حَربُ الإلغاءِ الإسرائيليّة ومَسارُ قمّةِ نيويورك
الدكتور ناصيف حتّي*
تعيشُ المنطقة على صفيحٍ ساخنٍ يزدادُ توهُّجًا وسخونةً يومًا بعد يوم منذُ اندلاع الحرب الإسرائيلية التي أعقبت عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة “حماس”. وقد أعادت هذه العملية القضية الفلسطينية إلى الواجهة بقوّة، لتتصدّرَ من جديد جدول الأولويات الإقليمية، بغضّ النظر عن اختلافِ مواقف القوى الدولية والإقليمية حيالها. والمُثيرُ للاهتمام في هذا السياق، هو الطرحُ الإسرائيلي ومعه الطرح الذي يتبنّاه حلفاء إسرائيل، إذ يعتبران أنَّ الصراعَ بدأ مع “طوفان الأقصى”، لا مع نشأة دولة إسرائيل في العام 1948 أو حتى مع مقدّمات قيامها. هذا المنطق يعكسُ الرؤية الإسرائيلية السائدة اليوم، سواء تلك التي يتبنّاها اليمين الديني الأصولي المتشدّد، أم اليمين الاستراتيجي المتطرّف الذي يمثّله بنيامين نتنياهو، حول كيفية حسم الحرب الدائرة وإنهائها. وبعد مرور ما يقارب الأسبوعين، تكون هذه الحرب المُتَّسِعة رقعتها قد دخلت عامها الثاني، في ظلِّ مؤشّراتٍ عديدة تدلُ على أنها مُرَشَّحةٌ للاستمرار زمانًا ومكانًا، وهو ما تؤكده يوميًا التصريحات الإسرائيلية والعمليات العسكرية على الأرض.
يَسيرُ المشهدُ الراهن في هذا الصراع المفتوح على مَسارَين أساسيين:
المسارُ الأول هو المسارُ الإلغائي الإسرائيلي، الذي يقومُ على مقاربةٍ تعتبر أنَّ كل ما يُطرَحُ اليوم من محاولاتٍ للتسوية لا يتجاوزُ في جوهره مفهوم “الهدنة” المؤقتة. حتى هذا المفهوم، إن قُدّرَ له أن يتحقّق، فلن يتمَّ إلّا وفق الشروط الإسرائيلية التي تضُع في أولويتها تحرير الأسرى وامتصاص الضغوطات الدولية، وهي ضغوط تُثبت الوقائع الميدانية أنها غير فعّالة إلى حدّ كبير. أما الهدف الأبعد لتل أبيب فيبقى ثابتًا وواضحًا: العودة إلى استكمال مشروعها السياسي والعسكري المُعلَن، وهو ما تؤكّده تصريحات مسؤوليها على مختلف المستويات. تقومُ هذه السياسة، في جوهرها، على إلغاءِ أيِّ أفقٍ واقعي لحلّ الدولتين، وإجهاضِ إمكانية قيام الدولة الفلسطينية المنشودة، وذلك عبرَ فَرضِ تغييراتٍ جذرية في البُنية الديموغرافية والجغرافية للأرض الفلسطينية. هذه السياسة تُترجَمُ عمليًا بعمليات الطرد والتهجير، سواء أكانت مُتدرّجة أم مُتسارعة، مع خلقِ بيئةٍ خانقة وضاغطة تجعل من الصعب على الفلسطيني البقاء في منزله أو أرضه. ويَظهَرُ هذا النهجُ جَليًا في التصعيد العسكري العنيف والمُمَنهج في الضفة الغربية بهدفِ فرضِ تغييرٍ ديموغرافي عميق، فيما يتجلّى في قطاعِ غزة بشكلٍ أسرع وأكثر قسوة، حيث تسعى إسرائيل إلى دَفعِ سكانه قسرًا نحو الجنوب، تمهيدًا لفَرضِ حصارٍ ديموغرافي خانق يُرادُ له أن ينتهي بطردٍ واسع إلى خارج القطاع. إنها حربُ اقتلاعٍ وتغييرٍ ديموغرافي تدريجي، كُلَّما طالت مدتها ازدادت فُرَصُ نجاحها في تحقيقِ ولو جُزءٍ من أهدافها.
وفي موازاةِ ذلك، تنشطُ إسرائيل على مسارٍ آخر في الجبهة السورية، حيثُ تعملُ على إقامةِ وتوسيع ما تصفه بـ”المناطق العازلة” وتسعى إلى تكريسها كأمرٍ واقع. وقد بدأت بالفعل محاولات التفاوض حول هذه المناطق برعايةٍ أميركية، بما يعكسُ رغبة إسرائيل في تحويلِ التدخُّل العسكري إلى ترتيباتٍ أمنية دائمة. أما على الجبهة اللبنانية، فإنَّ إسرائيل لم تُقِرّ عمليًا ب”وقف الأعمال العدائية” الذي جرى التوصُّلُ إليه في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، بل أبقت التزامها في حدودٍ شكلية وعلى الورق فقط. فهي تُواصِلُ عملياتها العسكرية بوتيرةٍ متفاوتة بين التصعيدِ والتخفيض، فيما عمدت إلى إقامةِ نقاطِ مراقبة جديدة داخل الأراضي اللبنانية، بما في ذلك خمس تلال محتلة تُشكّلُ خرقًا واضحًا. وإلى الآن، لا تزالُ الأطراف الدولية، ولا سيما أعضاء اللجنة الخماسية المُكَلّفة بمراقبة وقف إطلاق النار، عاجزةً عن دفع إسرائيل إلى احترام الاتفاق، فضلًا عن المضي الجدي في تنفيذ القرار 1701 الصادر عن مجلس الأمن الدولي. ويبدو أنَّ هذا المسار لن يكونَ مُمكنًا ما لم يترافق مع دعمٍ فعلي وواقعي لقرار الدولة اللبنانية في حصر السلاح بيد المؤسّسات الرسمية المُخَوَّلة.
إنّ ما نشهده هو مسار حرب إسرائيلية تغييرية مفتوحة، مدعومةً بشكلٍ مباشر من الولايات المتحدة، تسعى إلى ترسيخ مشروع “إسرائيل الكبرى” المُمتدة من نهر الأردن إلى البحر الأبيض المتوسط. وضمن هذا المشروع، قد يجري الإبقاء على بعضِ المناطق الفلسطينية بشكل “جُزرٍ” معزولة، تُدارُ عبرَ شكلٍ من أشكال الحكم الذاتي المحدود تحت سقف صلاحيات منخفضة، بما يضمن لإسرائيل السيطرة الفعلية على مُجمل الأرض. هكذا يتحوَّلُ الصراع إلى مشروع حرب مستمرّة، لا يتوقّفُ عند حدود فلسطين وحدها، بل يُشكّلُ مادةً قابلةً للاستثمار في صراعاتٍ إقليمية أشمل، وهو ما تُثبتهُ شواهد التاريخ القريب والبعيد على حدٍّ سواء.
أمامَ سيناريو الحرب المفتوحة والمُمتَدّة بأشكالٍ ومستوياتٍ مُتعدّدة، والتي تتغذّى من “لعبة القوى” في المنطقة وتُعيدُ بدورها تغذيتها، يبرز في المقابل سيناريو آخر مُناقِض تمامًا لما سبق. إنه سيناريو حلّ الدولتين، الذي يُشكّلُ العنوان العريض للمبادرة المشتركة السعودية–الفرنسية، ويحظى في الآونة الأخيرة بدعمٍ دولي مُتنامٍ. وقد تجلّى هذا الزخم بوضوح في الإعلان الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في هذا الشأن، وهو ما أضفى على المبادرة طابعًا أكثر جدّية وإلزامية. ومن المنتظر أن تُضيفَ قمة نيويورك دفعةً قوية باتجاه دَعمِ هذا المسار، رُغمَ ما يعترضه من عقباتٍ أساسية، يأتي في مقدمتها الموقف الإسرائيلي الرافض كليًا لفكرة حلّ الدولتين، والموقف الأميركي الداعم بشكلٍ كامل لهذا الرفض.
وفي هذا السياق، تكتسبُ القمّة المُصغَّرة التي دعا إليها الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وتجمع (اليوم الثلثاء) زعماء خمس دول عربية (السعودية والإمارات وقطر ومصر والأردن) إلى جانب تركيا لمُناقشة الوضع في غزة، أهمّيةً خاصة، إذ تُوَفِّرُ فرصةً مناسبة لإعادةِ طَرحِ موضوع حلّ الدولتين على الطاولة الدولية. غيرَ أنَّ التحدّي الأكبر يبقى في الخروج من هذه اللقاءات بخريطةِ طريقٍ واضحة ومُحدَّدة المعالم تُتيحُ تحويلَ هذا الهدف إلى مسارٍ عملي، بالرُغمِ من الصعوبات الجمّة التي تعترضه وما يفرضه من مسارٍ طويلٍ ومُعَقّد، كما أشرنا سابقًا. ومع ذلك، يظلُّ هذا الخيار هو الوحيد القادر على فتحِ البابِ أمامَ سلامٍ شاملٍ وعادلٍ ودائم، سلامٌ يستندُ بوضوحٍ إلى مبادرة السلام العربية التي أُقِرَّت في قمة بيروت في العام 2002.
إنَّ المطلوبَ اليوم ليس الاكتفاء بالشعارات أو المبادرات العامة، بل صياغةُ خريطة طريق دقيقة وجدول زمني محدّد، حتى لو اتَّسَمَ بشيءٍ من المرونة، لكن من دون أن يُترَكَ مفتوحًا بلا أفُق. فالإمكانات السياسية والديبلوماسية المُتاحة –وهي قوية وفاعلة إذا ما أُحسِن توظيفها– يُمكنُ أن تُسهِمَ بفاعلية في دَفعِ هذا المشروع إلى الأمام، وجعل تحقيقه مُمكنًا رُغم صعوبته، إذ يبقى حلًّا صعبًا ولكنه ليس مستحيلًا.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).