ماذا يُريدُ “حزبُ الله” منَ السعودية؟

في لحظةٍ إقليمية دقيقة، أطلق “حزب الله” إشارةً مفاجئة باتجاه المملكة العربية السعودية، عارضًا الحوار وطيّ صفحة الماضي. هذه الدعوة غير المسبوقة تطرحُ تساؤلاتٍ حول حسابات الحزب وأهدافه من الانفتاح على خصمٍ تاريخي.

الأمير محمد بن سلمان مُستقبلًا علي لاريجاني: ماذا تمَّ في هذا اللقاء؟

 

ملاك جعفر عبّاس*

في تحوُّلٍ كبيرٍ في الخطاب السياسي، وَجَّهَ الأمين العام ل”حزب الله”، الشيخ نعيم قاسم، دعوةً للمملكة العربية السعودية إلى حوارٍ ل”تصفية العلاقات وفتح صفحةٍ جديدة مع المقاومة” ضمن الأُسُس التالية:

  • “حوارٌ يُعالِجُ الإشكالات ويُجيبُ عن المخاوف ويؤمّنُ المصالح؛
  • حوارٌ مَبنيٌّ على أنَّ إسرائيل هي العدو وليست المقاومة؛
  • حوارٌ يُجمِّدُ الخلافات التي مرّت في الماضي على الأقل في هذه المرحلة الاستثنائية؛
  • سلاحُ المقاومة وُجهَتهُ العدوّ الإسرائيلي وليس السعودية ولا لبنان ولا أيّ جهةٍ في العالم؛
  • إنَّ الضغطَ على المقاومة هو ربحٌ صافٍ لإسرائيل، وعندما لا تكونُ المقاومة موجودةً فإنَّ الدورَ سيأتي على الدول؛
  • حتى المقاومة في فلسطين هي جُزءٌ من هذه المقاومة التي تُعتَبَرُ سدًّا منيعًا أمامَ التوسُّع الإسرائيلي”.

كلامُ قاسم وَقَعَ كالصاعقة على بيئة الحزب أوّلًا، وإعلامه ثانيًا لأنه، وكما هو واضح، أتى من خارجِ سياقِ السردية الثابتة للحزب أنَّ المملكة العربية السعودية تُعتَبَرُ من الناحيتَين العقائدية والسياسية عدوًّا للشيعة وخصمًا لدودًا لإيران، وهي جُزءٌ من محور التطبيع مع الصهاينة، وأيُّ مُتعاملٍ معها أو مؤيِّدٍ لسياساتها هو بالضرورة سعودي-صهيوني، وهما في أدبيات الحزب وجهان لعملة واحدة. ومن الواضح أنَّ الانعطافة الكبرى أتت من دون التنسيقِ المُسبَق مع الإعلام الحزبي الذي لم يعرف كيف يتعاملُ معها، وكان الإرباك واضحًا على مواقع التواصل الاجتماعي خصوصًا وأنَّ الخطاب لم يُقدِّم مُطالعةً سياسيّةً شاملة تُبرّرُ التغيُّرَ في المواقف. فبالنسبة إلى هذا الجمهور، كانت السعودية حتى الأمس القريب ترعى المشروع الصهيو-أميركي في لبنان من خلال الدفع باتجاه حصرية السلاح بيد الدولة من خلال عميلها نوّاف سلام، وهي تمنع إعادة الاعمار قبل تحقيق هذا الشرط. كما إنّها تقودُ زخمًا سياسيًّا داخليًا يعتبره الحزب انقلابًا على كلِّ التفاهمات السابقة معه، بدايةً من تسمية نوّاف سلام رئيسًا للحكومة، إلى اتّخاذ قرار في مجلس الوزراء بحصرية السلاح. عقائديو الحزب الملتزمون بتعليمات القيادة اعتبروا أنَّ الانفتاحَ على السعودية ضربةُ مُعلِّمٍ للتحاور مباشرة مع “الأسياد” بدل التحاور مع “العبيد”، في إشارةٍ الى رئيس الحكومة نوّاف سلام. أما أنصار الحزب من قدامى اليسار، فاعتبروا أنَّ السعودية أمامَ فُرصةٍ لا تُعَوَّض يجب أن تلتقطها لتُثبِتَ للعرب والمسلمين عروبتها ودفاعها الحقيقي عن فلسطين، وأنَّ لحظةَ الوحدة العربية-الإسلامية باتت قابَ قوسَين أو أدنى. كما أثارَ الخطابُ مَوجَةَ سُخريةٍ وتَنمُّرٍ من خصوم الحزب عكست في باطنها شيئًا من التوجُّس من تلاقي مصالح سعودي-إيراني يضعُ آمالَ المعارضين ل”حزب الله” في مهبِّ الريح.

في الحقيقة، اذا ما تجاوزنا البُعدَ الدعائي للخطاب، نرى أنه يأتي في لحظةٍ دوليّة وإقليميّة ومحلّية بالغة التعقيد تعكسُ رهاناتٍ أوسع ترتبط بالتوازُنات الإقليمية من ناحية، وإعادة التموضع الداخلي للحزب من ناحية أخرى. فضربةُ قطر والاندفاعة الجنونية لبنيامين نتنياهو في غزة وحديثه عن إسرائيل الكبرى وإسبارطة الخارقة، خلقَ يقينًا لدى دولِ المنطقة بأنَّ لحظةَ مواجهةٍ كبرى ستأتي، وأنَّ لا أحدَ سينجو منها أو مَن سيكون التالي فيها. هذه اللحظة تقتضي مزيدًا من التكاتُف والتضامُن، ووَضعِ الخلافاتِ جانبًا لمواجهة الجموح الإسرائيلي المنفلت من أيِّ ضوابط.

الحسابات الإيرانية

تُدرِكُ إيران أنَّ انتصارَ نتنياهو في غزة، معطوفًا على شللٍ عربي وإسلامي في استنهاضِ ردٍّ ملموسٍ على اعتدائه على قطر، سيفتحُ البابَ أمامه لاستئناف ما بدأه في حرب الاثني عشر يومًا في لبنان، وقد يتمكّنُ حرفيًا من طمس “محور المقاومة” إلى الأبد. كما تُدرِكُ أنَّ مشروعها النووي بات في مهبِّ الريح، ليس فقط بسبب الضربة الإسرائيلية-الأميركية التي تلقّاها، إنّما أيضًا بسبب غيابِ أيِّ أُفُقٍ لعودة المفاوضات مع الولايات المتحدة وتفعيل الية الزناد الأوروبية، ما يهدّدُ بعودة العقوبات الأُممية أواخر هذا الشهر في ظلِّ صعودِ ماردٍ سُنِّي نووي يُشكّلُ قوةَ ردعٍ حقيقية لها أوّلًا ولإسرائيل. فالمعاهدة الدفاعية السعودية-الباكستانية فتحت آفاقًا جديدة للرياض خفّفت اعتمادها التقليدي على المنظومة الأميركية. كما إنَّ المشروعَ الدولي الذي تقوده المملكة، مع فرنسا، للاعتراف بالدولة الفلسطينية جعلها رقمًا صعبًا في صوغ المعادلات الدولية على عناوين تاريخية طالما اعتبر “محور الممانعة” أنّهُ يَحتكرُ الحديث عنها.

قبل أن يجفَّ حبرُ التوقيع على المعاهدة، واستباقًا لانعقاد الجمعية العامة في نيويورك، حطت طائرة رئيس المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي لاريجاني، في الرياض مُستَكمِلةً لقاء جمع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بالرئيس الإيراني مسعود بيزيشيكيان على هامش قمة قطر. هل أتى عارضًا معاهدة دفاعية استكمالًا للاتفاق المُوَقّع في بكين في 2023؟ هل قدّمَ اعتذارًا للمملكة على امتناع بلاده عن التصويت على إعلان نيويورك اسوةً بدولٍ كثيرة مُؤيِّدة لإسرائيل؟ لم تَرشَح عن لقاءات لاريجاني معلوماتٌ يُمكنُ أن تزيحَ الغموض عن هدف الزيارة، إلّا أنَّ خطابَ قاسم شكّلَ أولى نتائجها على ما يبدو. فإيران التي قدّرت موقف المملكة بالحفاظ على التفاهمات الثنائية في لحظة الاختبار الصعبة خلال حرب حزيران (يونيو) الإسرائيلية-الإيرانية ربما تُفكّرُ في تعزيز هذا التفاهم بتعاونٍ أكبر، والذي يبدو أنَّ أولى بوادره كانت في كلام نعيم قاسم من لبنان، وربما، إن كان هذا التحليلُ صائبًا، سيتبع كلامه بمواقف مماثلة من الفصائل العراقية ومن حركة “حماس” التي كانت إلى زمنٍ قريب تُحافظُ على علاقة شعرة معاوية مع المملكة اعتبارًا لزعامتها الإسلامية السُنّية.

إيران، التي استثمرت في الجماعات المسلّحة العابرة للحدود الوطنية، اعتبرت لزمنٍ طويل أنَّ هذا الاستثمار هو بمثابة قنبلة نووية بشرية بمواجهة إسرائيل التي عزفت لوقتٍ طويل عن الدخول في مواجهةٍ مباشرة مع المحور، ما عزّز لديه القناعة بقوة الردع التي يمتلكها . فالخزّان البشري الشيعي المسلّح من أفغانستان إلى لبنان يُشكّلُ معينًا لا ينضب من الشباب المؤدلج المُنتظِر لتكليفٍ شرعي من مرشد الثورة الإسلامية للدخولِ في صراعٍ نهائي مع إسرائيل. هل حاولَ لاريجاني ضمَّ السعودية إلى وحدة الساحات أم عرض تلزيم الحرس الثوري وأذرعه لها كقوة ردع إقليمية تُضافُ إلى النووي الباكستاني؟ وإلّا كيف يُفسَّرُ كلام نعيم قاسم بدعوة السعودية لتجميد الخلافات مؤقتًا والعمل معًا في مواجهة إسرائيل؟ هل يطلب من السعودية دعم “حزب الله” و”حماس” وحركة الحوثي والفصائل العراقية مرحليًا ثم يعودُ إلى سرديته القديمة في العداء “لآل سعود”؟ لا شكَّ أنَّ “حزب الله” يتبع تنظيميًا وعقائديًا بشكلٍ كامل لمركز القرار في إيران، لكن العلاقة اتسمت بشيءٍ من المرونة أتاحتها المكانة الخاصة التي كان يحظى بها الأمين العام السابق السيد حسن نصر الله عند المرشد الأعلى علي الخامنئي. فعند اندلاع الثورة السورية أرسل المرشد قائد فيلق القدس حينها قاسم سليماني إلى بيروت حاملًا معه تكليفًا شرعيًا من الخامنئي بضرورة التحرّك سريعًا لإنقاذ نظام بشار الأسد. وقد وضع سليماني خطةً طويلة ومُتعدِّدة المراحل تشملُ أبعادًا دينية وثقافية تحدّثَ عنها بإسهاب القيادي في فيلق القدس حسين همداني في كتابه “رسالة الأسماك”. وقد أوضح همداني أنَّ نصر الله لم يُوافِق على الخطة، وطلبَ تعديلها بما يتواءم مع طبيعة التهديد، قائلًا لسليماني: “الآن أصدقاؤنا السوريون عالقون في المستنقع، وأنت تُريدُ أن تنشطَ ثقافيًا؟ هم غارقون وتُريدُ بنظرتك الاقتصادية أن تُخَيِّطَ لهم طقمًا؟”. ثم عاد سليماني إلى إيران وعُدِّلَت الخطة. وبعد أن عاد إلى لبنان عرضها مُجدّدًا على نصر الله فوافق. هذا المثالُ غيضٌ من فيضِ مواقف طبعت علاقة الحزب بالقيادة في قم والتي جعلته يتفاخر في أكثر من مناسبة بأنه من السادة عند الولي الفقيه وليس من التابعين. لكن نعيم قاسم ليس حسن نصر الله كما بات يُدرِكُ الجميع، فقد أقدم الرجل على تلاوة الشروط الستة للتحاور مع السعودية بلا مطالعة سياسية ولا مراجعة سردية ولا تحضير للبيئة أو الإعلام أو المقربين، وربما لم يقل قاسم للاريجاني إنَّ ما بين المملكة والحزب ما صنع الحداد، وهو مصنَّف إرهابيًا عندها منذ 2016 وتتهمه بالضلوع في تفجيرات الخُبَر في العام 1996، ولا تكفي دعوته لها لتجميد الخلافات والبحث في الإشكالات لطي صفحة الماضي. ففيما خلا إشارة عضو المكتب السياسي الحاج محمود قماطي قبل نحو أسبوع عن أنَّ لا خصومة بين الحزب والمملكة، لم تكن هناك أيُّ إشارةٍ إيجابية لايِّ تقارُبٍ محتمل. لذا يُعادُ السؤال هنا: ما الذي يريده الحزب من طرح فكرة الحوار مع الرياض؟

الحسابات الداخلية

لا يتوقّفُ الحزب كثيرًا عند القول السائد بأنَّ المملكة لا تُحاوِرُ إلّا من دولةٍ لدولة، فهي تلتقي عبر موفدها إلى لبنان، الأمير يزيد بن فرحان، مجموعات حزبية كثيرة يُريدُ الحزب على ما يبدو أن يكونَ من ضمنها، ولكن بشروطه. فما الذي يدفعه للاعتقاد بأنه في موقعٍ يسمحُ له بوَضعِ أيِّ شروط؟ أشار نعيم قاسم في خطابه إلى جلسة الخامس من أيلول (سبتمبر) باعتبارها “التكويعة” التي أنقذت لبنان من فتنة 5 آب/أغسطس”، حيث يبدو أنَّ الحزبَ يعتقدُ جدّيًا أنه جمّدَ مسارَ حصر السلاح وعطّلَ اندفاعة العهد والحكومة، علمًا أنَّ هذا الكلام يتناقضُ مع الإشادة بالجهد الذي يقوم به الجيش في مسار حصر السلاح، والتقدُّم الذي يحرزه والذي شدّد عليه المبعوث السعودي، بن فرحان، حسبما نقل عنه الإعلام اللبناني، وكلام المبعوثة الأميركية مورغان أورتاغوس في آخر اجتماعٍ لها مع لجنة “الميكانيزم”.

في المقلب الآخر، يُركّزُ الحزب في حملته المُتوافقة مع ذكرى حرب أيلول (سبتمبر) 2024 على هاشتاغ “تَعافَينا”. يتيح مقابلات مطوَّلة مع جرحى عملية تفجير “البايجر” لوسائل الاعلام، يقدّمُ عرضًا عسكريًا خاليًا من السلاح لرفع معنويات البيئة التي تنتظر يوميًا رؤية هذا الهاشتاغ على شكل صواريخ توقف كابوس الانتهاكات اليومية التي تجاوزت ال4500 خلال العام الماضي وأحدثت شللًا غير مسبوق في كلِّ القطاعات الاقتصادية في منطقتي الجنوب والبقاع. يتحدّثُ الحزب عن مليار ونصف المليار دولار تمَّ رصدها للمباشرة في إعادة الاعمار ولا يُقدِّم إجابةً للناس كيف يمكن أن يمنعَ إسرائيل من تكبيد لبنان ملياراتٍ إضافية إن بقيت حالة الجمود مسيطرة. يُصدّقُ الحزب سردية إعلامه، وينشغلُ “الثنائي الشيعي” حتى النخاع بالتحضير للانتخابات النيابية المقبلة على اعتبارِ أنها استفتاءٌ على شرعيةِ أحادية تمثيله للشيعة على وقع سردية التعافي. ربما يغازل فكرة الحلف الرباعي الذي حكم انتخابات 2005 فوق دم رفيق الحريري الذي لم يكن قد جفَّ بعد. تجميدٌ للخلاف إلى ما بعد الانتخابات، تبادُل خدمات وأصوات في الدوائر المختلطة، يضمن 27 نائبًا ورئاسة المجلس ثمَّ لكلِّ حادثٍ حديث. فعنما أوجزَ قاسم مطالبه في نهاية خطابه قال: “فلنكُن يدًا واحدة لطرد إسرائيل وبناء لبنان. نجري الانتخابات النيابية في موعدها وتضع الحكومة بند الاعمار كأولوية وتسرّع عجلة الإصلاح المالي والاقتصادي. نكافح الفساد ونتحاور بإيجابية حول استراتيجية للأمن الوطني”.

في لحظة تقاطع المصالح الكبرى يعتبر “حزب الله” ربما أنَّ اللحظة مواتية لتجرُّعِ كأس سمٍّ صغيرة لا تقتل يتمكن من خلالها من الحصول على اعترافٍ ضمني بشرعية سلاحه، وكسر عزلته العربية، وترتيب مستقبله وتمثيله السياسي عبر خطابٍ أكثر براغماتية وأقل استقطابًا، وقد يقتضي هذا الأمر إعادة هيكلة داخلية من خلال استبعاد بعض الوجوه الإشكالية التي ستُحَمَّلُ مسؤولية تخريب العلاقة مع المملكة مقابل الموت المُحقّق إن لم يتحرّك، وإن لم تُلاقِهِ المملكة في منتصف الطريق سيحمّلها الشيعة مسؤولية رفض اليد الممدودة وتبعاتها.

يكشف خطاب نعيم قاسم لحظة سيولة سياسية يعيشها الحزب داخليًا وخارجيًا يحاول التفكير خارج الصندوق، لكنه يكشف عن مأزق أعمق للواقع السياسي الإقليمي الجديد، تمامًا كالقصور عن فهم الهوّة الشاسعة التي كانت تفصله عن إسرائيل عشية حرب الإسناد. لقد خلق “حزب الله” فقّاعات فكرية اعتقدَ كثيرون أنه يؤدلج بها اتباعه فقط، لكنه على ما يبدو يُصدّقها وقد آنَ الأوان ليُدرِكَ أنها مجرّد فقّاعات لن تصمد، وبات ملحًّا أن يتحلّى بالشجاعة ليُصارح بيئته قبلَ أيِّ طرفٍ آخر بأنه ربما أسقط في يده.

  • ملاك جعفر عباس هي كاتبة سياسية وإعلامية لبنانية حاورت شخصيات عربية وعالمية عدة خلال عملها في شبكة “بي بي سي نيوز عربي”. وقد تخصصت في دراسة مكافحة الإرهاب والجماعات المسلحة في جامعة كينغز كولدج لندن. يمكن التواصل معها عبر منصة Linkedin” على: linkedin.com/in/malakjaafar

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى