لبنان بحاجةٍ إلى مُساعدةِ الولايات المتحدة لنَزعِ ما تبقّى من سلاح “حزب الله”
سيناريو لبنان الأسوأ هو أن تفقدَ الولايات المتحدة اهتمامها به. لم نصل إلى هذه المرحلة بعد، ولكن على عكس الماضي، لم يَعُد هذا السيناريو مُستَبعَدًا، خصوصًاً إذا استمرَّ لبنان في تجنُّب القرارات الصعبة بشأن نزع سلاح “حزب الله” وتأجيل الحل.

بلال صعب*
لأول مرة في تاريخ العلاقات المتوتّرة بين لبنان وإسرائيل والولايات المتحدة، تتفق الأطراف الثلاثة على حلٍّ نهائي مشترك للبنان: أن تحتكرَ الدولة اللبنانية استخدام القوة في البلاد، وأن يصبح الجيش اللبناني الضامن الشرعي الوحيد لأمنها. عمليًا، يعني هذا نزع سلاح “حزب الله” وجميع الميليشيات المسلحة الأخرى العاملة على الأراضي اللبنانية، بما يتوافق مع قرارَي الأمم المتحدة 1559 و1701.
لا تزال الأطراف الثلاثة مختلفة حول كيفية تحقيق هذه النتيجة، وقد بدأ صبرُ إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب يَنفُد مع هذا المأزق. ولكن من خلال تدابير بناء الثقة التي تُيَسِّرها الولايات المتحدة بين لبنان وإسرائيل، ُيمكِنُ كسر الجمود الديبلوماسي الحالي. وهذا أمرٌ ملحّ للحفاظ على الزخم الذي نشأ منذ وقف الأعمال العدائية بين إسرائيل و”حزب الله” في تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت، وتجنُّب حرب جديدة، وتحقيق سلام دائم بين البلدين في نهاية المطاف.
لكن أوّلًا، من المهم إدراك مدى أهمية هذه اللحظة وكيف وصلت الأطراف الثلاثة إلى هنا. خرج “حزب الله” ضعيفًا بشدة من حربه الأخيرة مع إسرائيل، والتي اندلعت عندما بدأت الجماعة في إطلاق الصواريخ والطائرات المسيَّرة والقذائف على شمال إسرائيل في 8 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، دعمًا لحركة “حماس”. انتهى الصراع بعد هجومٍ متواصل من قبل إسرائيل في الصيف والخريف الماضيين والذي ترك القوات الإسرائيلية تُسيطر على خمسة مواقع استراتيجية في جنوب لبنان. قد لا تكون الحرب قد وجّهت ضربةً قاتلة ل”حزب الله”، لكنه بالتأكيد لم يَعُد القوة التي كان عليها في السابق. لقد قطعت إسرائيل رأس الجماعة، وتوغّلت بعمقٍ في قيادتها العليا ودمّرت الكثير من ترسانتها، مما يلقي بظلالٍ من الشكِّ الجدي على مستقبلها كوحدةٍ مسلّحة مُتماسكة.
كانت لفقدان “حزب الله” الكبير لنفوذه -إلى جانب انهيار نظام الديكتاتور السابق بشار الأسد في سوريا، الذي كان لفترة طويلة قناة رئيسة للأسلحة التي تزوّدها إيران للحزب الشيعي- آثارٌ فورية على ديناميكيات القوة الداخلية في لبنان. ولأنَّ “حزب الله” لم يَعُد قادرًا على ممارسة حق النقض (الفيتو) على التطوّرات السياسية في البلاد، ناهيك عن فرضِ إرادته على خصومه المحلّيين كما فعل في السنوات الأخيرة، فإنَّ ثُنائيًا مؤيِّدًا للإصلاح يتولى الآن زمام الأمور في بيروت: الرئيس جوزيف عون -قائد الجيش السابق الذي يحظى باحترامٍ كبير- ورئيس الوزراء نواف سلام، حيث يرسمان مسارًا سياسيًا جديدًا للبنان، مسارٌ يركز على التغيير الشامل ومتحررٌ من هيمنة “حزب الله” وحليفته الرئيسة، إيران.
لا شكَّ أنَّ لبنان لا يزال يواجه العديد من التحدّيات، بما في ذلك إصلاح ومعالجة أزمة اقتصادية حادة، وضمان استقلال النظام القضائي، وإصلاح بيروقراطية الدولة، وإعادة هيكلة القطاع المصرفي. ومع ذلك، لا يوجد ما هو أكثر أهمية وإلحاحًا من تحديدِ مسارٍ قابلٍ للتطبيق نحو نزع سلاح “حزب الله”. في الواقع، تُشكّل أسلحة “حزب الله” أكبر عقبة أمام أيِّ مشروعٍ لبناء الدولة اللبنانية.
يدعو اتفاقُ وقف إطلاق النار، الذي توسّطت فيه الولايات المتحدة وفرنسا، والذي أنهى القتال بين إسرائيل و”حزب الله” العام الماضي، إسرائيل إلى سحب جميع قواتها من جنوب لبنان، و”حزب الله” إلى إبعاد مقاتليه عن الضفة الشمالية لنهر الليطاني. ومن المتوقع أن يزيد الجيش اللبناني، بمساعدة قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل)، انتشاره في المنطقة بشكل كبير، وأن يُصادرَ جميع أسلحة “حزب الله”.
حقّقَ الجيش اللبناني تقدُّمًا ملحوظًا في تدمير مخزونات “حزب الله” في المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني، بدون أيِّ مقاومةٍ تُذكَر من الحزب. ومنذ وقف إطلاق النار، نفّذَ الجيش أكثر من 500 مهمة لتفتيش مواقع محتملة ل”حزب الله”، وتفكيك البنية التحتية، ومصادرة الأسلحة. بل إنه نال إشادة قائد آلية الرصد الأميركية-الفرنسية على جهوده، حيث ساعده على تحديد أمكنة تلك المواقع.
في حين أنَّ الجيش اللبناني واصل مهمته بنجاح في المنطقة الواقعة جنوب نهر الليطاني، إلّا أنه واجه صعوبات في الجزء الشمالي، حيث تتواجد مجتمعات الشيعة اللبنانية قاعدة الدعم ل”حزب الله”. في الواقع، بدأ الجيش التحرك ببطءٍ شديدٍ وحذرٍ نحو المنطقة الواقعة شمال الليطاني، حيث يُشتبه في وجود مخزونات ثقيلة ل”حزب الله”، فقط في الأسبوع الماضي.
وقد جادلت بيروت بأنَّ عدم إحراز تقدُّم في المنطقة يعود إلى استمرار احتلال إسرائيل للتلال الخمس الرئيسة في جنوب لبنان، في انتهاكٍ لاتفاق وقف إطلاق النار. وتتردّد الحكومة اللبنانية في إصدار تعليماتٍ للجيش بتفكيك البنية التحتية لأسلحة “حزب الله” شمال الليطاني بسرعة أكبر وبقوة، لأن “حزب الله” يُخزّن الكثير من أسلحته في المنطقة في منازل مدنيين، مما يعني أن الجيش سوف يضطر إلى دخول تلك المنازل لمصادرتها.
تخشى إسرائيل من أنه في غياب انسحاب إسرائيلي كامل، قد يصبح “حزب الله” وأنصاره أقل طاعةً مما كانوا عليه حتى الآن جنوب الليطاني. والجيش، الذي لا يزال من المؤسسات الحكومية القليلة التي تحظى بثقة شعبية واسعة في لبنان، لن يقاتل الشعب الذي يُفتَرَض به حمايته من أجل أمن إسرائيل. إذا فعل ذلك، فقد يفقد هذا الإجماع المجتمعي على دوره ويشهد انشقاقات في صفوفه. هذه وصفة للتفكك الطائفي، وهو ما حدث مرتين في تاريخ لبنان الحديث، في العامين 1976 و1984.
من جانبها، تتذرّع إسرائيل بمخاوف أمنية لإبقاء قواتها في لبنان، مدّعيةً أنَّ “حزب الله” -الذي ينتهك وقف إطلاق النار أيضًا- يحاول إعادة بناء صفوفه في الجنوب وكذلك في الضاحية الجنوبية لبيروت. كما سُجِّلت حالات عدة لإطلاق صواريخ على إسرائيل من جنوب لبنان منذ وقف إطلاق النار. بالإضافة إلى بقائه في جنوب لبنان، يشنُّ الجيش الإسرائيلي هجمات دورية على عناصر “حزب الله” ومنشآته كلما رأى تهديدًا.
هناك ثلاثةُ أسباب على الأقل تدفع إسرائيل إلى الرغبة في الحفاظ على وجودٍ عسكري في جنوب لبنان: أوّلًا، إنشاء منطقة عازلة من شأنها أن تُخفّف من مخاوف الإسرائيليين الذين اضطروا إلى الفرار من منازلهم في الشمال خلال الأشهر الثلاثة عشر من القتال مع “حزب الله”؛ ثانيًا، ممارسة الضغط السياسي على الحكومة اللبنانية لتسريع عملية نزع سلاح “حزب الله”؛ وثالثًا، الحفاظ على وحدة وتماسك الحكومة الإسرائيلية اليمينية المتطرفة، التي تعارض تقديم أيّ تنازلات في غزة ولبنان.
في نهاية المطاف، يعود سبب المواجهة إلى انعدامِ ثقةٍ مَفهومٍ بين الجانبين، وهو أمرٌ لا يمكن إصلاحه إلّا من خلال نهٍج تدريجي يتضمّن تدابير بناء الثقة. يمكن للحكومة اللبنانية القيام بدورها بالإعلان رسميًا عن التزامها بعملية نزع سلاح “حزب الله” القابلة للتحقّق، بالإضافة إلى جدولٍ زمني مُحَدَّد لا يتجاوز بضعة أشهر. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي عليها أن تُصدِرَ تعليمات فورية للجيش اللبناني بصياغة استراتيجية شاملة لتأمين حدوده الجنوبية والشمالية الشرقية، والإعلان عنها علنًا.
ولكي تكون هذه الاستراتيجية ذات مصداقية سياسية وفعالية عسكرية، يجب تطويرها بمساعدة القيادة المركزية الأميركية ومكتب الملحق العسكري في السفارة الأميركية في بيروت. على مرِّ السنين، ساهمت المساعدات العسكرية الأميركية في تحسين قدرات الجيش اللبناني، مما سمح له في العام 2017 بطرد أعداد كبيرة من مقاتلي “داعش” بنجاح من الشمال والشرق، ومواصلة مجموعة من عمليات مكافحة التهريب على طول الحدود مع سوريا.
حتى لو أمرت الحكومة اللبنانية الجيش بتكثيف جهوده، فإنه يفتقر إلى الخبرة والتمويل والكوادر والتدريب والمعدات اللازمة لتأمين الحدود مع كلٍّ من إسرائيل وسوريا. في الواقع، إنَّ صمود الجيش رُغم سنوات الأزمات السياسية في بيروت وانهيار الاقتصاد اللبناني يُعدّ معجزة.
هنا تبرز أهمية المشاركة الأميركية. فإذا حسّنت واشنطن برنامج مساعداتها العسكرية للبنان بشكلٍ كبير، فسيمكّن ذلك الجيش اللبناني من نشر 15 ألف جندي جنوب الليطاني وفقًا لشروط خارطة الطريق الأميركية-الفرنسية، وهو ما قد يُخفف من المخاوف الأمنية لإسرائيل ويُحفّزها على الانسحاب من قمم التلال الخمس التي تحتلها حاليًا.
لا تُشكّل القوات مشكلة. ما يفتقر إليه الجيش اللبناني تحديدًا لأداء واجباته هو مفهوم ونظام وعي متعدد المجالات لمواصلة وتوسيع نطاق نزع سلاح “حزب الله” على طول الحدود الجنوبية مع إسرائيل، ومنع تهريب البضائع والأسلحة والأشخاص عبر الحدود الشمالية والشرقية مع سوريا.
يشمل بعض متطلبات تنفيذ هذه الاستراتيجية تعزيز القدرات في مجال الاستخبارات والمراقبة والاستطلاع، مثل أنظمة المراقبة والاستهداف الجوية المسيَّرة، والرادارات، وأجهزة الاستشعار الأرضية، وأصول الاستخبارات البشرية.
لكن هذا لا يشمل سوى جمع البيانات. سيتعيّن على الجيش اللبناني أيضًا تحليل هذه البيانات ودمجها ونشرها بفعالية، الأمر الذي يتطلب تحليلًا للتهديدات يعتمد على الذكاء الاصطناعي، ومركزًا مشتركًا لاستخبارات العمليات، وتحسينًا في الاتصال. وأخيرًا، للاستفادة من هذه البيانات، سيتعيّن على الجيش اللبناني إنشاء فوجَين إضافيين للحدود البرية، بالإضافة إلى قوة رد سريع مجهَّزة بمركبات تكتيكية واستطلاعية، وطائرات هليكوبتر، ومعدات بحرية. كل هذا يتطلب تعاونًا أمنيًا أميركيًا.
بالإضافة إلى المساعدة في بناء قدرات الجيش اللبناني، يجب على الولايات المتحدة أيضًا محاولة سد الفجوة بين الموقفين اللبناني والإسرائيلي، ودفع الجانبين إلى تقديم تنازلات، بما يخدم مصلحة الحل النهائي المشترك والأمن الإقليمي. في الواقع، تتمتع الولايات المتحدة بموقع فريد يُمكّنها من القيام بذلك، ولكن كما ذُكر سابقًا، فإنَّ صبر إدارة ترامب بدأ ينفد. يجب على إسرائيل أن تُدرِكَ أنها تُلحِقُ الضرر بنفسها باستمرارها في احتلال الأراضي اللبنانية بدون مبرّرٍ أمني واضح، بينما يجب على لبنان أن يُدرِكَ أنَّ البيئة الاستراتيجية الجديدة قد تحولت بشكل كبير لصالح إسرائيل، وأنَّ نافذة الفرصة المتاحة للانخراط الأميركي لن تبقى مفتوحة إلى الأبد.
سيناريو لبنان الأسوأ هو أن تفقدَ الولايات المتحدة اهتمامها به. لم نصل إلى هذه المرحلة بعد، ولكن على عكس الماضي، لم يعد هذا السيناريو مُستبعَدًا، خصوصًاً إذا استمرَّ لبنان في تجنب القرارات الصعبة بشأن نزع سلاح “حزب الله” وتأجيل الحل.
- بلال صعب هو المدير العام الأول ل”TRENDS US“، وهو زميل مشارك في مركز الأبحاث البريطاني “تشاتام هاوس”، وأستاذ مساعد في جامعة جورج تاون في واشنطن.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.