إسرائيل لم تَعُد قادرةً على تَجاهُلِ القضيّة الفلسطينية بَعدَ اليوم!
في أعقابِ موجةِ الاعترافات الأخيرة بالدولة الفلسطينية من قبل عددٍ من الدول، يتصاعدُ الجدلُ حول تبعات هذا الاعتراف على الصعيدين الإقليمي والدولي. فبينما يسعى الفلسطينيون إلى تعزيز موقفهم السياسي، تُواجه إسرائيل تحدّياتٍ تتراوح بين الضغوط الديبلوماسية والاقتصادية والثقافية، الأمر الذي يُثيرُ أسئلةً حول مستقبل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني ومسار العلاقات في الشرق الأوسط.

شيرا إفرون*
في 21 و22 أيلول (سبتمبر)، اعترفت أوستراليا وكندا وفرنسا والمملكة المتحدة، إضافةً إلى ستِّ دولٍ أخرى، بدولةٍ فلسطينية. وقد جاءَ الرد الإسرائيلي رافضًا ومُتَحدِّيًا. فبعد هذه الاعترافات، أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو في بيانٍ مصوَّر بالعبرية “لن يحدثَ ذلك. لن تُقامَ دولة فلسطينية غرب نهر الأردن”.
ومع أنَّ نتنياهو لن يحسمَ قراره النهائي بشأن الرد الإسرائيلي الكامل إلّا بعد عودته من لقائه مع الرئيس الأميركي دونالد ترامب، فإنَّ ائتلافه الحاكم هدّدَ مرارًا بضمِّ أراضٍ من الضفة الغربية، بل وبإنهاء السلطة الفلسطينية كُلّيًا.
لكن هذا النهجَ التصادُمي لا يَخدُمُ مصالح أحد. فإسرائيل ستخسر، إذ أنَّ زخمَ الاعترافات ورَدَّ فعلِ الحكومة الإسرائيلية العدائي سيساهمان في تعميق عزلة إسرائيل ديبلوماسيًا واقتصاديًا وثقافيًا. والفلسطينيون سيخسرون أيضًا. فالاعترافات وحدها لا تُوفّرُ أيَّ فوائد ملموسة للشعب الفلسطيني أو تساعد السلطة الفلسطينية على الخروج من أزمتها. بل إنها تمنحُ المُتشدِّدين في الحكومة الإسرائيلية ذريعةً جديدة لعرقلةِ حق تقرير المصير الفلسطيني وتقويض السلطة الفلسطينية. حتى قبل الإعلان الرسمي عن الاعترافات، بدأت الحكومة الإسرائيلية باستغلالها لتوسيع المستوطنات في الضفة الغربية. في 20 آب (أغسطس)، وافقت إسرائيل على بناء مستوطنة “E1” المثيرة للجدل التي تُقسّمُ الضفة الغربية إلى نصفين فعليًّا؛ ووصف وزير المالية بتسلئيل سموتريتش هذا القرار بأنه ردٌّ على مطالبة الفلسطينيين بدولةٍ مستقلة. وقال: “هذا الواقع يدفنُ فكرة الدولة الفلسطينية، لأنه لا يوجدُ شيءٌ يُمكِنُ الاعتراف به ولا أحدٌ يستحقُّ الإعترافَ به”.
ومع ذلك، قد يخرجُ شيءٌ إيجابي من الزخم الحاصل نحو الاعتراف إذا نظرَ كلٌّ من القيادتين الإسرائيلية والفلسطينية إلى ما هو أبعد من الرمزية، وإذا عمل الفاعلون الدوليون على تسويق الاعتراف لا كخطوةٍ أحادية، بل كجُزءٍ صغيرٍ من جُهدٍ مُتعدّدِ الأطراف وشاقٍ يهدفُ إلى تحقيقِ اعترافٍ مُتبادَل بين إسرائيل وفلسطين، وتطبيع العلاقات الديبلوماسية بين إسرائيل وجيرانها، وتعزيز الاندماج الإقليمي.
وعلى الحكومات التي اعترفت أن تُوَضّحَ أكثر أنَّ قرارها يندرجُ ضمن ما يُسمّى إعلان نيويورك (الذي أقرّته الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية كاسحة في 12 أيلول/سبتمبر)، وكذلك ضمن مؤتمر الأمم المتحدة حول حلِّ الدولتين الذي انعقد في تموز (يوليو) برئاسةٍ مشتركة بين فرنسا والسعودية. كلا المُبادرتَين تطرحان سُبلًا أكثر عملية للمضي قُدُمًا—وينبغي على إسرائيل أن تغتنمَ الفرصة التي تُوفّرها هاتان المبادرتان. فإعلانُ نيويورك يُقدّمُ إطارًا شاملًا لإنهاء العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، وإعادة الأسرى المُتبقّين، وتفكيك حركة “حماس”، وإعادة إعمار القطاع، مع توفيرِ ضماناتٍ أمنية ومبادرات لتعزيز التكامل الإقليمي.
جميع هذه الخطوات مُنسَجِمة مع الأهداف العسكرية والسياسية لإسرائيل. لكن على القادة الإسرائيليين أن يتجاوزوا تصلّبهم الإيديولوجي الذي يدفعهم لرفضِ أيِّ تصوُّرٍ لحَقِّ الفلسطينيين في تقرير المصير. عليهم أن يستغلّوا هذه اللحظة للتعاون مع فرنسا والسعودية بشأنِ آليات تنفيذ إعلان نيويورك، وأن يطلبوا من الفلسطينيين ومن أطرافٍ إقليمية أخرى الاعتراف بإسرائيل كوطنٍ للشعب اليهودي (كما فعلت اتفاقات أبراهام في العام 2020)، وأن يُشدّدوا على ضرورةِ التزامِ القادة الفلسطينيين بالقانون الدولي الذي يُلزمهم بمنعِ استخدامِ أراضيهم قاعدةً لمهاجمة إسرائيل.
وإذا فعلوا ذلك، فقد يكتشفون أنَّ الزخم نحو الاعتراف يحملُ في طيّاته مكاسبَ لإسرائيل. وفي المقابل، يتوجَّبُ على الدول التي اعترفت أن تُترجَمَ ضماناتها الأمنية إلى واقعٍ ملموس، وأن تُساهِمَ في بناءِ دولةٍ فلسطينية لا تُهدّدُ جيرانها، وتُوَفّرُ لشعبها مقوّمات الكرامة عبر مؤسّساتٍ فاعلة وخدماتٍ أساسيّة سليمة.
رَدُّ فعلٍ مُتَعَلَّم
تأسّست دولةُ إسرائيل بموجبِ قرارٍ من الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهذا يعني نظريًا أنَّ إسرائيل لا يُمكنها أن تقبلَ بشرعية الإطار الذي أنشأها وتتنكّرَ في الوقت نفسه لدولةٍ فلسطينية تُقامُ ضمن الإطار نفسه. لكن معارضة إسرائيل لإقامةِ دولةٍ فلسطينية ازدادت تشدُّدًا وعداءً منذ هجوم حركة “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. فقد كشف استطلاعٌ أجراه مركز “بيو” في حزيران (يونيو) 2025 أنَّ 21% فقط من الإسرائيليين يوافقون على أنَّ “التعايُشَ السلمي مع دولةٍ فلسطينية أمرٌ ممكن”، وهي النسبة الأدنى منذ أن بدأ المركز بطرح هذا السؤال في العام 2013. كما أظهر استطلاعٌ مشترك في أيلول (سبتمبر) 2024 أجراه “المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية” وجامعة تل أبيب، ضمن برنامجها الدولي لحل النزاعات والوساطة، أنَّ غالبية الإسرائيليين تعتقدُ أنه في حالِ تأسيسِ دولةٍ فلسطينية ستستمرُّ الهجمات الإرهابية ضد إسرائيل أو تزداد.
بعدَ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، أصبحَ الإسرائيليون شديدي الحذر من المخاطر وأكثر رفضًا وتردّدًا لتقديم أيِّ تنازلاتٍ إقليمية، خصوصًا في ظلِّ استمرار التهديدات الإرهابية من الأراضي الفلسطينية وفشل السلطة الفلسطينية في أداءِ دورها. وحتى القادة الوسطيون الذين يعارضون نتنياهو باستمرار عبّروا بقوة عن رفضهم لفكرة الاعتراف. فقد صرّح بيني غانتس، الجنرال المتقاعد من الجيش والوسطي الذي خدم في مجلس الحرب مع نتنياهو، بأنَّ الاعترافَ في هذا التوقيت “لن يؤدّي إلّا إلى تقوية “حماس”، وإطالة أمد الحرب، وإبعاد احتمال التوصُّل إلى صفقةٍ للإفراج عن الرهائن، وإرسال رسالة دعم واضحة لإيران ووكلائها.” أما يائير لابيد، زعيم المعارضة الإسرائيلية، فقال في 21 أيلول (سبتمبر) إنَّ “الاعتراف الأحادي بدولةٍ فلسطينية من قبل بريطانيا وأوستراليا وكندا هو كارثة ديبلوماسية، وخطوة ضارة، ومكافأة للإرهاب.”
يعتقدُ كثيرٌ من الإسرائيليين—وبقدرٍ من التبرير—أنَّ توقيتَ الاعترافات الأخيرة يُكافئ حركة “حماس”، وهي رؤيةٌ شجَّعَها مسؤولو الحركة الأصولية الفلسطينية. ففي 2 آب (أغسطس)، قال غازي حمد، أحد كبار مسؤولي “حماس”، في مقابلةٍ مع قناة “الجزيرة”: “إن مبادرة العديد من الدول للاعتراف بدولةٍ فلسطينية هي إحدى ثمار السابع من تشرين الأول (أكتوبر). لقد أثبتنا أنَّ الانتصارَ على إسرائيل ليس مستحيلًا، وأنَّ سلاحنا رمزٌ لكرامة الشعب الفلسطيني”.
وبعيدًا من إشكالية هذه السردية، لدى الإسرائيليين هواجس أخرى مشروعة ووَجيهة. فالاعترافُ سيُغيّرُ بشكلٍ جوهري الوضع القانوني للضفة الغربية وقطاع غزة في القانون الدولي، مما يُلزِمُ الدول التي اعترفت بمُراجعة اتفاقياتها مع إسرائيل لضمان عدم انتهاكها لالتزاماتها تجاه دولة فلسطين. كما إنَّ طيفًا واسعًا من العمليات العسكرية الإسرائيلية—بما في ذلك آلاف المداهمات السنوية لاعتقال مسلحين أو تدمير أسلحة داخل الأراضي الفلسطينية—قد يُعاد توصيفها من كونها “مكافحة للإرهاب” إلى “انتهاكاتٍ لسيادة عضوٍ في الأمم المتحدة.”
وقبل أيلول (سبتمبر)، كانت ما يقارب 150 دولة عضو في الأمم المتحدة قد اعترفت بالفعل بدولةٍ فلسطينية. لكن انضمامَ فرنسا والمملكة المتحدة إلى هذه القائمة—وهما عضوان دائمان في مجلس الأمن الدولي—إلى جانب دولٍ من مجموعة السبع مثل أوستراليا وكندا، قد يعرّضُ إسرائيل لمزيدٍ من التدقيق والضغط من المُشَرّعين ومنظمات المجتمع المدني، بما في ذلك مواجهات قانونية جدية أمام المحاكم الدولية. وقد تجدُ دولٌ مثل ألمانيا وإيطاليا وحتى الولايات المتحدة نفسها مضطرة في نهاية المطاف إلى اللحاق بموقف نظرائها في مجلس الأمن الدولي. كذلك، سيُعزّزُ الاعتراف من مكانة الفلسطينيين في المحافل الدولية، ويُمهّدُ الطريق لتحوّل فلسطين من “مراقب دائم” في الأمم المتحدة إلى “عضوٍ كامل”—وهو ما سيجعل وضعها كدولة أمرًا لا جدالَ فيه رُغم اعتراضات إسرائيل.
خسارة مُحتَمَلة
في المدى القريب، من المرجّح أن يتسبّبَ الاعترافُ بالدولة الفلسطينية في أضرارٍ جسيمة للفلسطينيين. فوفقًا للمعايير الدولية لمفهوم الدولة، لا تتوفّرُ لدى فلسطين الشروط اللازمة لتكونَ دولةً كاملة الأركان: فبينما تمتلك بعض المؤسّسات التي تعملُ جُزئيًا، إلّا أنها لا تُسيطرُ فعليًا على أراضٍ مُحدَّدة، ولا تملك سيطرةً مُطلقة على استخدامِ القوة، ولا تمتلكُ اقتصادًا مستقلًّا، ولا نظامًا إداريًا فعّالًا. وبالتالي، فإنَّ أيَّ كيانٍ فلسطيني شكلي سيتمُّ إنشاؤه نتيجةَ هذه التصريحات لن يكونَ له وجودٌ حقيقي، وقد يؤدّي الاعتراف إلى المزيد من إضعاف قدرة السلطة الفلسطينية على الحُكم حتى في المناطق التي تُسيطرُ عليها.
وتواجه السلطة الفلسطينية أزمةً مالية خانقة قد تؤدي بها إلى الإفلاس. فقد تأجّلَ بدءُ العام الدراسي في المدارس الحكومية في الضفة الغربية، وأصبحت تعمل ثلاثة أيام في الأسبوع فقط، مما أثّرَ في أكثر من 600 ألف طالب. كما اضطرّت السلطة إلى خفضِ رواتب موظفيها بنسبة تصل إلى 50%، وتأجيل دفع مستحقّات المقاولين في القطاع الخاص. ويُقدّمُ بعض الوزارات خدمات محدودة، مثل وزارة الصحة. وانكمَشَ اقتصاد الضفة الغربية إلى أقل من سُدسِ حجمه في العام 2022، ووصلت نسبة البطالة إلى أكثر من 30%. ولا تحظى السلطة بشعبيةٍ كبيرة بين الفلسطينيين: فقد أظهر استطلاع للرأي أجراه المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في أيار (مايو) أن 81% من الفلسطينيين يرغبون في استقالة الرئيس محمود عباس، وأنَّ 69% لا يثقون بقدرة السلطة على إجراء الإصلاحات اللازمة.
أمّا الاعترافات الأخيرة، فهي لا تفعل شيئًا عمليًا لتقوية السلطة الفلسطينية أو دعمها في مواجهة الضغوط الإسرائيلية. بل إنها تضعُ الفلسطينيين بشكلٍ أوضح في مرمى نيران المسؤولين الإسرائيليين الساعين إلى إجهاضِ فكرة الدولة الفلسطينية. ففي 18 أيلول (سبتمبر)، هدّد وزير المالية بتسلئيل سموتريتش رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنه إذا لم تضم الحكومة الإسرائيلية الضفة الغربية ردًّا على الاعترافات، فسوف يستخدم سلطاته كوزيرٍ للمالية لدفع السلطة الفلسطينية نحو الانهيار الكامل. وبعد يومين فقط، في 20 أيلول (سبتمبر)، صرّح نتنياهو في فعاليةٍ بمستوطنة معاليه أدوميم القريبة من القدس قائلًا: “سوف نفي بوعدنا بألّا تكون هناك دولة فلسطينية. هذه الأرض لنا.”
خطرٌ منفرد
لكنَّ العواقب بالنسبة إلى إسرائيل تتجاوز بكثيرٍ الرمزية ولا يمكن تحييدها أو إزالتها بسهولة عبر الضَمّ. فموجةُ الاعترافات هذه ستؤدي على الأرجح إلى تصاعُدِ المشاعر المناهضة لإسرائيل على مستوى العالم، وتسريع حملات سحب الاستثمارات والمقاطعة. وحتى الحكومات التي لجأت إلى الاعتراف بدولةٍ فلسطينية للتخفيف من المعارضة الداخلية لسياساتها تجاه إسرائيل ستجدُ نفسها تحت ضغط أكبر لفَرضِ عقوباتٍ رسمية. ويُعَدُّ الاتحاد الأوروبي أكبر مستثمر في إسرائيل، حيث يساهم سنويًا في اقتصادها بما يقارب ضعف ما تساهم به الولايات المتحدة. وهو الوجهة الأساسية للاستثمارات الإسرائيلية، وأكبر شريكٍ تجاري لها.
وقد بدأ بعض المؤسّسات الأوروبية بالفعل بسحب استثماراته من شركات إسرائيلية: ففي آب (أغسطس)، مثلًا، سحب صندوق الثروة السيادي النروجي—الذي تبلغ قيمة موجوداته نحو تريليوني دولار—استثماراته من شركة “كاتربيلر” وخمسة بنوك إسرائيلية، مشيرًا إلى وجود “مخاطر غير مقبولة” بأن هذه الاستثمارات تُسهم في انتهاكات لحقوق الإنسان. وقد تحذو دولٌ لديها استثمارات أكبر في إسرائيل، مثل فرنسا وألمانيا وهولندا والمملكة المتحدة، حذو النروج.
كثيرٌ من الروابط الاقتصادية بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي وإسرائيل تخضع لـ”اتفاقية الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل” الموقّعة في العام 2000، والتي لا يمكن إلغاؤها إلّا بإجماع جميع الأعضاء—وهو أمرٌ غير مرجّح في ظل استمرار دعم المجر لإسرائيل. لكن في منتصف أيلول (سبتمبر)، طرحت المفوضية الأوروبية إقتراحًا لتعليقٍ جُزئي للاتفاقية، وهو ما يتطلّب فقط موافقة أغلبية الأعضاء، غير أنَّ ألمانيا وإيطاليا استخدمتا حق النقض لإسقاط الإقتراح.
مع ذلك، قد تدفع ُموجةُ الاعتراف هذه، التي تعكسُ اتجاهَ الرأي العام الأوروبي، ألمانيا وإيطاليا إلى رَفعِ حق النقض. وفي هذه الحالة، قد تفقدُ إسرائيل اتفاقية التجارة الحرّة مع الاتحاد الأوروبي، بالإضافة إلى حقها في المشاركة في برنامج “أفق أوروبا” للأبحاث، وهو برنامج الاتحاد الأوروبي الرائد في مجال البحث والابتكار بقيمة 100 مليار دولار. وتُعتَبَرُ إسرائيل من أكبر المستفيدين من هذا البرنامج، إلّا أنَّ نسبة مشاريعها المُعتمَدة حتى الآن لهذا العام انخفضت بنسبة 68.5%. وفي أيار (مايو)، صرّح ديفيد هاريل، رئيس الأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والآداب، أنَّ استبعادَ إسرائيل من البرنامج سيكون “ضربةً موجعة للعلوم الإسرائيلية”.
ويُمثّلُ تهميشُ واستبعادُ الأكاديميين الإسرائيليين جُزءًا من اتجاهٍ أوسع. فرياضيو البلاد أصبحوا أقلَّ قدرة على المنافسة مع نظرائهم في الخارج. ومن المتوقَّع أن يُصوِّتَ المجلس التنفيذي للاتحاد الأوروبي لكرة القدم قريبًا على تعليق مشاركة المنتخب الإسرائيلي وجميع أنديته في مسابقاته، ما يعني استبعاد الإسرائيليين من منصّةٍ رئيسة لممارستهم لرياضتهم المفضلة. كما تُواجِهُ المؤسّسات الثقافية ضغوطًا شديدة مُماثلة—ضغوطٌ ستزدادُ بعد الاعترافات الأخيرة. ففي أوائل أيلول (سبتمبر)، ألغى مهرجان “فلاندرز” في مدينة “غنت” البلجيكية عرضًا لأوركسترا ميونيخ الفيلهارمونية لمجرّدِ أنَّ قائدها لاهاف شاني—الذي دعا للسلام في غزة—يقودُ أيضًا الأوركسترا الفيلهارمونية الإسرائيلية؛ كما تعهّدَ أكثر من 4,000 ممثل ومنتج أفلام بعدم التعاون مع المؤسّسات الإسرائيلية.
قد يبدو الأمرُ تافهًا لمَن هم من الخارج، لكنَّ احتمالَ طرد إسرائيل من مسابقة الأغاني الأوروبية “يوروفيجن” يُثيرُ قلقَ الإسرائيليين بشدة. فالمسابقة هي واحدة من أهمِّ الفعاليات السنوية في إسرائيل، ويفتخرُ الإسرائيليون بإنجازاتهم فيها: فازت إسرائيل أربع مرات، وحقيقة وصول أحد الفنانين الإسرائيليين إلى نهائي العام 2025 عزّز ثقة الإسرائيليين بأنَّ فنّانيهم ما زالوا محبوبين في دولٍ يعارض فيها سكانها سياسة حكومة تل أبيب. لكنّ إيسلندا وإيرلندا وهولندا وسلوفينيا وإسبانيا هدّدت بمقاطعة مسابقة يوروفيجن 2026 في حال مشاركة إسرائيل. وقد يدفع هذا التصعيد الإسرائيلي دولًا أخرى إلى إصدار تهديداتٍ مُماثلة.
وفي مؤتمرٍ عقدته وزارة المالية الأسبوع الفائت، اعترفَ نتنياهو بأنَّ إسرائيل بدأت تعيش نوعًا من العزلة. لكنه سعى إلى إثباتِ قدرة إسرائيل على تجاوز هذه العزلة، مشيرًا إلى إمكانيةِ اعتمادِ اقتصادٍ قائمٍ على الاعتماد الذاتي، لتُصبحَ “إسرائيل الجديدة” بمثابة “سبارتا”. يبدو أنَّ نتنياهو نسي أنَّ نجاحَ الاقتصاد الإسرائيلي يعودُ جُزئيًا إلى اتفاقيات أوسلو، وأنَّ اقتصادَ إسرائيل يعتمدُ على التصدير والقطاع التكنولوجي والقوى العاملة الماهرة والمتواصلة مع العالم. فنجاحُها المستمر يتوقّف على علاقاتها مع العالم. ولذلك، قال مؤسّس إسرائيل، ديفيد بن غوريون، في العام 1955: “إسرائيل ليست مُصَمَّمة لتُصبحَ سبارتا جديدة”. وأضاف: “مهما كانت التحدّيات الأمنية، يجب ألّا ننسى أبدًا أنَّ هدفنا النهائي في علاقاتنا مع جيراننا هو السلام والتعايُش”.
فرصةٌ ثمينة
بعد انتهاء هذه الفوضى الديبلوماسية في الأمم المتحدة، لا تزال هناكَ فرصةٌ لصنع “ليمونادة” من الحامض وتحويل الأزمة إلى فرصة، إذا ما ركّزت إسرائيل والدول الأخرى اهتمامها على إعلان نيويورك. يهدف هذا الإعلان إلى تجنُّبِ عيوب المبادرات الديبلوماسية السابقة الفاشلة، من خلال اقتراح خطواتٍ عملية ومحدّدة الزمان لحلِّ النزاع الإسرائيلي-الفلسطيني، ضمن إطارٍ إقليمي يستبعدُ حركة “حماس” ويُشجّعُ الدول العربية على لعبِ دورٍ قيادي. لسوءِ الحظ، أدّى استخدامُ الخطاب التحريضي والتهديدات المتبادلة في سياق قضية الاعتراف إلى إلهاءِ الرأي العام عن هذه الإجراءات. لكن هذه المقترحات يمكن أن توفّرَ لإسرائيل مخرجًا من الحرب في غزة، والتي لا تحظى بشعبيةٍ كبيرة في الدولة العبرية.
أكدت الحكومة الإسرائيلية دائمًا على ضرورةِ استيفاءِ خمسة شروط لوقف عملياتها العسكرية: نزعُ سلاحِ “حماس”، وإعادةُ جميع الأسرى أحياءً وأمواتًا، وتفكيكُ القدرات العسكرية في غزة، والاحتفاظُ بالسيطرة الأمنية على قطاع غزة، وإنشاءُ إدارةٍ مدنيّة بديلة لا تُسيطرُ عليها “حماس” أو السلطة الفلسطينية. ويتماشى إعلانُ نيويورك تمامًا مع أول ثلاثة أهداف لإسرائيل، ويقبلُ ضمنيًا أن تُواصِلَ إسرائيل السيطرة الأمنية على غزة، وأنَّ “حماس” لن تعودَ إلى الحكم في المستقبل القريب. أما في ما يتعلق بسلطة السلطة الفلسطينية في غزة، فيشترطُ الإعلانُ إجراءَ إصلاحاتٍ تجعلُ من السلطة الفلسطينية شريكًا وجارًا أكثر موثوقية مما هي عليه اليوم.
في الواقع، يُمكنُ سدُّ الفجوة بين مطالب إسرائيل وتطلُّعات المجتمع الدولي. ينبغي على فرنسا والمملكة العربية السعودية والحكومات التي وَقّعَت على إعلان نيويورك البدء فورًا باتِّخاذِ خطواتٍ عملية لتنفيذ المقترحات الواردة فيه، مثل وضع آليةٍ لتسليم “حماس” لسلاحها، وتدريب قوّة أمنية مُتعدّدة الجنسيات لمراقبة تطبيق وقف إطلاق النار، والحصول على وعودٍ حقيقية من الدول المعنية بشأنِ إعادة إعمار قطاع غزة واستقراره، وإعداد خطة محددة لمكافحة التطرّف في صفوف حركة المقاومة الفلسطينية. إضافةً إلى ذلك، ينبغي على هذه الحكومات تعزيز جهودها في توعية الرأي العام الإسرائيلي. عليها إثبات أنَّ مقترَحها يُمثّلُ بديلًا عمليًا من النهج الإسرائيلي الحالي الذي يُركّزُ على الصراع بدلًا من الحل. كما ينبغي عليها استقطاب الولايات المتحدة لدَعمِ هذا النهج.
أما إسرائيل، فقد أثبتت أنها قادرة على تبنّي نهجٍ عملي عند الضرورة. فعلى سبيل المثال، سمحت خلال فترة وقف إطلاق النار التي استمرّت ستة أسابيع في كانون الثاني (يناير) 2025، لقوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، التي تحمل العلم الفلسطيني، بمراقبة الحدود في رفح. والآن، حانَ وقتُ تبنّي نهجٍ أكثر عملية وبراغماتية. إنَّ اعترافَ الدول بالدولة الفلسطينية أصبح حقيقةً واقعة. أما مسألة اعتراف دول أقوى، فهي مسألة وقت لا أكثر. وإذا لم تقبل إسرائيل بدور السلطة الفلسطينية في إنهاء الحرب في غزة، فستواجه عزلةً لا يمكن لشعبها تحمُّل تبعاتها في المدى البعيد.
في الواقع، قد يحملُ الاعتراف مزايا لإسرائيل. فإذا بدأ المجتمع الدولي في التعامل مع الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني كخلافٍ بين كيانات متساوية قانونيًا، بدلًا من التعامل معه على أنه صراعٌ بين محتلٍّ وشعبٍ محتَل، فقد يُجبِرُ ذلك الأمم المتحدة وغيرها من المحافل الدولية (بما في ذلك المحاكم الدولية)، بالإضافة إلى القيادة الفلسطينية، على الاعتراف بأنَّ إسرائيل تواجهُ تهديدًا أمنيًا آتيًا من الأراضي الفلسطينية. كما سيوضّح هذا الالتزامات التي يجب على القادة الفلسطينيين الالتزام بها وفق القانون الدولي، ويمنع استخدام أراضيهم كقاعدة لمهاجمة إسرائيل، ويوقف الأنشطة الإرهابية لحركة “حماس”.
وفي الشرق الأوسط، إذا لم تجلس إلى الطاولة، فغالبًا ما ستجد نفسك على “الطبق” وعلى الهامش. بدلًا من رفض محاولات بقية العالم للتدخُّل بشكلٍ قاطع، ينبغي على إسرائيل أن تُبيّنَ قبولها للمكوّنات الأساسية لإعلان نيويورك، والمشاركة في النقاشات حول كيفية تنفيذه، والبحث في القضايا المثيرة للقلق، وطلب اتخاذ تدابير إضافية مهمة، مثل الاعتراف بحقِّ اليهود في تقرير مصيرهم داخل إسرائيل. وفقط عندها يمكن لمسار الأحداث في الشرق الأوسط أن يتحوّلَ من الاعتراف الأحادي، والتجزئة الإقليمية، والعزلة الدولية لإسرائيل، إلى التكامل الإقليمي وتعزيز الأمن لكلٍّ من الفلسطينيين والإسرائيليين على حدٍّ سواء.
- شيرا إفرون هي أستاذة كرسي الدراسات الإسرائيلية المرموقة وباحثة أولى في مؤسسة “راند” (RAND).
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورِين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.