر “فتح”، فإن الرئيس الفلسطيني بدا مزايدًا على الجميع، مُشتَرِطًا أن لا تَنفَضَّ الاجتماعات قبل أن يتقرّرَ تاريخ عقد المؤتمر وتُرتَّب لجانه التحضيرية.

طبيعي أن ينعقدَ المؤتمر الذي سيُعيد قراءة فلسطين وفق راهنٍ جديد بعد 7 سنوات على عقد المؤتمر الأخير في العام 2016. ومع ذلك فإنه منطقي تحرّي أسباب غير مُعلنة مجهولة لإعادة تشكيل الهياكل القيادية لحركة “فتح”، سواء في مجلسها الثوري أم في لجنتها المركزية من دون ظهورِ أيِّ أعراضٍ تدلُّ على تبدّلٍ سيطال هوية زعيم الحركة. قيل إن أبو مازن قد أسرَّ للبعض بالقول: “أريد إعداد الحركة من بعدي”. صحيحٌ أنَّ للحافز مصداقية في ظل الهمهمات حول الخلافة المُحتملة، غير أنَّ أمورًا أخرى قد تكون وراء دفع الرئيس باتجاه “إنجاز” هذا الاستحقاق.

تأتي الترتيبات القيادية التي ستخرج عن المؤتمر المقبل غير بعيدة من قرارٍ مفاجئ اتّخذه الرئيس الفلسطيني في 10 آب (أغسطس) الماضي، أحال بموجبه على التقاعد 12 محافظًا دفعة واحدة، 8 في الضفة و4 في قطاع غزة. لم يكن لهذا القرار أيُّ سياقٍ سابق ولا بيئة إدارية حاضنة ولم تعرف به إلّا دائرة ضيّقة جدًا من المُحيطين بالرئيس. حتى أنَّ المحافظين المَعنيين لم يعرفوا بالأمر إلّا من طريق الإعلام. والغريب أن النخبة الفلسطينية لم تهتدِ بشكلٍ حاسم إلى فكّ شيفرة قرارٍ من هذا النوع تأخّر اتخاذه، رُغمَ ما يحظى به من ترحيبٍ شعبي عام، وبقيت تُهَمهِمُ بتفسيراتٍ تلتصق دائمًا بالنميمة عن تصفية حساباتٍ داخلية لا شأن لها بالمسار الفلسطيني السياسي العام.

جرى قبل ذلك أن الرئيس الفلسطيني دعا في 30 تموز (يوليو) الماضي إلى اجتماعٍ لكلِّ الأُمناء العامين للفصائل الفلسطينية. استضافت مدينة العَلَمَين في مصر الاجتماع الذي لم يخرج بأيِّ جديدٍ ظاهرٍ يُبرّرُ هذه الهمّة التي أوحت بمرحلةٍ فلسطينيةٍ جديدة. وعلى رُغمِ أنّه من الصعب استشراف ما سينتهي إليه مؤتمر “فتح”، غير أنَّ لا توقّعات بحدوث مفاجآت لافتة على مستوى النصّ السياسي أو في مواقف كادرات الحركة على منوال ما كانت تشهده مؤتمرات لافتة في عهد “أبو عمار”.

ما سُرِّبَ يُفيدُ بأنَّ الرئيس الفلسطيني اقترحَ ضمَّ شخصياتٍ فلسطينية غير فتحاوية إلى الحركة قبل عقد المؤتمر، وأنَّ المجلس الثوري رفضَ الأمرَ متسلّحًا باللوائح والقوانين في هذا الصدد. وفي ما سُرِّبَ أيضًا، فإن المؤتمر لن يدعو شخصيات اتّخذت في السنوات الأخيرة “مسارات مستقلة” (ناصر القدوة، فدوى البرغوثي… مثالًا) وطبعًا سيُبقي على استبعاد عضو اللجنة المركزية المقال محمد دحلان وتياره في الداخل والخارج. وفي الهمس أنَّ المؤتمر سيكون “خالي الدسم” مطواعًا في يد الرئيس الفلسطيني بما يُفسّر حماسته الطارئة لعقده الطارئ.

لا يمكن قراءة التطوّر هذا بعيدًا مما تَحَرَّكَ في المسألة الفلسطينية على رُغم جمودِ العملية السلمية مع إسرائيل. كثّفت صحافة الولايات المتحدة الحديث عن جهود إدارة الرئيس جو بايدن لإبرام اتفاقٍ تاريخي بين السعودية وإسرائيل. وأسهبت التسريبات الأميركية في سرد الشروط السعودية التي تتصدّرها القضية الفلسطينية ووجوب المضي بعمليةٍ سياسية تمنح الفلسطينيين دولة مستقلة وفق المبادرة السعودية التي باتت مبادرة عربية، بعدما تبنتها بالإجماع القمة العربية في بيروت في العام 2002.

واللافت أنَّ الطَرَفَ الفلسطيني يتعامل ببراغماتية مع الجهود الأميركية المبذولة مع السعودية لاحتمالِ إبرامِ اتفاقٍ سعودي-إسرائيلي، وهو سلوكٌ يتناقض مع التشنّج والتوتّر والغضب في تعامله مع الاتفاقات الإبراهيمية السابقة مع أربع دولٍ عربية.

وتكشّفت المعلومات عن تسليم الفلسطينيين الرياض قائمة تتضمّن مُقترحات للمقابل الذي يمكن للسعودية أن تطلبه من إسرائيل من أجل الفلسطينيين. من هذه المقترحات نقل مناطق من المنطقة (ج) التي تُسيطر عليها إسرائيل إلى المنطقة (ب) التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية، وإعادة فتح القنصلية الأميركية في القدس الشرقية، وإعادة تحريك السياق التفاوضي، وإعادة ضخّ تمويلات مُعلّقة للسلطة، ودعم واشنطن اعترافًا في الأمم المتحدة بدولة فلسطين.

ومن المُفترَض أن لقاءً سيجمع في السعودية وفدًا فلسطينيًا مع بريت ماكغورك، كبير مستشاري الرئيس الأميركي لشؤون الشرق الأوسط. وكان الوفد الذي يضمّ حسين الشيخ، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية وماجد فرج، رئيس جهاز المخابرات العامة، ومجدي الخالدي، المستشار الديبلوماسي للرئيس الفلسطيني، قد التقى الأسبوع الماضي في عمّان مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأوسط باربرا ليف.

ولئن تُبدي الإدارة الأميركية جدية في الاستماع إلى وجهة النظر الفلسطينية من بوابة ما تأمله من السعودية، فإن إعدادَ البيت الفتحاوي والبيت الفلسطيني العام تاليًا قد يكون من مُتطلبات مرحلة باتت العواصم المعنيّة تطالب الفلسطينيين بها. ويتواكب الإعداد لترشيق البيت الفتحاوي مع أنباءٍ عن اتجاه الرئيس الفلسطيني لإجراءِ تعييناتٍ لمحافظين جُدُد وتغييرات داخل السلك الديبلوماسي والقضائي وتعديل وزاري داخل حكومة محمد أشتيه.

من الآن وحتى انعقاد المؤتمر العام الثامن لحركة “فتح” في أواخر هذا العام، قد يُزالُ الضباب عن حيثيات عقد المؤتمر كما عن أهدافِ ما سيُقرّره. ولئن تتضارب التحليلات بشأن ما ينتظر فلسطين والفلسطينيين، غير أن المناسبة تُشكّلُ فرصةً لنقاشٍ فلسطيني-عربي يُعيدُ تصويبَ البوصلة نحو فلسطين بصفتها لا تزال، رُغمَ التحوّلات الإقليمية والدولية، وجهةَ السلم والحرب والفوضى والاستقرار في الشرق الأوسط، وهو ما يُعيدها هذه الأيام إلى رادارات واشنطن.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى