زياد الرحباني ضيف “الجامعة العربية”

أَندريه الحاج: الموهبة الشاملة

هنري زغيب*

حين تصبحُ صالةُ المسرح كلُّها كَورسًا متواصلًا في أُمسيةٍ غنائية، يكون الأَمرُ عائدًا إِلى عبقرية اللحن، أَو إِلى براعة القيادة. فكيف إِذا كان الأَمرُ جامعًا كلتَيْهما؟

هو هذا ما حصل فعليًّا في أُمسيةِ “تحية لزياد” على مسرح “قاعة جميل روَّاس” – مبنى الحريري، في حَرَم “جامعة بيروت العربية”، بدعوةٍ وتنظيمٍ من “إِدارة العلاقات العامة والتواصُل” في الجامعة: كانت الأُمسية بكاملها استذكارًا باقةَ أَعمالٍ لزياد الرحباني، بأَداءِ أُوركسترا عاليةِ الاحتراف، وكورسٍ ممتازٍ بقيادة المايسترو المتمكِّن أَندريه الحاج.

المايسترو أَندريه الحاج: قيادة الأُوركسترا والكورس

هَيْبَة أَندريه الحاج

كان الجو مهيَّأً سلَفًا بدءًا من كلمة مديرة “العلاقات العامة والتواصل” السيدة زينة العريس حوري، إِذ قدَّمت زياد على أَنه “فنانٌ شامخ، صوتٌ لم يعرف المساومة، فكْرٌ منحازٌ للإِنسان والعدالة، موسيقاه أَثمرَت في قلوبنا إِبداعًا، وأَغْنَت عقولَنا ثقافةً، ومسرحياتُه أَضحكَتْنَا حتى الإِحساس بالوجع”.

في هذا الجوِّ، قدَّم أَندريه الحاج أُمسيةً فريدةَ الشكل والمضمون. تَمَيَّزت بقيادته لا من عصا المايسترو التقليدية، بل بنبْض أَعصابه وكامل جسده: يَدْيْن، كتِفَيْن، خصْرًا مطواعًا، وقامةً تتمايلُ نبْضًا مع كل نوطةٍ وفاصلةٍ من ميلوديا، حتى كأَن الإِيقاع يتصاعد من مَيَلانه، قائدًا دقيقًا ذا هيبة ساطعة، لا من نوطات الأَلحان على المنصَّات أَمام الموسيقيين. فهو لم يكن “يقرأُ” النوطات أَمامه ليدير الأُوركسترا، بل كان كأَنه “يُشكِّلُها” ويَـبُـثُّـها للموسيقيين.

هذا المايسترو المتفرِّد كان ضروريًّا لتقديم زياد الرحباني المتفرِّد عبقريًّا في التأْليف الموسيقي وفي التلحين. كان شاقًّا عليه أَن يخرج من جناح والده عاصي ووالدته فيروز، لكنه خرجَ من الفضاء المنزلي الوالدي ومن فضاء عاصي الفنان وفيروز الخالدة، وشقَّ طريقه مستقلًّا بفضاءٍ سيبقى إِلى سنواتٍ طويلة بعد، متفرِّدًا لا يُشبه إِلَّاه.

هذا الـ”لا يُشْبه إِلَّاه” كان يَلْزَمُهُ، لإِبراز تَفَرُّده موسيقًى وأَلحانًا، قائدٌ مغايرٌ يَصوغُ تلك الأَلحان والموسيقى بكتابةٍ ذكية، فكان له أَندريه الحاج.

تحية الختام إِلى جمهورٍ كان الكورسَ الأَكبر

موسيقى وأَلحان

الريبرتوار الذي اختاره المايسترو الحاج من 20 عملًا لزياد، تنوَّع بين معزوفاتٍ (مقدِّمة “ميس الريم”،…)، وأَلحانٍ أَدَّتها فيروز (“حبَّيْتَكْ تَ نْسِيْت النَوم”، “قدَّيش كان فيه ناس”، “سأَلوني الناس”، “لبيروت” أَدَّتْها ماريَّا عازار بصوتٍ مميَّز ذي قُدرات صوتية واسعة، “من يوم اللي تْكَوَّن يا وطني الموج كنَّا سوا”، “عودَكْ رنَّان”، “عَ هدير البوسطَة”،…)، وأَلحانٍ كانت أَدَّتها أَصواتٌ معظمُها من فريق زياد المسرحي (“جايي مع الشعب”، “قُوم فوت نام”، “شو هالإِيام اللي وْصلْنالا”، “بَلا وَلا شي” أَدَّتْها كاترين غالي بتَمَكُّن، “عايشِه وحدا بَلاك”، “يا نور عينَيَّ”، “يا بنت المعاون”، “راجعة بإِذن الله”، “أَنا اللي عليكِ مشتاق”، “خايف كُون عْشِقْتِك وحبَّيْتِك”، “طلِّي اضحكيلو يا صبيِّه” – من مسرحية “بياع الخواتم”، بتوليفة خاصة من زياد).

الجمهور كَوْرَسًا

كان لافتًا طيلةَ السهرة اشتراكُ الجمهور بكلِّيَّته في غناءِ الأَغاني خلال عزفها، مرَّاتٍ لوحده، ومرَاتٍ بطلَب مباشر من المايسترو الحاج، ما يدلُّ على ظاهرتَين: أَنَّ أَعمال زياد الرحباني منتشرةٌ شعبيًّا بشكلٍ واسعٍ وكاملٍ في الذاكرة الجَماعية، وأَنَّ قائدَ الأُوركسترا يرسِّخُها في الجمهور حين يدعوه مباشرةً إِلى الغناء تَوازيًا مع الأُوركسترا والكورس على المسرح.

خلاصةً: كانت بادرةَ وفاءٍ نبيلةً من “إِدارة العلاقات العامة والتواصُل” في “جامعة بيروت العربية” أَنْ ترفعَ هذه التحية إِلى زياد الرحباني الذي شكَّل على حياته جمهورًا رسَخَتْ في ذاكرته أَعمالُه الكاملة حتى إِذا غابَ لم تَغِبْ أَعمالُه من ذاكرة جمهوره، وأَنْ يتولَّى برنامجَ الأُمسية فنَّانٌ متمكِّنٌ من عصاهُ بدقَّةٍ، وإِدارتِهِ بأَمانة، واختياراتِه بتوليفةٍ منه خاصَّة، ما يجعل أَندريه الحاج يَبْلُغ اليوم أَن يَكون طليعَ قادةِ الأُوركسترا الشرقية في لبنان.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت – دُبَي).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى