العنكبوت و”المُرْجِئَةُ”

رشيد درباس*

“قيلَ “مُرْجِئَةُ” لأنّهم قدّموا القول
وأ
رْجَؤوا العمل”
جمهور الفقهاء

في أحاديثه، يَضرُبُ الرئيس فؤاد السنيورة المثل بناسكٍ نذرَ إلى الله الإقامة على قمة جبل مثلج احتسابًا وتعبُّدًا. وفيما هو صاعدٌ مرَّ به صيادون فعرضوا عليه أن يركبَ معهم، فرفضَ شاكرًا. ولما وصلَ إلى منعطف خطر، ظهر له حَطَّابٌ يمتطي دابته، فحذّره من سوء الأحوال الجوية، وتنازل له عن الدابة ليركبها، فرفضَ أيضًا. ثم غذَّ السير والثلوج تتساقط بكثافة حتى وجد نفسه مُحاصَرًا بعواء الذئاب الكاسرة، فناجى ربه قائلًا: أَوَهكذا تترك عبدك الصالح في محنته؟ فإذا صَوْتٌ علوي يجيب: لقد أرسل لك ربك المعونة تكرارًا، فلماذا رفضتها؟

“نُسَّاك” الجمهورية اللبنانية دأبوا على خطابٍ واحد مليء بالتصميم اللفظي على حفظ “الجبل” وصيانته؛ لكنهم لم يكفّوا يومًا عن رفض أيدي المساعدة الحقيقية، بل كثيرًا ما كانوا يسعدون ببترها ويحتفلون بعد ذلك بانتصارٍ كاذب. كان الإمدادُ بالسلاح والذخيرة والتمويل لإدامة الصراع الداخلي معيار الصداقة والولاء والافتخار، أما المشاريع التي كانت الدول الصديقة والشقيقة تبدي الاستعداد لتنفيذها، فكانت تهدرُ تباعًا مع سابقِ تصوُّرٍ وتصميم بحجة انطوائها على نيات خبيثة لتدجين المقاومة وإطفاء “الشعلة الثورية الخالدة”.

منوّعات الرفض والإنكار تراوحت بين العمالة والترويج للتطبيع وكشف ظهر المقاومة. بل إنَّ التحذيرات الجدّية التي كانت تتتالى، عُدَّت من باب التهويل وتثبيط العزائم، إلى أن وقعت الواقعات، وتوالت النكبات من غير أن تكونَ مدعاةً لإعادة النظر في مدى صحة المناهج السياسية التي ذهب قادتها إلى نهاياتها المأساوية دون أن تختلج فيهم قلوب، أو ترفَّ لهم بصائر.

اللافت، أنَّ المشهدَ السياسي الناري المُستدام منذ أكثر من نصف قرن، له حليفه الكامن في التركيبة الجوفية للدولة، والمُتمثّل بوساداتٍ ناعمة نسجتها العنكبوت خيوطًا في الأصل واهنة، لكن عوامل التكلُّس والمُراكمة صَلَّبَتْها، كأذرع الأخطبوط التي تلتفُّ على فرائسها وتمتصُّ ما فيها من حيوية. إنَّ النيات الطيبة والرغبات البريئة بالإنقاذ والتطوير تتوقف فعاليتها على اقترانها بشروط لا بُدَّ منها هي التمرُّس والرؤية والإدارة.

كُثُرٌ هم الناس الذين سعوا إلى السلطة فوقعوا في مغرياتها، وصاروا من وسائل فسادها، وقليلٌ قاومَ ذلك، لكنه استكبر العقبات والعوائق، فارتدَّ على عقِبَيه يائسًا مُحبَطًا، فنأى بنفسه عن اللعبة كلها؛ أما المشكلة فهي أنَّ فرصًا قد تأتي حاملةً إلى الحكم أهل علم وجدارة سرعان ما يستسلمون للآليات العنكبوتية ليجدوا أنفسهم أسرى ما جاؤوا لمحاربته.

منذ اغتيال الرئيس رفبق الحريري، عبَّرت الفطرة السليمة عن نفسها تعبيرًا واضحًا في مناسباتٍ مُتعدِّدة، وانتفضَ الناس كالسيل الذي كانت تبتلعه القنوات بسهولة، لأنَّ الانتفاضات التي تفتقرُ إلى ركائز الخطط السياسية والتنظيمية تبقى عُرضةً للامتصاص، لكن الإنصاف يقتضينا أن نقرَّ بأنَّ تلك الانتفاضات لم تذهب هباءً، بل إنَّ كثيرًا مما وصلت إليه الحالة السياسية الجديدة مدين لها بصورة مباشرة أو غير مباشرة. بعد ذلك ينبغي علينا أن نلتفتَ برهةً إلى الوراء لنتبَيَّن إلى أيِّ مدى كانت المسافة التي قطعها الحكم مسافة مبشرة ومرضية وتدعو للتفاؤل.

إلّا أنَّ مَن ينظر إلى تعاقب العهود والحكومات في لبنان، يجد أنَّ المشاهد تتكرر بصورة أو بأخرى، تبدأ بالزخم، ثم التريُّث، ثم التذرُّع، ثم الفشل، لكن اللافت أنَّ تغييراتٍ إقليمية ومحلية تجعل فرص النجاح مرئية ومُمكنة في حال استطاعت العزيمة أن تخرج من لوثة الفكر العنكبوتي، وتذهب إلى ما لا تطاله خيوطه الناعمة والقاتلة في آن.

وعلى هذا، إن كانَ لي أن أبدي بعض الملاحظات على هامش المراوحة التي وقعت فيها الدولة، فهي التأكيد على أنَّ السياسة الخارجية الرسمية ليست مطبوعة بانتماء الوزير، بل بالنهج الذي قررته الحكومة وفقًا لمصالح الدولة، كما إنَّ حكومةً استبشر بها اللبنانيون ولا زالوا يشهدون لأعضائها بالنزاهة والاستقامة، لم تُبيِّن للمواطنين رؤيتها الاقتصادية وخططها القريبة والمتوسطة، بل إنَّ الدولة التي تستغني عن خدمات رجال الأعمال منها وكبار أهل الاقتصاد، تكون قد عجّلت بالانتقال من مرحلة الوعد إلى أسطوانات التبرير التي يُتقِنها السياسيون المخضرمون والمستجدون على السواء؛ إنَّ كرسي الحكم ليس جائزة لمسيرةٍ شخصية ناجحة، بل هو مقرُّ صيانة القرار وحصافة الابتكار.

لا تستطيع الدولة أن تنزعَ سلاحَ “حزب الله” بالقوة، ولا أحبّذُ ذلك لأسبابٍ عدة، لكنها تستطيع بلا شك أن تجعله سلاحًا صدئًا فيما إذا آمنت بمهماتها ومؤسّساتها، وشمّرت عن مشاريعها، وذهبت إلى ما يمكن إنجازه، واستثمرت في مرافقها الحيوية بالتشبيك مع القطاع الخاص المحلّي والخارجي، وفق قواعد المنافسة والشفافية،  وفرضت الأمن في مناطق سيطرتها، وضربت نظم الفوضى، وقالت بملء الفم والثقة والممارسة: “أنا هنا”. إذ لا مساومة إطلاقًا في موضوع النظام العام والسيادة، وإلّا كانت الدولة “مُرجِئة”، كتلك الفرقة الإسلامية التي قال دعاتها “إنَّ الإيماَن إقرارٌ باللسان وتصديقٌ بالقلب وإنَّ الأعمالَ الصالحة ثمرات الإيمان وشرائعه”. و”الإرجاء” لغةً هو التقديم في القول والتأخير في العمل؛ فالحكم الذي يعلق مسيرته على هبوب الرياح المؤاتية واهم، لأنَّ الرياح لن تهبَّ والمساعدات لن تأتي، والإعمار مُرجَأ، حتى تكونَ المبادرةُ التي هي مدعاة استبشار بأنَّ إعدادَ الأشرعة قد يغري الرياح، وأنَّ النفخ في النفير يستدرجُ أهل النخوة.

وكي لا يتّهمني القارىء بأنني توغَّلتُ في اللوذعية اللفظية أقول: ما بالكم لو رَسَمَت الحكومة خطّةً جذرية لموضوع النفايات وفق أحدث ما هو مستعمل في الدول المتقدمة من خلال الـ”BOT”، أو أزالت الاعتداء على سكك الحديد وأرجعت هذا المرفق الهام إلى سابق عهده، وجعلت السير أقل فظاظة وأكثر ليونة؟ أو استفادت من خبرات مافيات المولّدات، لتسألهم كيف تمكّنوا من معالجة العتمة بوسائلهم الملتوية؟ وما بالكم فوق كل هذا وذاك لو أنَّ الأمنَ عاد إلى الشوارع والمخيَّمات، وأدخل الطمأنينة إلى قلوب الناس الذين ما زالوا يخشون القتل والسرقة وفجور الدراجات النارية؟

أَوَ ليست هذه الأمور عنوانًا لدولةٍ عادية تجعل فكرة اقتناء السلاح مشروعًا فاشلًا ومرذولًا؟! وهل أكونُ مبالغًا إذا طالبتُ الدولة بأن تُعيدَ لبنان نصف قرن إلى الوراء؟؟!!

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى