صخرةُ الروشة بين إزميلِ الطبيعة وانتحارِ الوعي!
الدكتور ڤيكتور الزمتر*
في زمن التحوُّلات البُنْيوية التي تشهدُها، بقلقٍ بالغٍ، دُوَلُ المشرق العربي، وجدَ اللُّبنانيون، الأُسبوعَ الفائتَ، مُتَّسعًا من الوقت للإنشغال بإذكاء الأحاسيس المذهبية المُرهفة، التي فشلت قرونٌ بتسكين انقسام العائلة الإسلاميّة الواحدة!
بدأ المشهدُ الدرامي بُعَيْدَ سريان خبرٍ بأنَّ “حزبَ الله” يعتزمُ تتويج إحياء الذكرى الأُولى لاستشهاد أمينيه العامَين، السيّدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، بإضاءة صخرة الروشة بصورتَيهما.
للوهلة الأُولى، بدا الأمرُ طبيعيًا، قبل أنْ يتمدَّدَ الدمُ وينسابَ كالنُعاس، في شرايين الإنتقام السياسي والمذهبي. وفجأةً، استُحضرَ خُلُودُ صخرة الروشة، التي قولبَها إزميلُ الطبيعة، لتُشكِّلَ معلمًا جيولوجيًا رمزيًّا، في ذاكرة بيروت.
ولكن، في زمن الإنحطاط الوطني، تتعطَّلُ مَلَكَةُ العقل، وتَبْطُلُ الصخرةُ أن تكون شاهدةً صامتَةً على تموُّجات تاريخ لبنان، لتُصبحَ مُجرَّدَ مِنصَّةً للإنتحار، على وقع هدير الأمواج المُتلاطمة عند أقدامها.
غرابةُ الواقعة الدرامية تكمنُ في قُدرة اللُّبنانيين على نُسيان غرقِهم في العتمة المُزمنة، وعلى تجاهُل ضيقتهم الإقتصادية المُستفحِلَة، وسرقة مُدَّخراتهم لينصرفوا إلى تصفية الحسابات المُؤجَّلة، مع الشريك في الوطن المُفترض الواحد.
يحصلُ ذلك، والبلادُ تُصارعُ لتحرير الأرض، ولوقف العدوان اليومي عليها، ولبسط سيادة الدولة على كامل تُرابها الوطني، ولإعادة الإعمار، جرّاء حرب “إسناد غزَّة”. ولكنْ، حبَّذا لو كان المقصودُ من إضاءة صخرة الروشة تبديدَ عتمة البلاد، بعثًا للأمل بانبلاج فجر ليل اليأس الطويل، لا إيقاظًا لشيطان الفتنة النائمة.
مهما قيلَ ويُقالُ على الدلالات المُتضاربة لإضاءة الصخرة، فإنَّها، بالمُطلق، تعكسُ تآكُلَ اللُّحمة الوطنية، وتُجَسِّدُ تخثُّرَ الدماء في شرايينها المأزومة. بمعنى آخر، إنَّ ما يعيشُه وطنُ الأرز من توالي فصول الإنقسام، هو تناسُلٌ بديهيٌّ لحالة الإرتياب، المُتولِّدَة من انعدام الثقة بين مُكوِّناته المُجتمعية، مُنذُ إعلان دولة لبنان الكبير، في العام 1920. يومها، قامَ الكيانُ اللُّبنانيُّ على جدلية الإنتماء غير المحسوم، ما شرَّعَ الأبوابَ لدخول رياح الجوار والإقليم، إلى غُرَف نومه.
فمن المُحزن أن يستعصيَ على اللُّبنانيين، على مدى قرنٍ ونيّفٍ، أن يأتلفوا تحت الراية الوطنية كعائلةٍ واحدةٍ تؤمنُ، ليس فقط بأنَّ “الدينَ لله والوطنُ للجميع”، بل بأنَّ الإيمانَ شأنٌ شخصيٌّ حصريٌّ.
وعلى كلّ حال، الجميعُ، من قادةٍ ورأيٍ عامٍ، مسؤولٌ عمّا جرى، الأُسبوع الفائت، من فعلٍ وردَّة فعلٍ، عن مُجريات إحياء تلك الذكرى، حيث حالت لُغةُ التحدّي بدون تمييز المواقف بين السياسي والمذهبي.
أمّا الآن، يؤمَلُ ألّا تكون حادثةُ الروشة، قد طُويَت على زغلٍ، بل على درسٍ بأنَّها كانت عاصفةً بفنجانٍ، لا تستحقُّ نبشَ عفاريت التمزُّق. فقد كان من اليسير تجنُّبُها، لو لم تأخذْ الأُمور مَنْحى التحدّي والردِّ على التحدّي بالمثل. فالمقاومةُ “المكسورةُ الخاطر” والمأزومةُ، كان أحرى بها الحرصُ على التضامُن وبلسمة الجراح، بعد ارفضاض غالبية الحلفاء عن تأييدها ودعمها.
وبالقدر ذاته، ونظرًا للظرف المذهبي المُرهف في الدولة المُعتادة على مُراعاة الخواطر الروحية على حساب القانون، رُبَّما كانَ من الأفضل، ألّا يتصدَّر الرئيسُ نوّاف سلام المشهدَ، بل أنْ يتركَ الأمرَ للمسؤولين الرُدَفاء، تحسُّباً لِهَتْكِ هيبة الحُكم.
وجهٌ آخرٌ كشفَته واقعة الروشة، حيث زعمَ النائب حسن فضل الله، عضو “كتلة الوفاء للمُقاومة”، بأنَّ اتفاقًا مبدئيٍّا عُقِدَ بين الثُنائي، “أمل” وحزب الله، وقائد الجيش، في حينه، بين دورتَي الإقتراع الرئاسي، يوم التاسع من كانون الثاني (يناير) المُنصرم. قضى الإتفاقُ بمُقايضة انتخاب كتلتَي الثُنائي للمُرشَّح العماد جوزيف عون، مقابلَ موافقته على تأكيد تمثيل الثُنائي، وحصر تنفيذ القرار 1701 بجنوب الليطاني، وحول استراتيجية أمن وطني أو دفاع وطني والحفاظ على المُقاومة. وأضافَ، مُفاخرًا، بأنَّ انتخابَ الرئيس جوزيف عون تمَّ بأصوات كُتلَتَيّ الثُنائي.
إنَّه مِثالٌ إضافيٌّ على زئبقيةُ السياسة اللُّبنانية، التي تُبرِّرُ وسيلةَ الوصول إلى السُلطة، وإنْ اقتضى الأمرُ نقضَ الإتفاق، بعد ساعتين من إبرامه، إن صحَّ ما ساقَه النائبُ حسن فضل الله، حيثُ شكَّلت عبارةُ “حصريَّة السلاح بيد الدولة” الفَقَرَةَ الملكة في خطاب القسم!
وهذا ما يُفسِّرُ اللَّغطَ المُرافق لواقعة الروشة، بين توجيهات الرئاستين الأُولى والثالثة المُتناقضة. كما يُنبىءُ بفشلِ العهد بتنفيذ قرار حصرية السلاح، المُترنِّح بين الضغوط الأميركية ورفض “حزب الله” القاطع لتسليم سلاحه، التزامًا بالإتفاق المبدئي، المُشار إليه أعلاه
إنَّ الحريصَ على الوطن، وعلى واجب تحرير الأرض من الإحتلال، لا بُدَّ له من أنْ يتفهَّمَ دقَّةَ وحساسية الوضع، الذي يعيشُه “حزب الله” راهنًا. ولكن، من المُنطلق عينه، لا بُدَّ من الإفتراض بأنْ يكونَ الحزبُ مُنكبَّا، على تقييم ما لحقَ به من كبواتٍ فائقة الكلفة، بما يقودُ إلى تصويب مساره، على ضوء ما أفرزَه الإقدامُ على “إسناد غزَّة” من خلطٍ للأوراق والوقائع.
فالحاجةُ مُلحَّةٌ لإجراء مُراجعةٍ شاملةٍ، للإستهداء بمُؤشرات بوصلة الوضع الراهن، وللعمل على سدِّ ثغرات العثرات القاتلة، بما يُفضي إلى الرجوع إلى دولة الوطن، لتكونَ “المُقاومةُ” العَضَدَ الصلبَ في تقوية عوده، للدفاع عن الأرض والسيادة.
من هنا، وبانتظار ظُروفٍ أفضلَ، لا بُدَّ ل”حزب الله” من أنْ يتآلفَ مع منطق العقل البراغماتي لا العقائدي، وأنْ يتجاوبَ مع مُقتضيات ما يُعيقُ إعادة إعمار ما تهدَّم، آخذًا بالإعتبار عجز الخزينة الخاوية على التكفُّل بذلك. كما يتوجَّب الأخذُ بالحسبان، اشتراطَ الدُوَل المانحة ربط مساهماتها بإعادة الإعمار، ب”حصر السلاح” وبسط سُلطة الدولة على كامل أراضيها.
وأخيرًا، للمرء الحقُّ بأنْ يكونَ مُؤيّدًا أو مُعارضًا للسيّد حسن نصرالله، وأنْ يُقَيِّمَ مُرتكزات إيديولوجيته، سلبًا أو إيجابًا؛ لكن، من الظُلم تقزيمَ موقفه الصلب من إسرائيل. يكفي أنْ نتصوَّرَ، لبُرهةٍ، وضعَ العالم العربي، لو أنجبَ قاماتٍ من قماشته. لذلك، لم تكنْ مشهديةُ صخرة الروشة لائقةً بالذكرى الأُولى لاغتياله، لاقتصارها على بعض بيئته اللَّصيقة، بدلَ أنْ تكونَ احتفاليَّةً وطنيةً جامعةً!
قياسًا على ما تقدَّمَ أعلاه، فاتَ المُنتشي بالإنتصار على هيبة الدولة في واقعة الروشة، أنَّه كانَ ضحيَّةَ الإنتصار عينِه، بخسارته بيروت العاصمة الجامعة، العاصية على التصنيف المذهبي. فالإنتصارُ على الشريك في الوطن، إنَّما هو أشبهُ بمن يلحسُ المبرد، كي لا نقول أنَّه أشبهُ بالمُنتحر، المُنتصر على “حُبِّ البقاء”، وهو يقفزُ من على صخرة الروشة، الشاهدة الباقية على نهايته.
- الدكتور ڤيكتور الزمتر هو سفير لبناني سابق.