الخليج وإيران في مواجهة المشروع الإيديولوجي الإسرائيلي

الدكتور داوود البلوشي*

منذ قرون، بُنيت الفكرة الصهيونية على أساسٍ ديني-عرقي يعتبرُ اليهود “شعبَ الله المُختار”، وهي رؤيةٌ تتجاوزُ حدود العقيدة لتتحوَّل إلى مشروعٍ سياسي-استعماري هدفه التحكُّم بمقدرات المنطقة والعالم. هذه الإيديولوجيا، التي تغذت على آلام المحرقة (الهولوكوست) وتناقضات الغرب، تحوّلت في إسرائيل إلى عقيدةٍ دولانية تسعى إلى فرض السيطرة عبر العنف والتفوُّق الديني، وتبرير الاستيطان والإبادة كما هو حاصل في غزة.

لكنَّ الأخطر أنَّ هذا المشروع يسعى إلى فرض هيمنة مستقبلية على منطقة الشرق الأوسط بأكملها، ليس فقط ضد الفلسطينيين، بل عبر تفكيك المحيط الإسلامي: إيران، باكستان، السعودية، العراق، تركيا، بل والخليج العربي كله، بهدف خلق شرق أوسط جديد تديره تل أبيب اقتصاديًا وأمنيًا، وتكون لها اليد العليا في الطاقة والتجارة والسياسة. وقد تجلّى هذا التوجه عمليًا في سياسات متعددة، أبرزها استهداف المنشآت النووية في إيران، ومحاولات زرع الانقسام المذهبي والقومي والطائفي بين شعوب المنطقة، بحيث تُدار النزاعات من الداخل.

بعكس الرؤية الإسرائيلية، فإنَّ الولايات المتحدة، رُغمَ دعمها العميق للدولة العبرية، لا تشاركها بالكامل هذا التوجُّه التفكيكي. أميركا، ومنذ عهد باراك أوباما، لا تسعى إلى تغيير النظام في إيران عبر الفوضى، بل إلى تطويعه واحتوائه ضمن توازن القوى. فهي تدركُ أنَّ انهيارَ إيران سيُشعل الخليج، ويُهدّدُ إمدادات النفط، ويرفع أسعار الطاقة، ويخلق فراغًا تملؤه الصين وروسيا.

واشنطن لا تريد حربًا جديدة، بل تريد:

  • استقرار نسبي في الخليج؛
  • ضبط البرنامج النووي الإيراني بدون تفجير الداخل؛
  • استمرار الملاحة الآمنة في مضيق هرمز وباب المندب؛
  • الحفاظ على الأسواق العالمية من الانهيار.

وقد تبيَّنَ منذ الضربة الأميركية–الإسرائيليةالأخيرة لمواقع تخصيب اليورانيوم داخل إيران، أنَّ التوجُّهَ الأميركي كان يسعى بالدرجة الأولى إلى الضغط لا إلى التفكيك، بخلاف التوجُّه الإسرائيلي الأكثر تطرُّفًا.

في المقابل، ترى إسرائيل أنَّ الوقتَ قد حان لضرب إيران عسكريًا. ليس فقط بسبب برنامجها النووي، بل لأنها تُمثّلُ تهديدًا إيديولوجيًا لهيمنتها. وهي تحاول جرَّ واشنطن إلى هذه المواجهة، مثلما فعلت في ضرب منشآت التخصيب، وتوسيع الحرب في غزة، وشن هجمات على سوريا ولبنان والعراق.

لكنَّ الضربات الإيرانية على قاعدة العديد في قطر، والردود الإيرانية المنضبطة، جعلت واشنطن تتراجع وتُعيد التفكير. هذه اللحظة كشفت لإيران ودول الخليج معًا أنَّ الأمن الإقليمي يجب أن يُبنى بالتعاون، لا بالارتهان لإسرائيل. كما أبرزت حقيقة مفادها أن إسرائيل أصبحت عبئًا على أميركا نفسها، سياسيًا وأخلاقيًا، في ظل المجازرالمرتكبة في غزة، والضغوط القضائية الدولية المتزايدة.

من ناحية أخر، خلال العقود الماضية، لم تكن العلاقات بين إيران والخليج عدائية جوهريًا، بل مشوبة بالحذر. منذ تأسيس مجلس التعاون الخليجي في العام 1981، لم يكن الهدف معاداة إيران، بل حماية الداخل الخليجي من آثار الثورة الإيرانية. لكن تبين لاحقًا أنَّ العدو المشترك ليس إيران، بل المشروع الإسرائيلي الذي يريد تدمير الجميع.

اليوم، مع إدراك الدول الخليجية العربية لحقيقة التهديد، ومع ما شهدته المنطقة من خراب في سوريا والعراق واليمن، تزداد الحاجة لتكتل إقليمي يضم إيران والخليج، يحمي الممرات البحرية، ويدير التوازنات الإقليمية. ويُعيد ضبط التنافس الإقليمي بعيدًا من التصعيد الطائفي والمذهبي، الذي طالما استفادت منه قوى خارجية.

الواقع أنَّ كلَّ ذلك يجري والنظام العالمي بين التفكّك والتحوُّل.

نحنُ في نهايات دورة كبرى بدأت بعد الحرب العالمية الثانية:

  • النظام المالي يهتز: تراجع الدولار، ارتفاع الديون العالمية، اختلال موازين البنوك المركزية.
  • الأمن الغذائي مُهدَّد نتيجة الحروب والعقوبات وسلاسل الإمداد.
  • الطاقة أصبحت سلاحًا سياسيًا، كما في أزمة أوكرانيا وشرق المتوسط والبحر الأحمر.
  • الاتحاد السوفياتي تفكك، وأميركا بدأت تتراجع.
  • الصين تصعد تكنولوجيًا وعسكريًا.

ووسط هذا، تحاول إسرائيل احتكار النفوذ باسم الحق الإلهي، لكنها تصطدم الآن بإرادة إقليمية ودولية جديدة لا تقبل بالأحادية.

إذا اجتمعت دول الخليج مع إيران على أسس عقلانية، فإنَّ ذلك يعني:

  • أمن الطاقة العالمي.
  • استقرار الممرات البحرية.
  • إنهاء الحروب في اليمن والعراق وسوريا.
  • فرض توازن حقيقي مع إسرائيل.
  • خلق تكتل تفاوضي مع أميركا والصين وأوروبا.

وهذا لا يعني وحدةً إيديولوجية، بل وحدة مصالح. والتاريخ يعلّمنا أن المصالح تدوم أكثر من العقائد. والمثال الأبرز كان تقارب إيران ودول الخليج بعد الإدراك المشترك أن الانهيار الأمني سيخدم فقط طرفًا واحدًا هو إسرائيل.

لذا، بدلًا من أن يُعاد تشكيل المنطقة وفق رؤية إسرائيلية عنصرية، يُمكن اليوم أن تُبنى رؤيةٌ إقليمية تحفظ كرامة الشعوب، وتحمي المصالح المشتركة، وتُخرِجُ المنطقة من منطق الصراع الأبدي إلى منطق التوازن والتفاهم.

فالوكيل الإقليمي الجديد، لن يكونَ دولة واحدة، بل مجموعة ناضجة، دول الخليج العربية وإيران، قادرة على حماية نفسها، والتفاوض بندّية، وصناعة مستقبلها بيدها.

وهذا، هو التحدي الأكبر والفرصة الأكبر أيضًا.

  • الدكتور داوود البلوشي هو محام ومستشار قانوني عُماني. حاصل على الدكتوراه في القانون من جامعة السوربون. وهو أستاذ محاضر في جامعة السلطان قابوس في مسقط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى