الإنتخاباتُ في سوريا يجب أن تَتَجَاوَزَ مُجرَّد مَلءِ مقاعِد

الدكتور حايد حايد*

أعلنت السلطاتُ الانتقالية السورية عن عزمها على إجراءِ انتخاباتٍ برلمانية غير مباشرة في أيلول (سبتمبر) المقبل، وهي الأولى منذ سقوطِ حكومة بشار الأسد. بعدَ أكثرِ من عقدٍ من الحرب والتشرذُم وفشل جهود السلام، يُمثّلُ إحياءُ الحياةِ البرلمانية نقطةَ تحوُّلٍ حاسمة وبصيصَ أملٍ نادر.

على الورق، تُقدِّمُ العمليةُ تحسيناتٍ مُتواضِعة ولكنها ذات مغزى مُقارنةً بالجهود الانتقالية السابقة. فهي تَعِدُ بتمثيلٍ أوسع، ومراحل تشاورية مُتعدِّدة، وآليات استئناف، ومحاولة لتعزيز مشاركة المرأة.

إلّا أنَّ هذه العناصر الواعدة يُحيطُ بها غموضٌ هيكلي وتساؤلات. مَن سيختارُ اللجان الفرعية الانتخابية القوية، وبأيِّ معايير؟ كيف سيتمُّ تطبيق حصص (كوتا) التمثيل؟ ما هو الصوت الذي ستتمتّعُ به المناطق الخارجة عن سيطرة دمشق؟ والأهمُّ من ذلك، مَن سيَضمَنُ الرقابةُ المُستقلّة لضمانِ المصداقية؟

بدونِ إجاباتٍ واضحةٍ وشفافيّةٍ حقيقية، تُخاطرُ هذه الانتخابات بأن تُصبحَ مُمارسةً أخرى من أعلى إلى أسفل – مما يُعزّزُ التشكيك العام بدلًا من استعادة الثقة.

انطلقت العملية رسميًا في 13 حزيران (يونيو) الفائت، عندما أعلن الرئيس المؤقت أحمد الشرع تشكيلَ لجنةٍ عُليا لانتخابات مجلس الشعب، مؤلَّفةً من 11 عضوًا. مهمّة هذه الهيئة تنحصرُ بتصميمِ ووَصعِ نظامٍ انتخابي غير مباشر والإشراف عليه، قائم على الهيئات الانتخابية، وليس على التصويت العام، لتشكيلِ المجلس الجديد. كان عددُ أعضاءِ المجلس قد حُدِّد في الأصل بـ 150 عضوًا، ثم وُسِّع إلى 210 أعضاء بموجب مشروع قانون انتخابي قُدِّم إلى الشرع في 26 تموز (يوليو). وسيتمُّ اختيارُ ثُلثَي الأعضاء من خلال عملية تقودها اللجنة، بينما يُعيِّن الرئيس المؤقت الثلث الآخر مباشرةً.

بمجرّد الموافقة على مشروع القانون، سيكونُ أمام اللجنة العليا أسبوعٌ واحد لتشكيلِ لجانٍ فرعية من عضوَين في كلِّ محافظة من محافظات سوريا الأربع عشرة. وسيكونُ أمامَ هذه اللجان بعد ذلك 15 يومًا لتشكيلِ هيئاتٍ انتخابية على مستوى الدوائر، يعتمدُ حجمها على عددِ المقاعد المُخَصَّصة لكلِّ دائرة. وسيستندُ توزيعُ المقاعد على مستوى المحافظات والدوائر إلى بيانات تعداد العام 2010. يقتصرُ حقُّ الترشُّحِ والتصويت في هذه الانتخابات المحلية على أعضاءِ الهيئة الانتخابية فقط. ومن المُقرَّر إجراء التصويت على مجلس الشعب، المؤلف من 210 أعضاء، في الفترة ما بين 15 و20 أيلول (سبتمبر) المقبل.

ومن الجدير بالذكر أنَّ تشكيلَ اللجنة ونهجها التشارُكي يُمثِّلان تَحَوُّلًا عن الجهود الانتقالية السابقة. والأهمُّ من ذلك، أنها تبتعدُ من هيمنةِ جهةٍ فاعلة واحدة -أبرزها “هيئة تحرير الشام”- التي اتسمت بها المبادرات السابقة. وتتميّزُ الهيئة الحالية، المؤلفة من 11 عضوًا، بتنوُّعٍ أكبر: سبعةُ أعضاءٍ كانوا تابعين سابقًا للمعارضة الرسمية، واثنان مُرتَبطان بحكومةِ الإنقاذ بقيادة “هيئة تحرير الشام”، وشخصيتان مدنيتان مستقلّتان. ورُغمَ أنَّ إشراكَ امرأتين فقط لا يرقى إلى مستوى المساواة، إلّا أنه يُمثّلُ خطوةً متواضعة نحو مشاركةٍ نسائية أوسع.

من الناحية الإجرائية، اعتمدت اللجنة موقفًا أكثر شفافيةً وتشاورًا من العديد من اللجان السابقة. فقد عقدت منتديات عامة واجتماعات تَواصُلٍ على مستوى المحافظات لعَرضِ إطارها الانتخابي المُقتَرَح وطلب الملاحظات. كما تمَّ اعتمادُ العديد من الضمانات الإجرائية، بما في ذلك فترة لتقديم الاعتراضات المُتعلّقة باختيار الهيئات الانتخابية وترشيحات المرشّحين، بالإضافة إلى إنشاءِ لجانِ استئناف لمراجعة هذه الطعون. كما التزمت اللجنة بتطبيقِ حصصِ التمثيل، بما في ذلك حد أدنى 20% للنساء و2-3% للأشخاص ذوي الإعاقة.

ومع ذلك، لا تزالُ العمليةُ، في ظاهرها، محفوفةً بغموضٍ كبير. فعلى الرُغمِ من جهودِ التواصل التي تبذلها اللجنة، لا تزالُ هناك أسئلةٌ جوهرية بدونِ إجابة، لا سيما في ما يتعلّقُ بتشكيلِ اللجان الفرعية الانتخابية على مستوى المحافظات. وبينما يزعم المسؤولون أنَّ هذه الهيئات ستكونُ مُحايدة وخاضعة لتدقيقٍ ومراقبة شديدَين، إلّا أنه لا يوجُد وضوحٌ بشأنِ كيفية ترشيحِ أعضائها أو المعايير التي ستُستَخدَمُ لتقييم استقلاليتهم.

ويزيدُ صغرُ حجمِ هذه اللجان الفرعية المُكوَّنة من شخصين من المخاوف. إنَّ تكليفَ اللجنة الانتخابية باختيارِ الهيئات الانتخابية على مستوى الدوائر الانتخابية والتشاور مع المجتمعات المحلّية لضمان شمولية العملية الانتخابية، وتوقُّع أن يتولّى شخصان هذه المسؤوليات لمحافظةٍ بأكملها خلال أسبوعين، يُضعِفُ مصداقيتها. كما إنَّ قلّةَ عددهم تجعلهم أكثر عُرضةً للتلاعُبِ السياسي، لا سيما في سياقٍ تُشَكِّلهُ الولاءات الفصائلية المتجذّرة وديناميكيات القوة الإقليمية. فإذا كان القائمون على الاختيارات مُنحازين سياسيًا أو مُختارين بعناية من قِبل أصحاب المصالح الخاصة، فإنَّ العملية مُعَرَّضة لخطر الاختراق والمساس.

هناكَ أيضًا غموضٌ يكتنفُ كيفية تطبيق حصص التمثيل، مثل 20% للنساء و70% بين المهنيين والوجهاء التقليديين. ويُصَعّبُ تخصيصُ المقاعد على مستوى الدائرة بدلًا من مستوى المحافظة تحقيق هذه الأهداف. وسيُخَصَّصُ في معظم الدوائر مقعدٌ واحد فقط، مما يزيد من احتمالية هيمنة النخب على حساب المهنيين المؤهَّلين تقنيًا، ويترك النساء دون عتبة الـ 20% المطلوبة بكثير. وبينما قد يُسهمُ تخصيصُ ثلث المقاعد للتعيينات الرئاسية في التخفيف من هذه الاختلالات، فإنَّ الاعتمادَ على هذه الآلية لمجرّد “الوفاء بالمتطلّبات” يُهدّدُ بإضعاف القدرة الوظيفية للمجلس لصالح تحقيق معايير التمثيل.

ومما يُفاقِمُ هذه التحدّيات عدمَ وضوحِ كيفيّة اختيارِ الأعضاء من المناطق الخارجة عن سلطة دمشق، وخصوصًا السويداء والشمال الشرقي. إنَّ اختيارَ مُمثّلين من هذه المناطق من دونِ اتفاقاتٍ سياسية تضمنُ موافقةَ السلطات الفعلية المَعنية يُهدّدُ بترسيخِ تجزئة سوريا. هذا أمرٌ مثيرٌ للقلق بشكلٍ خاص، إذ تُمثّلُ الهيئة التشريعية الحلقةَ الأخيرةَ المفقودةَ في استكمالِ المؤسّساتِ الانتقاليةِ الأساسيةِ للبلاد.

ولعلَّ أكثرَ ما يُثيرُ القلقَ هو عدمُ الوضوحِ في مسألةِ المراقبة. فبينما يُتَوَقَّعُ مشاركةُ مراقبين، تبقى أسئلةٌ جوهريةٌ قائمة. مَن سيختارُهم ويُدرِّبهم؟ في أيِّ من مراحلِ العمليّةِ سيكونونَ حاضرين؟ إذا اقتصرَت المراقبةُ على التصويتِ النهائي، فسيكونُ دورُهم رمزيًا إلى حدٍّ كبير. في الواقع، فإنَّ المراحل الأولى ــتشكيل اللجان الفرعية والهيئات الانتخابية المحلّيةــ هي المراحل التي يتم فيها اتخاذ القرارات الأساسية وتكون فيها إمكانية التلاعب أعظم. تتطلّبُ هذه المراحلُ مستوى الرقابةِ نفسها، إن لم يكن أكثرَ، المُتَّبَع في التصويتِ النهائي.

إنَّ إعادةَ بناء النظام التشريعي في سوريا أمرٌ ملحٌّ للتحرُّر من الإرث القانوني والسياسي للنظام السابق، ولوضع البلاد على مسارٍ نحو إصلاحٍ جاد. إلّا أنَّ هذه العملية ليست مجرّدَ إنجازٍ بيروقراطي، بل هي اختبارٌ للإرادة السياسية للسلطات الانتقالية في رسم مسارٍ شاملٍ حقيقيٍّ للبلاد. وإذا أراد السوريون أن يثقوا بقادتهم، فيجب أن تُثبِتَ هذه العملية أنَّ الأمرَ لا يقتصرُ على ملءِ مقاعد، بل يشملُ إرساءَ أُسُسِ دولةٍ تخدُمُ جميع مواطنيها.

  • الدكتور حايد حايد هو زميلٌ أول غير مقيم في مبادرة الإصلاح العربي، وباحثٌ استشاريٌ في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في مركز الأبحاث البريطاني “تشاتام هاوس”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى