إسرائيل تَخوضُ حربًا لتحقيق “إسرائيل الكُبرى” وليس حرب وجودٍ وبقاء

لقد حَوَّلت إسرائيل مأساة السابع من تشرين الأول (أكتوبر) إلى ذريعةٍ للوحشية الجامحة والتدخُّل الإقليمي، مُغيّرةً بذلك الحقائق على الأرض في الأراضي الفلسطينية ومُسرّعةً طموحاتها التوسُّعية في المنطقة الأوسع.

جنود إسرائيليون يجلسون فوق دبابة بالقرب من الحدود مع غزة، في 24 كانون الثاني (يناير) 2025.

فرانسيسكو سيرانو*

أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو هذا الأسبوع أنَّ مجلسه المُصَغَّر للشؤون الأمنية (الكابينِت) قد أقرَّ خطّةً جديدة للقضاء على حركة “حماس” وشبكة أنفاقها تحت الأرض في غزة، تتضمّنُ تعبئةَ عشرات الآلاف من جنود الاحتياط واحتلالَ مساحاتٍ شاسعة من القطاع. تهدُفُ الخطة ظاهريًا إلى الضغط على “حماس” لإطلاقِ سراح الرهائن الإسرائيليين المُتَبقّين لديها، بدون تنفيذ انسحاب القوات الإسرائيلية الدائم من غزة المنصوص عليه في وقف إطلاق النار قصير الأمد الذي اتفق عليه الجانبان في منتصف كانون الثاني (يناير) الفائت.

لكن من نواحٍ عديدة، فإنَّ العودة إلى العمليات العسكرية المُكثّفة في غزة بعد وقف إطلاق النار الناجح نسبيًا، والذي شهدَ إطلاقَ سراح عشرات الرهائن وإيصال المساعدات الإنسانية إلى سكان غزة المدنيين، يَعكسُ تحوُّلًا في حسابات إسرائيل الأمنية الإقليمية إلى ما يرقى إلى مستوى الاستعداد لحربٍ دائمة.

منذ أن شنّت “حماس” هجومها المفاجئ على مُنشآتٍ عسكرية ومدنيين إسرائيليين في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، والذي أسفر عن مقتل نحو 1200 شخص، تُواصِلُ القوات الإسرائيلية انخراطها في المننطقة. بدءًا من حربها على غزة، وصراعها مع “حزب الله” في جنوب لبنان، مرورًا بتبادل إطلاق النار المتقطّع مع إيران والحوثيين في اليمن، فضلًا عن الغارات الجوية المُتكرِّرة في سوريا، تقتربُ إسرائيل الآن من 600 يوم متواصل من الحرب.

بعد فترةٍ طويلة من ضربها الشديد للجماعات المسلحة التي صعّدت هجماتها ضد إسرائيل في أعقاب 7 تشرين الأول (أكتوبر) وإضعافها، اختارت إسرائيل مواصلة تدمير البنية التحتية والحياة المدنية في كلٍّ من غزة ولبنان، وكذلك في سوريا واليمن. علاوةً على ذلك، في منتصف نيسان (أبريل)، صرّح وزير الدفاع الإسرائيلي إسرائيل كاتس بأنَّ الجيش الإسرائيلي سيبقى إلى أجلٍ غير مسمّى في الأراضي التي احتلها في غزة ولبنان وسوريا. ورُغمَ أنَّ “حماس” و”حزب الله” لم يَعُدا يُشَكّلان أيَّ تهديدٍ عسكري، وأنَّ الحوثيين يُشكّلون تهديدًا يمكن السيطرة عليه، إلّا أنَّ إسرائيل لا تزال تتصرّف كما لو كانت تواجه حالة طوارئ عسكرية.

مع ذلك، ورُغم تصويرِ حروبها بانتظام على أنها وجودية، فإنّ العمليات العسكرية الإسرائيلية في المنطقة اليوم لا علاقة لها بالبقاء والوجود. إنَّ عدوانيتها الحالية، التي تُغذّيها الغطرسة والدعم المطلق من الرئيسين الأميركيين جو بايدن ودونالد ترامب، لم تَعُد تتعلق بمواجهة تهديد الجماعات المسلحة مثل “حماس” و”حزب الله”، أو حتى بإعادة الرهائن الإسرائيليين من غزة. بل إنَّ القاسم المشترك بين جميع هذه الجبهات هو أنها تسمح للحكومة الإسرائيلية الحالية بالحفاظ على الظروف اللازمة لتحقيق أهدافٍ عدّة، أبرزها التوسّعية المسيانية التي يتبنّاها أعضاء حكومة نتنياهو المتطرّفون.

بعد أن وُصفَت في البداية بأنها غزوٌ للقضاء على “حماس” وإنقاذ ما يقرب من 250 رهينة إسرائيلية اختُطِفوا في 7 تشرين الأول (أكتوبر)، تحوّلت الحرب في غزة منذ فترةٍ طويلة إلى قتلٍ عشوائي وتشريدٍ للمدنيين الفلسطينيين، بدون أيِّ ردٍّ عسكري يُذكَر من “حماس”. وقد أسفرَ القصفُ الإسرائيلي والتوغُّلات العسكرية عن مقتل ما لا يقل عن 52 ألف شخص، غالبيتهم من النساء والأطفال، حسب التقارير الرسمية والصحافية، بينما ألحقت أضرارًا أو دمّرت ما يقرب من 70% من جميع المساكن والبنية التحتية في القطاع. ويتفاقم النقص الحاد في الغذاء الذي يعاني منه السكان بسبب الحصار الذي فرضته إسرائيل لمدة شهرين على إيصال المساعدات منذ أن نسفت وقف إطلاق النار في آذار (مارس). وعلاوة على ذلك، امتدت الحملة العسكرية إلى الضفة الغربية، حيث استولت إسرائيل على المزيد من الأراضي الفلسطينية بحلول العام 2024 مقارنة بأيِّ عامٍ سابق على مدى العقود الثلاثة الماضية.

في لبنان، تواصل القوات الإسرائيلية قصف أهداف ل”حزب الله” بانتظام واحتلال أجزاء من جنوب لبنان، في انتهاكٍ واضحٍ لاتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى الصراع في تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت. وكجُزءٍ من هذا الاتفاق، تقع على عاتق الجيش اللبناني والدولة مهمّة صعبة تتمثل في نزع سلاح ما تبقى من الجهاز العسكري ل”حزب الله”، مع قيادةِ عملية التعافي الصعبة للبلاد بعد الصراع في ظلِّ أزمةٍ اقتصادية طالَ أمدها. وكما أكد رئيس الجمهورية العماد جوزيف عون مرارًا وتكرارًا، فإنَّ استمرارَ العمليات العسكرية الإسرائيلية في البلاد يُعقّد هاتين المهمّتين.

إلى الشرق، تُنفّذ إسرائيل أيضًا عملياتَ قصفٍ برية وغاراتٍ جوية بشكلٍ منتظمٍ في سوريا، حتى في الوقت الذي تمر البلاد بمرحلةٍ انتقالية سياسية صعبة بعد انهيار نظام الديكتاتور السابق بشار الأسد في كانون الأول (ديسمبر) 2024. في الأسبوع الفائت، قصفت طائراتٌ حربية إسرائيلية محيط القصر الرئاسي السوري في دمشق في ما وصفه نتنياهو بأنه تحذيرٌ للرئيس الانتقالي أحمد الشرع، بعد أن خلّفت اشتباكاتٌ طائفية بين الميليشيات السنية والأقلية الدرزية في سوريا أكثر من 100 قتيل. في الليلة التالية، شنّت طائراتٌ حربية إسرائيلية غارةً شاملة أخرى، استهدفت أهدافًا عسكرية سورية في جميع أنحاء البلاد. وقد قدّمت إسرائيل نفسها على أنها “المدافع” عن الأقلية الدرزية في سوريا، وهو تصويرٌ ذاتيٌّ تُوظّفه بالمثل تجاه مجتمعها الدرزي. لكن هذا مجرّد غطاء لتبرير تدخّلها المستمر في سوريا. جاءت ضربات الأسبوع الماضي في أعقابِ أشهرٍ من الغارات الجوية الإسرائيلية، بالإضافة إلى الاستيلاء على منطقة عازلة خارج مرتفعات الجولان المحتلة في الأيام التي تلت سقوط الأسد، على الرُغم من أنَّ السلطات السورية الجديدة أوضحت منذ توليها السلطة أنها لا تسعى إلى مواجهة مع إسرائيل. وحتى لو فعلت ذلك، فمن الصعب تخيّل كيف يمكن للقدرات العسكرية السورية التي تعود إلى الحقبة السوفياتية أن تُهدّدَ إسرائيل.

بدلاً من ذلك، يمكن اعتبار تصرُّفات إسرائيل في سوريا منذ سقوط الأسد محاولةً لتأجيج عدم الاستقرار في البلاد واستغلاله في آنٍ واحد. من خلال عرقلة الانتقال السياسي، تهدفُ إسرائيل إلى الحفاظ على سوريا كمجموعةٍ من الدويلات المتفرِّقة، بدلًا من المخاطرة برؤيتها تتحد في دولةٍ موحَّدة تقودها غالبية سنية ذات ميول إسلامية وتتمتع بعلاقاتٍ قوية مع تركيا. لدى السوريين أسبابٌ كثيرةٌ للشك في نوايا الشرع، وكذلك في التجاوزات التركية. لكن قلّةً منهم ترغب في أن تتدخل إسرائيل وتلعب دور المُنقِذ.

طوال الوقت، مَكّنَ الدعمُ الأميركي غير المشروط، بدايةً في عهد بايدن، والآن في عهد ترامب، إسرائيل من تجاوز حدودها في ردّها على هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر). في الواقع، ولأنهم يشعرون بإمكانية الاعتماد على دعم واشنطن الكامل، من دون محاسبة الجيش الإسرائيلي على جرائم الحرب التي ارتكبها في هذه الصراعات، فإنَّ أكثر أعضاء الحكومة الإسرائيلية تطرُّفًا لا يحاولون حتى إخفاء نواياهم.

بعد ساعاتٍ فقط من شنّ الطائرات الإسرائيلية غارة جوية أخرى فوق دمشق في الأسبوع الفائت، أعلن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش أن إسرائيل لن تتوقف عن القتال حتى يتم تقسيم سوريا وطرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من غزة إلى دول ثالثة.

كما في الماضي، يبدو أنَّ القوات الإسرائيلية عازمة على بناء مناطق عازلة للأراضي التي استولت عليها إسرائيل في صراعاتٍ سابقة باحتلال أراضٍ خارجها. بعد ما يقرب من ثمانية عقود على تأسيسها، لا تزال إسرائيل دولة بلا حدود نهائية، وتوسُّعها مدفوعٌ بالتطلُّعات السياسية لليمين الإسرائيلي، الذي لا تشمل رؤيته لـ”إسرائيل الكبرى” الضفة الغربية وغزة فحسب، بل تشمل أيضًا أجزاءً من لبنان وسوريا.

مع أنَّ نتنياهو لا يدعو علنًا إلى هذا النوع من التوسُّعية المسيانية، إلّا أنَّ هذا هو موقف العديد من أعضاء حكومته اليمينيين المتطرفين، بمن فيهم سموتريتش، وكذلك وزير الأمن القومي إيتامار بن غفير. كلاهما يرى أنَّ فكرة إسرائيل الكبرى هي السبيل الأمثل للمضي قدمًا، وأنَّ الظروف الحالية هي الأكثر مُلاءمة منذ عقودٍ لتحقيقها.

سواءٌ أكان نتنياهو منسجمًا تمامًا مع حكومته بشأن مسألة إسرائيل الكبرى أم لا، فإنَّ مستقبله السياسي يبدو أيضًا مُعلَّقًا على حربٍ دائمة. فإذا انتهت صراعات إسرائيل المتعددة، فسيُجبَرُ على الأخذ في الاعتبار الإخفاقات الأمنية التي شهدها عهده والتي جعلت هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر) مُمكِنة. كما سيعود الاهتمام العام إلى قضايا الفساد العديدة التي يُحاكَم عليها، بالإضافة إلى جهوده المُنسّقة لتقويض سيادة القانون.

ولكن الأهم من ذلك، سيتعيّن على نتنياهو أن يشرحَ للعائلات الإسرائيلية التي تنتظرُ عودة أحبائها المُحتَجَزين في غزة -وكذلك لأولئك الذين اضطروا إلى الحداد على موتهم في الأسر- لماذا، في ظلِّ كلِّ هذه الفُرَص لإعادة الرهائن إلى ديارهم، اختار مرارًا وتكرارًا تعريض حياتهم للخطر بمواصلة الهجوم على غزة.

لقد حوّلت إسرائيل مأساة السابع من تشرين الأول (أكتوبر) إلى ذريعةٍ للوحشية الجامحة والتدخُّل الإقليمي، مُغيّرةً بذلك الحقائق على الأرض في الأراضي الفلسطينية ومُسَرِّعةً طموحاتها التوسُّعية في المنطقة الأوسع. ومن خلال منحها الضوء الأخضر للاستمرار من دون نهاية في الأفق، تعمل الولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى على تمكين حالةٍ من الحرب الدائمة التي تنطوي على خطرٍ دائم للتصعيد الإقليمي ــ وضمان المعاناة الإنسانية.

  • فرانسيسكو سيرانو هو كاتب، صحافي ومحلل سياسي برتغالي. نُشر أحدث كتاب له في العام 2022 وكان بعنوان “أطلال العقد” (As Ruínas da Década)، الذي يركز على الشرق الأوسط في العقد الذي تلا ثورات 2011 الشعبية.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى