المعنى الحقيقي لفَشَلِ بوتين في الشرق الأوسط
يبدو أنَّ قرارات فلاديمير بوتين بعدم مساعدة شركاء روسيا في الشرق الأوسط قد تُرسِلُ رسالةً إلى القادة في بكين حول قيمة روسيا كحليفٍ في حالِ نشوبِ حربٍ بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان.

مايكل ماكفول وعباس ميلاني*
قبلَ بضعِ سنواتٍ فقط، بدا أنَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين قد أعادَ تأكيدَ نفوذِ موسكو في الشرق الأوسط بعد عقودٍ من تراجُعِهِ. ومع تعميقِ بوتين لعلاقاته مع حليفتَي روسيا القديمتَين، إيران وسوريا، وتوطيدِ علاقاتٍ أكثر ودّية مع إسرائيل والأنظمة الملكية العربية، بدا أنَّ واقعيته البراغماتية تُمثّلُ بديلًا أكثر راحةً لما اعتبره العديد من دول المنطقة التزامًا أميركيًا ساذجًا ومُزعزِعًا للاستقرار بتعزيزِ الديموقراطية.
سمحت هذه الاستراتيجية لروسيا أن تُصبحَ ثقلًا موازنًا مهمًّا للولايات المتحدة في المنطقة، لكنها أتت بثمارها أيضًا على الصعيد المحلي. فقد التزمَ قادةُ الشرق الأوسط الصمتَ بشكلٍ ملحوظ ردًّا على الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا في العام 2022. حتى إسرائيل، الحليف الوثيق للولايات المتحدة، لم تنتقد روسيا، ناهيك عن المشاركة في فرضِ عقوباتٍ عليها.
لكن على مدار العشرين شهرًا الماضية، تدهورت مكانةُ روسيا في الشرق الأوسط. فقد أدّى ردُّ إسرائيل على هجمات حركة “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023 إلى تدميرِ ما يُسمى ب”محور المقاومة”، الشبكة المدعومة من إيران والتي أقامت روسيا معها علاقاتٍ وثيقة. وانهارَ نظام بشار الأسد في سوريا، الذي طالما كان حليفًا قيّمًا لروسيا، انهيارًا ذريعًا. وأضعفت الضربات الأميركية والإسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية أهمَّ حليفٍ إقليمي لموسكو بشكلٍ كبير. ونتيجةً لذلك، أصبحت سمعة روسيا كراعٍ وضامنٍ للأمن في المنطقة سيئة وفي حالةٍ يُرثى لها. وفي ظلِّ الشرق الأوسط الجديد الذي يتبلور الآن، لم تَعُد هناكَ حاجةٌ إلى موسكو.
سيتجاوزُ صدى إخفاقات موسكو حدودَ الشرق الأوسط. وسواء أكانَ ذلك نتيجة قرار بوتين الواعي بعدم التدخُّلِ أم عجز الكرملين عن ذلك، فإنَّ تخلّي روسيا عن شركائها في المنطقة ينبغي أن يكونَ درسًا قاسيًا لشي جين بينغ والحزب الشيوعي الصيني مفاده: أنه في أوقات الأزمات، لن تكونَ روسيا حليفًا موثوقًا به.
بالنسبة إلى الولايات المتحدة، ينبغي أن يدفعَ تراجُعُ نفوذ روسيا في الشرق الأوسط إلى مزيدٍ من الدرسِ والتأمُّل. لسنوات، ناقشَ صانعو السياسات والباحثون في واشنطن قوة الرابطة الروسية-الصينية، وما إذا كان من المنطقي محاولة دقّ إسفين بينهما أو تشجيع اعتمادهما المتبادل، مع زيادة التكاليف والمخاطر التي يشكّلها ذلك على كلا البلدين. لكن انتكاسات موسكو الأخيرة في الشرق الأوسط أوضحت حقيقةً أساسية حجبها الحديث الصيني والروسي عن علاقة خاصة. روسيا صديق في الأوقات الجيدة. في حالِ نشوبِ صراع أميركي-صيني -على سبيل المثال، نزاعٌ حول تايوان- يمكن لواشنطن أن تتوقع من موسكو البقاء على الحياد، تمامًا كما فعلت مع شركائها في الشرق الأوسط.
الطريق إلى دمشق
بعد انهيارِ الاتحاد السوفياتي في العام 1991، لم تَعُد روسيا لاعبًا دوليًا رئيسًا، بما في ذلك في الشرق الأوسط. وبدلًا من التركيز على دمج روسيا الديموقراطية في الغرب، طمح الرئيس الروسي بوريس يلتسين إلى الانضمام إلى المؤسسات الغربية مثل مجموعة الدول السبع، ومنظمة التجارة العالمية، وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ولم يُكرّس سوى القليل من الجهد أو الموارد للحفاظ على علاقات الحقبة السوفياتية مع خصوم الولايات المتحدة الاستبداديين، مثل إيران وسوريا. كما مَنَعَ عقدٌ من الكساد الاقتصادي روسيا من الانخراط في دول المنطقة.
بوتين، الذي فاز بالرئاسة في العام 2000، أنهى تدريجًا إهمالَ موسكو للشرق الأوسط. وبعد هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة، سرعان ما تبنّى “الحرب العالمية على الإرهاب” التي شنّها الرئيس الأميركي آنذاك جورج بوش (الإبن). ولدَعمِ المجهودِ الحربي الأميركي في أفغانستان، ساعدت روسيا الولايات المتحدة على فتحِ قواعد عسكرية في ما اعتبره بوتين منطقة نفوذه، أي جمهوريتي أوزبكستان وقيرغيزستان السوفياتيتين السابقتين. وحتى مع اختلاف بوتين مع بوش بشأن غزو العراق في العام 2003 بسبب العلاقات الوثيقة بين الرئيس العراقي صدام حسين وروسيا، واصلَ الرئيس الروسي العملَ مع واشنطن في الشرق الأوسط بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك، وأهمها الجهد المشترك لحرمان إيران من امتلاك سلاح نووي. في العام 2010، صوّتت روسيا إلى جانب الولايات المتحدة على قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1929، الذي فرضَ ما كان آنذاك أشمل عقوبات متعددة الأطراف على طهران. بعد خمس سنوات، انضمّت روسيا إلى الولايات المتحدة، إلى جانب الصين وفرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، في توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة (الإتفاق النووي). وطوال هذه الفترة، تعاونت روسيا أيضًا مع أميركا لمحاربة مختلف المنظمات الإرهابية في المنطقة، والتي كانت لبعضها علاقات وثيقة مع الجهاديين داخل روسيا.
أثبتَ “الربيعُ العربي”، في العام 2011، أنه نقطةُ تحوُّلٍ في سياسة بوتين تجاه الشرق الأوسط. فبينما كان قادةُ الولايات المتحدة وأوروبا يحتفلون بسقوط الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة، اتخذ بوتين، رئيس الوزراء الروسي آنذاك، وجهةَ نظرٍ مختلفة تجاه الاحتجاجات. ففي اجتماعاته مع قادةٍ غربيين، بمَن فيهم الرئيس الأميركي آنذاك باراك أوباما، حذّرَ من أنَّ انهيارَ الاستبداد في العالم العربي سيُشعِلُ فتيلَ حروبٍ أهلية، ويُمَكِّنُ المُتطرِّفين، ويُشجِّعُ الإرهابيين. حتى أنه انتقد علنًا تلميذه، الرئيس ديمتري ميدفيديف، لامتناعه عن التصويت على قرار مجلس الأمن الدولي الذي يُجيزُ استخدامَ القوة ضد جيش الزعيم الليبي معمر القذافي، والذي كان يُهدّدُ بارتكابِ فظائع جماعية في بنغازي، ثاني أكبر مدينة في ليبيا. انتَقَدَ بوتين القرار بشدّة ووصفه بأنه “معيبٌ ومشوّه”، قائلًا إنه “[يسمح] بكلِّ شيء” و”[يشبه] دعوات العصور الوسطى للحروب الصليبية”.
في ذلك العام، اندلعت حركةً جماهيرية أخرى ضد الاستبداد – في روسيا. في كانون الأول (ديسمبر) 2011، خرجَ مئاتُ الآلاف من الروس إلى الشوارع احتجاجًا على تزويرِ الإنتخابات البرلمانية. وكما اتَّهَمَ سابقًا واشنطن بإثارةِ الثورات ضد الأنظمة الديكتاتورية في مصر وليبيا وسوريا وتونس، ألقى بوتين باللوم على الولايات المتحدة في المظاهرات ضد نظامه. وقد دفعت التهديدات لحُكمه في الداخل، والتي اعتقد بوتين حقًا أنها مدعومة من إدارة أوباما، الزعيمَ الروسي إلى التخلّي عن التعاون مع الولايات المتحدة، مما كانت له تداعيات كبيرة على السياسة الخارجية الروسية في الشرق الأوسط.
وجدت مخاوف بوتين بشأنِ الاستقرار صدى لدى ملوك الشرق الأوسط، الذين اتفقوا على أنَّ تغييرَ الأنظمة في المنطقة سيؤدّي إلى وصولِ الجهاديين المتطرّفين إلى السلطة. حتى أنَّ المملكة العربية السعودية تدخّلت عسكريًا في البحرين لقمعِ الاحتجاجات المُناهضة لحكومة المنامة. واستغلَّ بوتين هذه اللحظة لتوطيد العلاقات مع إسرائيل والأنظمة الملكية العربية، في وقتٍ توتّرت فيه علاقاتها مع الولايات المتحدة بسبب دعمها للتغيير السياسي في العالم العربي والتقارُب الملحوظ مع إيران. كما وَطّدَ بوتين علاقاته بالزعيم المصري المستبد عبد الفتاح السيسي بعد استيلائه على السلطة بانقلابٍ في العام 2013. علاوةً على ذلك، سدّت روسيا الفراغ الذي خلّفه الانسحاب الأميركي من ليبيا، مقدّمةً دعمًا خطابيًا وماليًا للمشير خليفة حفتر، أمير الحرب النافذ الذي يُسيطر الآن على الجُزء الشرقي من البلاد. وعندما أدانَ العديدُ من القادة الغربيين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بعد اغتيال الصحافي جمال خاشقجي في العام 2018، وهو كاتبٌ كان ينتقد النظام السعودي، أعلن بوتين تأييده ودعمه للحاكم السعودي.
خلال هذه الفترة، عزّزَ بوتين أيضًا علاقته الشخصية برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي كان يخشى أيضًا انهيار بعض الدول في المنطقة وصعود الحكومات والحركات الإسلامية في العالم العربي. وكذلك كان الحالُ مع العديد من اليهود المحافظين الذين هاجروا من الاتحاد السوفياتي السابق إلى إسرائيل، والذين تواصلت معهم وسائل الإعلام الروسية مباشرةً. بالنسبة إليهم، كان بوتين قائدًا محترمًا وبراغماتيًا يدعم الاستقرار في جوارهم.
بعد فوزه بولايةٍ رئاسية ثالثة في العام 2012، وَجَدَ عداءُ بوتين المتزايد للولايات المتحدة كمصدرٍ لعدم الاستقرار الإقليمي والعالمي آذانًا صاغية لدى الديكتاتور الإيراني الديني، آية الله علي خامنئي. منذ توليه منصب المرشد الأعلى في العام 1989، وَجَّهَ خامنئي السياسة الخارجية للنظام بشكلٍ منهجي تجاه روسيا والصين. وبينما قاتلَ “حزب الله”، وكيل إيران في لبنان، إلى جانب القوات الجوية الروسية لدعم الديكتاتور السوري بشار الأسد في حربٍ أهلية وحشية، ازدادَ التقارُب بين طهران وموسكو. أما حركة “حماس”، التي اتخذت في البداية موقفًا ناقدًا لنظام الأسد، فقد تحالفت في النهاية مع إيران وروسيا. من جانبهما، لم يُصنِّف بوتين والكرملين “حماس” قط كجماعةٍ إرهابية، بل وصفاها بأنها حركةُ تحرّرٍ وطني شبيهة بالجماعات في أميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا وجنوب إفريقيا التي دعمها الاتحاد السوفياتي خلال الحرب الباردة. كان من اللافت أن يسعى بوتين في الوقت نفسه إلى إقامة علاقات مع إسرائيل و”حماس”، وهو ما يُعَدُّ دليلًا على نجاحِ ديبلوماسيته في الشرق الأوسط آنذاك.
صديقٌ لجميع المُستَبدّين
أسفرت مساعي بوتين لتوسيع نفوذ روسيا في الشرق الأوسط عن نتائج في البداية. فبعدَ أن شنّت روسيا غزوها الشامل لأوكرانيا في العام 2022، زوَّدت إيران آلاف طائرات “شاهد” المُسَيَّرة الفتّاكة لدَعمِ هذا الجهد. امتنعت الدول الملكية العربية عن التصويت في الأمم المتحدة التي تنتقد روسيا على الغزو، ولم تنضم إلى تحالفِ العقوبات الدولي. في تشرين الأول (أكتوبر) 2022، وَقّعَ بوتين والأمير محمد بن سلمان اتفاقيةً لخفضِ صادرات النفط، ما أدّى إلى زيادة أسعار النفط وتمويل آلة الحرب الروسية. حتى إسرائيل انفصلت عن معظم دول العالم الديموقراطي بامتناعها عن انتقاد الغزو، وصوّتت ضد قرارٍ للأمم المتحدة أدانَ العدوان الروسي.
عندما كان نظام الأسد في سوريا يترنَّحُ في العام 2015، أكسبَ نشرُ بوتين للقوات الجوية الروسية، لدَعمِ القوّات البرية السورية والإيرانية و”حزب الله” الديكتاتور السوري، تسعَ سنواتٍ أخرى في السلطة. وفي مقابل هذا الدعم، مَنَحَ الأسد روسيا إمكانية الوصول المستمر إلى قاعدة طرطوس البحرية وقاعدة حميميم الجوية (بالقرب من اللاذقية)، مما عزّزَ الوجود البحري الروسي في البحر الأبيض المتوسط، وكان رمزًا راسخًا للوجود العسكري الروسي في الشرق الأوسط العربي.
عزّزَ التدخُّلُ العسكري لبوتين في سوريا صورة روسيا كشريكٍ حاسمٍ وموثوق. وعلى عكس الولايات المتحدة، لم تُوَبِّخ روسيا أبدًا مستبدّين في المنطقة بخطاباتٍ عن الديموقراطية وحقوق الإنسان. كما حافظت موسكو على تدفُّقِ الأسلحة. في السنوات التي أعقبت “الربيع العربي”، ازدادت صادرات الأسلحة الروسية إلى الشرق الأوسط، بما في ذلك إلى مصر بقيادة السيسي، ولكن أيضًا إلى تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي (الناتو)، التي وافقت مع ذلك على شراء نظام الدفاع الجوي الروسي “أس-400” (S-400).
كلُّ شيءٍ في كلِّ مكانٍ دفعةً واحدة
بعدما شنّت “حماس” هجومها على إسرائيل في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بدأت استراتيجية بوتين بالانهيار. ردًّا على ذلك، شنّت إسرائيل عمليات عسكرية واسعة النطاق، أوّلًا ضد “حماس” في غزة، ثم ضد “حزب الله” في لبنان، ما أدّى إلى تدمير قيادتَي الحركتَين وهياكلهما القيادية. حاولَ بوتين تجنُّبَ الانحياز إلى أيِّ طرفٍ في الصراع، وعرضَ بدلًا من ذلك التوسُّطَ بين “حماس” وإسرائيل، وهي لفتة لم يكن نتنياهو ولا المجتمع الإسرائيلي مُستَعِدَّين لقبولها. لكنه لم يُقدّم أيضًا أيَّ مساعدةٍ تُذكَر ل”حماس” أو “حزب الله”.
ثم، في كانون الأول (ديسمبر) 2024، انهارَ نظامُ الأسد. وانهارَ استثمارُ روسيا الذي استمرَّ لعقودٍ في دعم الديكتاتورية في غضون أيام. منحَ بوتين الأسد وعائلته اللجوءَ في روسيا، لكنه لم يفعل شيئًا لصدِّ قوات المتمرّدين أثناء استيلائهم على دمشق. تردّدت أصداءُ فشله في التدخّل في جميع أنحاء المنطقة. وزادَ ضعفُ “حزب الله”. واشتكَت وسائل الإعلام المتحالفة مع الحرس الثوري الإسلامي في إيران علنًا من عجز روسيا عن إنقاذ شريكهما المشترك.
تلقّت روسيا ضربةً أشد وطأةً على سمعتها في الشرق الأوسط عندما قصفت القوات المسلحة الإسرائيلية والأميركية المنشآت النووية الإيرانية في حزيران (يونيو). بعد أيامٍ قليلة من الهجوم الأميركي على موقع فوردو، سافر وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى موسكو طلبًا للدعم. وَجّهَ بوتين إدانته الخطابية المعهودة للولايات المتحدة، لكنه لم يُقدّم أيَّ دعمٍ عسكريٍّ جديد لحليف روسيا الأوثق في الشرق الأوسط، على الرُغم من استمرار استعداد إيران لتقديم دعم عسكري مباشر لروسيا في حربها في أوكرانيا. داخليًا، أصبحَ خامنئي ونظامه اليوم أضعف من أيِّ وقت مضى، لكن بوتين لم يُقدّم الكثير لدعم موقف المرشد الأعلى.
الخوف والكراهية
لاحَظَ القادةُ والمجتمعات في الشرق الأوسط تقاعُسَ روسيا ولامبالاتها في المنطقة. وكان ردُّ الفعل داخل إيران واضحًا بشكلٍ خاص. لطالما كان خامنئي مخلصًا لموسكو، ولكن مع ضعف موقفه الآن، تتزايد الانتقادات الموجهة لتقرُّبه من روسيا. المعلّقون الإيرانيون، الذين كانوا في السابق حذرين ومتحفِّظين بشأن التشكيك في علاقة طهران بموسكو، ينتقدون الآن بوتين علنًا لرفضه تضمين بند دفاعي مشترك في المعاهدة الروسية للشراكة الاستراتيجية الشاملة التي وقّعتها طهران وموسكو في كانون الثاني (يناير) (تتضمن اتفاقيات روسية مماثلة مع بيلاروسيا وكوريا الشمالية بندًا للدفاع المشترك). وانتقدت أصواتٌ أخرى، بما في ذلك نائب رئيس البرلمان الإيراني السابق علي مطهري، تأخُّرَ روسيا في تزويد إيران بنظام الدفاع الصاروخي “أس-400” الذي كان من شأنه أن يساعد على الدفاع ضد الضربات الإسرائيلية. بعد الضربات الإسرائيلية والأميركية، انتقدت افتتاحية رئيسة في صحيفة مؤثّرة أسّسها ثلاثة رجال دين (من بينهم خامنئي) قبل عقود القادة الذين قادوا إيران نحو علاقاتٍ أوثق مع موسكو – في إشارة واضحة إلى خامنئي.
وقد كان الأمر محبطًا للغاية حتى بالنسبة إلى بعض قادة الحرس الثوري الإسلامي، الذي غالباً ما يُفترض أنه معقلٌ للتعاطُف المؤيِّد لروسيا، لدرجة أنه عندما عرض بوتين التوسُّط بين إيران والولايات المتحدة، اقترحت صحيفةٌ مقرَّبة من الحرس أنَّ الرئيس الروسي كان يحاولُ في واقع الأمر استخدامَ إيران للحصول على صفقةٍ أفضل مع الولايات المتحدة، من خلالِ دعمِ القيود المفروضة على البرنامج النووي الإيراني في مقابل تنازلاتٍ أميركية بشأن أوكرانيا.
يُناقشُ المُعلّقون على مواقع التواصل الاجتماعي الإيرانية الآن علانيةً تاريخ الطموحات الاستعمارية الروسية في إيران في الحقبتَين القيصرية والسوفياتية. وقد اكتسبت أصواتُ أعضاءِ المعارضة المؤيّدين للديموقراطية، الذين طالما انتقدوا تعميق العلاقات مع روسيا الاستبدادية، صدى جديدًا، سواء داخل إيران أو في الشتات. تغيّرت المواقف الإسرائيلية تجاه روسيا أيضًا. لا يبدو أنَّ نتنياهو ولا المجتمع الإسرائيلي مُهتَمَّان بخدمات الوساطة التي يُقدِّمها بوتين مع إيران. عندما توتّرت العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل، مالَ نتنياهو نحو موسكو. لكن مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تراجعت رغبة نتنياهو في البقاء على مقربة من بوتين، وفي ظلِّ ضعف روسيا.
من ناحية أخرى، كانَ ردُّ الفعل السعودي الرسمي على تقاعُس روسيا خافتًا. خلف الأبواب المغلقة، يُعربُ الأمير محمد بن سلمان عن سروره لتراجُعِ البرنامج النووي الإيراني، ولعجز جيش طهران -وخصوصًا ترسانته الصاروخية- عن إلحاقِ أضرارٍ جسيمة بإسرائيل أو القاعدة العسكرية الأميركية في قطر. إنَّ عجزَ بوتين أو لامبالاته في التأثير على الأحداث في المنطقة، سواءً من خلال الديبلوماسية أو المساعدة العسكرية، يجب أن يدفع ولي العهد السعودي إلى إعادة النظر في سياسته المَدروسة بعناية تجاه الولايات المتحدة والصين وروسيا. قبل الضربات الإسرائيلية، كانت السعودية وروسيا اختلفتا بالفعل بشأن زيادة إنتاج النفط. انتصرت الرياض، ومن المقرّر أن تزيد “أوبك+” الإنتاج في آب (أغسطس)، مما أسعد واشنطن وأغضب موسكو.
لا يُمكنك الاعتماد عليّ
إنَّ قرارات بوتين بعدم مساعدة شركاء روسيا في الشرق الأوسط يجب أن تُرسِلَ رسالةً إلى القادة في بكين حول قيمة روسيا كحليفٍ في حال نشوب حرب بين الصين والولايات المتحدة بشأن تايوان.
إذا كانَ رَفضُ روسيا دعم النظام الإيراني في أشدِّ أوقاته ضعفًا مؤشرًا، فلن تُقدّمَ مساعدة تُذكر لبكين إذا ما واجهت لحظة حاجتها. وبالمثل، يُشير تخلي موسكو عن نظام الأسد إلى أن القوات المسلحة الروسية لن تنضمَّ إلى حرب ضد الولايات المتحدة. في حال نشوب صراع في آسيا، سيقتصر دعم بوتين على مواصلة إمداد الصين بالنفط والغاز. وكما صرّح وزير الخارجية الصيني وانغ يي بصراحة خلال اجتماع مع القادة الأوروبيين، ستظلُّ روسيا قيّمة بالنسبة إلى الصين طالما استمرّت في القتال في أوكرانيا، مما يُحوّل موارد الولايات المتحدة واهتمامها بعيدًا من آسيا. ولكن لا يُمكن التعويل عليها في أيِّ شيءٍ آخر.
ينبغي على إدارة ترامب أن تتوصّلَ إلى النتيجة نفسها. ففي الأشهر الأولى للإدارة، جادلَ بعضُ المحللين بأنَّ الولايات المتحدة بحاجة إلى إبعاد روسيا عن الصين للمساعدة في احتواء بكين – وهي سياسة “معاكسة لسياسة هنري كيسنجر”. كانت مثل هذه الخطوة ستكون خطأً فادحًا آنذاك، وستكون أسوأ اليوم. لقد أثبت بوتين أنَّ روسيا غير موثوقة حتى بالنسبة إلى الأنظمة الديكتاتورية ذات العلاقات الطويلة مع موسكو. سيكون شريكًا أقل فعالية لواشنطن في مواجهة الصين. سيوفّرُ بوتين للولايات المتحدة والعالم الديموقراطي الموارد نفسها التي قدمها للثيوقراطيين في طهران: لا شيء. لذا، أيًا كان النهج الذي يُقرّرُ ترامب اتباعه في النهاية مع بوتين، يجب عليه أن يتخلّى عن هدف محاولة إبعاد موسكو عن بكين.
لقد أوحى النجاح الأوّلي لاستراتيجية موسكو في الشرق الأوسط ذات مرة بأنَّ روسيا يمكن أن تكون شريكًا جيوسياسيًا قيِّمًا. إن فشلها التام في النهاية يجب أن يثني ترامب والآخرين عن التودّد إلى مهندسها.
- مايكل ماكفول هو مدير معهد فريمان سبوغلي، وأستاذ العلوم السياسية، وزميل هوفر في جامعة ستانفورد. شغل منصب سفير الولايات المتحدة لدى روسيا من العام 2012 إلى العام 2014. وهو مؤلف كتاب “الأوتوقراطيون ضد الديموقراطيين: الصين وروسيا وأميركا والاضطراب العالمي الجديد” الذي سيصدر قريبًا.
- عباس ميلاني هو مدير كرسي حميد وكريستينا مقدّم للدراسات الإيرانية في جامعة ستانفورد، وزميل باحث في مؤسسة هوفر. وهو مؤلف كتاب “سيمورغ: صور في ذهني”.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفِّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.