كركلَّا في البولشُوي: لبنان يُشرق فجرًا عالَميًّا

هنري زغَيب*
لم يكن يومَها حدَثًا عاديًّا.
حين ارتفعت الستارةُ عن فرقة كركلَّا في البولشُوي، كان لبنان كلُّه يُشرق على أَحد أَعظم مسارح العالم.
وحين مؤَسسةُ “تشيكوف الدولية” في موسكو دعَت مسرح كركلَّا ليقدِّم رائعته الحالية “أَلف ليلة وليلة”، كان يدعو لبنان الفن والثقافة والإِبداع إِلى أَن يقدِّم للعالم صورته الحضارية الحقيقية.

لبنان الحقيقي؟ وطن الإبداع
عبدالحليم كركلَّا وإِيفان كركلَّا وأَليسار كركلَّا، ثلاثيٌّ حمل لبنانَ في رسالته، وراح يُطلُّ بها على أَكبر مسارح العالم، ليقول إِن لبنان الحقيقي هو لبنانُ الوطن الخالد المرتفع دومًا كأَرزه على جبين جباله. ومهما تشوَّهت في العالم صورةُ لبنان السياسة المتعثِّرة، يبقى موقَّتًا وتمضي مشاكله السياسية كالغيم العابر.
وها لبنان الوطن المبدع حضر بالعمل المسرحي الموسيقي الغنائي الكوريغرافي “أَلف ليلة وليلة” في ثلاثة عروضٍ (23 و24 و25 تموز/يوليو) على خشبة مسرح البولشوي العريق، وهو من أَضخم مسارح العالم، ولم يسبق له أَن استضاف أَية فرقة عربية من قبل.
أَكثر من نصف قرن ومسرح كركلَّا يحمل رسالة لبنان والثقافة العربية إِلى أَكبر المسارح ودُور الأُوبرا العالمية، معبّرًا عن أَصالة شعب وثراء تاريخ. وها هو عاد من موسكو حاملًا مجد لبنان الثقافي والحضاري.

موسكو الشاهدة
ارتفعت الستارة عن مسرحية “أَلف ليلة وليلة” بإِخراج إِيفان كركلَّا وكوريغرافيا أَليسار كركلَّا، لثلاث ليال نفدَت تذاكرها بالكامل. وهي الرائعة العالَمية التي شَكَّلَت مصدرَ إِلهامٍ لِمُخَيَّلة الفنَّانينَ والمُبدعين العالميين، وها هي انعكست على خشبة البولشوي بإِشراقاتِ الشَرقِ السَاحِرِ، فسطعت للحضور بلوحات راقصة تَلاقى فيها الرقص الكلاسيكي والمعاصر والفولكلوري في أَبجدية رقص رائدة، وأَزياء هي سمفونيا أَلوانِ، تتلألأُ على موسيقَى ريمسكي كورساكوف وموريس رافيل التي تماهت مع الآلات الشرقية، لتولِّد لغة موسيقية جديدة تنبض بروح الشرق.

إِعادة مجد الشرق
قبَيل العرض، انعقد مؤْتمر صحافي في “قاعة الشرف” داخل مبنى البولشوي، مع مديرة مهرجان تشيخوف كارينا تساتوروفا، والمايسترو عبد الحليم كركلَّا، والمخرج إِيفان كركلَّا وسفير لبنان شوقي بو نصار، بحضور سفيري الأَرجنتين وكولومبيا ونخبة من الصحافيين.
افتتحت تساتوروفا المؤْتمر بكلمة مدروسة وصفَت فيها العرض بـ”جسر ثقافي عابرِ جميعَ اللغات والحدود، أَعاد رسم صورة الشرق في أَبهى حلله. كان حلمًا من لبنان تحقَّق في موسكو لجمهورٍ يستحقُّ الجمال”.
وفي كلمة المايسترو المؤَسِّس عبدالحليم كركلَّا: “نعتز بهذه اللحظة المشرقة في مسيرتنا الثقافية. وجودُنا في هذا المسرح العريق هو مجد لحضارة لبنان وللثقافة العربية”.
ومن كلمة سفير لبنان عن هذا الحدث الثقافي اللبناني: “فرقة رائعة سحرَت قلوب الجماهير في معظم مدن العالم وعواصمه، وجاءت تحْيي للجمور الروسي ليلةً لبنانية لا تُنسى.”
واختصر المخرج إِيفان كركلَّا ما يحدُث اليوم بالحدث التاريخي الذي كان سيرغي دياغليف حققه في مطالع القرن العشرين حين نقل الباليه الروسي إِلى أُوروبا. وأَوضح إِيفان: “بنسختنا الخاصة من “أَلف ليلة وليلة”، حملْنا لبنان إِلى موسكو، إِلى قلب الفن العالمي. ووجودنا اليوم في البولشوي لحظة مضيئة تُتوّج 55 عامًا من مسيرة مسرح كركلَّا، وتؤكِّد أَن الثقافة العربية قادرة الحضور على أَرقى المنصات الدولية.”
التغطية الروسية المشَرِّفة
هذا الحدثُ اللبناني العالمي لاقاه الإِعلام الروسي بتغطية مكثَّفة، مشيدًا بفرقة كركلَّا التي شكلت لحظة فنية استثنائية تعكس وجه لبنان الحضاري والثقافة العربية المشرقة.
القناة الأُولى الروسية غطَّت المسرحية حصريًّا، فرافقت المايسترو عبد الحليم والمخرج إِيفان والكوريغراف أَليسار كركلَّا خلف الكواليس، بجولة في مسرح البولشوي، ووصفَت مسرح كركلَّا بـ “ذهب لبنان،” وبأَن المسرحية حدثٌ استثنائي في مهرجان تشيخوف. وذكرَت بأَنْ “لم يسبق لأَحد في العالم أَن صوَّر هذا المسرح اللبناني الأُسطوري بهذه الطريقة”.
صحيفة Smotrim“” كتبت أَنَّ “الذروة الفنية لمهرجان تشيخوف هي مع فرقة كركلَّا اللبنانية. وما قدَّمته للجمهور: عرض باليه يمزج بين العناصر الفنية الشرقية، والكوريغرافيا الكلاسيكية والمعاصرة، وأَزياء باهرة تأْخذ الجمهور إِلى عالم الشرق الساحر”.
موقع Music Gazeta الإِلكتروني وصَف المسرحية بــ”مزيج من الأَزياء الفاخرة والموسيقى الساحرة، والكوريغرافيا المفعمة بالعاطفة والحيوية، وديكورات رائعة تكشف جمال الشرق وتنقل الجمهور إِلى الأَجواء الحقيقية لحكاية شهرزاد”.
موقع Classical Music الروسي نشرَ أَن “هذا العرض يتميز بجمال بصري مذهل. والعنصر الأَساسي الجاذب فيه هو الإِبداع الكوريغرافي. وشكَّلت الأَزياء الخيالية أَحد أَبرز رهانات العرض الناجحة”.
معاصرة حركة الزمان
هذا ما يعطي هوية لبنان الإِبداع. ففي تاريخِ الشعوبِ، يتموضع الفنُّ بالهويةِ والمقياسِ الفنيِّ والحضاريّ. ولكلِّ مرحلةٍ من حياةِ كلّ أُمَّة أَهميتُهَا بالإِنجازاتِ التي يُحِققُها المبدعون، أَصحابُ الرؤيةِ الرائدة، مَن عاصروا حقبةً وكان لهم دورٌ مميزٌ في نهضة مجتمعاتِهِم الحضاريةِ والثقافيةِ. فالفنَّانُ برسالتِهِ: مرآةُ محيطِهِ، إِنسانيُّ الهويّةِ، مسرحيُّ البنيةِ، يتحرّرُ من كلِّ العوائقِ لينطلقَ برسالتِهِ نحوَ الإِنسانِ والإِبداع. ورسالةُ مسرح كركلَّا، منذ انطلاقه، إِرساءُ معالِمَ إِبداعيةٍ جديدةٍ، تنسج بدايةَ تَحَوّلٍ نوعيٍّ في الشرق العربي، وإِحياءُ قيمٍ معرفيةٍ ثقافيةٍ، تعكسُ تطلعاتِ أَجيالِنَا العربيةِ إِلى ثقافةٍ عالميّةٍ تستشرفُ المستقبلَ.
لكنَّ الحِرصَ على معاصرةِ حركةِ الزَّمانِ يعادله الحرصُ على التمسُّكِ بالتراث الأصيلِ، ليبقى الماضي حيًّا في ضميرِ الحاضرِ، كامنًا في اللّاوعي بناسهِ وأَوطانهِ، بعاداتِهِ وتقاليدِهِ، بأَلحانِهِ وأزيائِهِ، تعبيرًا عن تراثِ الإِرث العربيِّ الأصيلِ.
55 سنة في خدمة الإِبداع العربي
في حوار لــ”أسواق العرب” مع عبدالحليم كركلَّا، قال: “عشتُ مسيرتي متخطيًا صعابًا مرّتْ على لبنان، وحاولتُ تقديمَ أَرقى ما يمكنني من إِبداعٍ مسرحيٍّ، لأَضعَ اسمَ لبنانَ على خارطةِ الفنِّ الراقي في المسرحِ العالميّ. كما حَرَصتُ، منذ 55 سنة حتى اليوم، على نشْرِ رسالةٍ عربيةٍ ثقافيةٍ على أَرقى المسارح الدولية، في جولاتِنَا العالمية، كي نطوي الزَّمنَ الذي يحاولُ أَن يطوينا، وننيرَ الطريقَ لأَجيالِ المستقبلِ. فأَيُّ قيمةٍ للأَرضِ بدونِ الإِنسانِ؟ وأَيُّ قيمةٍ للإِنسانِ من دون الثقافةِ التي هي رمزُ استمرارِ رقيّ الحياة، بها يكتملُ مفهومُ الحضارةِ ومن دونِها لا قيمةَ للوجودِ ولا معنى لفكرةِ الوطن”.
كورساكوف ورافيل
مسرح كركلّا في البولشُوي كان خطوةً رائدةَ غيرَ مسبوقة في مسيرته منذ أَكثر من نصف قرن، ولحظةً مضيئةً في تاريخ الثقافة العربية ومجد لبنان. و”أَلف ليلة وليلة” التي شكّلت مصدر إِلهام للفنانين والمبدعين العالميين، عكستْ على مسرح البولشوي إِشراقات الشرق الساحر، بإِطلالة ذات جمال متنوع، وأَزياء تعكس سمفونيا من الأضلوان تلأْلأَت بلغة أَجساد الراقصين على موسيقى ريمسكي كورساكوف وموريس رافيل.
*) بعودة فرقة كركلَّا من موسكو، يتواصل عرض “أَلف ليلة وليلة” على خشبة مسرح كركلَّا – حرش تابت، سن الفيل، بيروت، حتى مساء الجمعة 22 آب/أغسطس الجاري.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.