هذه التَعَدِّيات بِاسمِ الشِعر
هنري زغيب*
كنتُ أَخيرًا في لجنة تحكيمية لدى مؤَسَّستَين تربويتَين: الأُولى جامعية والأُخرى ثانوية. وكلتا المناسبتَين على علاقة بالشعر، هذا الْــ أَنا ناذرٌ عمري له، هُويةً لي، تكرُّسًا له، مدافعًا عنه، تَوَّاقًا أَبدًا إِليه، ضالعًا فيه، كاتبًا وقارئًا وناقدًا وديمومِيَّ الاطِّلاع. لذا أُحس ما يَمَسُّه يَمَسُّني، وما يُرضيه يَغبِطني، ويَزيدني زهوَ انتماءٍ إِلى إِقليمه الفردَوسي.
المناسبةُ الشعرية الأُولى كانت جامعية، تَبَارى فيها، تأْليفًا، عددٌ من الصبايا والشباب، كان مطلوبًا منهم أَن يكتبوا قصيدةً في سياقٍ معيَّنٍ، لا يهُمُّ هنا ما كان موضوعُه، بل يَهمُّني هنا كيف عُولِج موضوعُه.
وبما أَنني مؤْمنٌ، وسأَبقى مؤْمنًا بثقةٍ وعنادٍ، أَنَّ للشعر نُظُمَهُ وقواعدَه وبُحُورَهُ وأَوزانَه وأُصولَه وموسيقاهُ وإِيقاعاتِه وهالتَه، وإِلَّا فهو من النثر الذي، وبكل احترام إِياه، له هو أَيضًا قواعدُه وأُصولُه وإِيقاعاتُ وجمالياه، كانت ملاحظاتي لبعض المشاركين أَنْ أَرى كلَّ ما اعتبروه واعتمدوه وكتبوه: نثرًا بحتًا منفلتًا من كل معيار وكل قاعدة أُسلوبية، فيما هم وَسَمُوهُ، انزياحًا خاطئًا، شِعرًا حديثًا أَو قصيدةَ نثْر أَو نثْرًا شعريًّا، وقدَّموه لنا على أَنه شعر.
طبعًا لم أَقسُ على المتبارين، ومعظمُهم قدَّمَ نصًا مقبولًا، إِنما كانت ملاحظتي لهم أَنْ إِذا كانوا يجهلون أُصولَ الشعر، فلْيشحوا عنه، ولْيَكتبوهُ نثْرًا متحررًا من نظُم الشعر، فيحاسبوا على أَنه نثر وليس شعرًا. وكانت لي، ولزملائي في اللجنة التحكيمية، ملاحظاتٌ بالقسْوة العادلة في لوم بعض المتبارين على ضُعف تمكِّنهم من قواعد اللغة. وهذا أَمرٌ لا أَتهاون به، ولا يرضاه أَيُّ مسؤُولٍ عن رأْيٍ تحكيميّ.
المناسبة الأُخرى لا تأْليفَ فيها، بل كانت مباراةَ إِلقاءٍ قصائدَ من الشعراء، منهم المكرَّس، وبينهم جدُدٌ لم يَبْلُغوا بعدُ نعمةَ الشعر، بل جاءت قصائدهم نظْمًا باردًا لا نبضةَ شعر فيه، ولا لمعةٌ مبدعة. وهذا طبعًا ليس من مسؤْولية المتبارين في الإِلقاء.
سوى أَننا في اللجنة، وإِن لم نَحْسَب ولم نحاسب أَحدًا على مستوى القصيدة شعريًّا، لاحظْنا ضُعفًا خطيرًا في التشكيل، وكسْرًا غيرَ مسموحٍ أَبدًا في انتهاكِ قواعد اللغة. وهذه الظاهرة الـمَرَضيَّة تحفُر في تعَلُّم اللغة جراثيمَ تدميريةً يُسأَل عنها اثنان: المدرِّس الذي اختار القصيدةَ ولم يدرِّب المتباري على إِلقائها بالشكل السليم الكافي، والمتباري الذي ربما صَوَّب أَخطاءَه المدَرِّس لكنه، أَمام هيبة اللجنة التحكيمية، ارتبكَ فارتكبَ أَخطاءَ لغويةً كثُرت في إِلقائه فلم تعُد مقبولة.
لا أُعمِّمُ فأَلوم المدرِّس هنا. فبعض المدرِّسين يسهرون جِدِّيًّا على تلقين تلامذتهم قواعدَ اللغة والقراءَة والإِلقاء. لكنني أَلوم مَن لم يُدَرِّب التلميذ المتباري على صحة القراءة، وسلامة اللغة، ومخارج الحروف، وهي أُسسٌ لا تساهلَ فيها لـمباراة الإِلقاء.
فالشكرُ لِمن يبادر إِلى هذه الأَنشطة الدينامية خارجَ دفتي الكتاب المدرسي وقاعة الصفّ، ويسعى إِلى التعليم عبر المشاريع التربوية الموازية. والشكر لِمن يَسهر على الصحة اللغوية، لأَن فيها صحةَ العقل والمنطق. ومن عبقرية العربية أَنها لغةُ عقلٍ ومنطق، ولا تُدَرَّس ببغائيًّا خارجَ معيار العقل ومتانة المنطق.
اللغةُ هي اللسانُ ناطقًا، وليسَ من يتساهلُ في انتهاك نعمةِ اللسان.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني، مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية، مدير “صالون فيلوُكَاليَّا الأدبي”، ورئيس “اللجنة الوطنية اللبنانية لنشر الإبداع اللبناني”. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر منصة إكس على: @HenriZoghaib