مع ترامب، الفوضى هي الهدف

جيمس بوسوورث*

تسود الفوضى سياسة الرئيس الأميركي دونالد ترامب الخارجية. قد يكون هذا الأمرُ مُصادفةً أو نتيجةً لغبائه، لكنه أيضًا مُصَمَمٌ جُزئيًا. في كتابه الذي ألّفه عن عالم الأعمال، يصفُ ترامب فوائد إبقاء الطرف الآخر قلقًا وأخذه على حين غرة بتكتيكات تفاوضية غير مُتَوَقَّعة. وبالمثل، وبعيدًا من عالم مفاوضات الأعمال، يؤمن ترامب بـ”نظرية الرجل المجنون” في السياسة الخارجية، حيث تُساعده قلّة القدرة على التنبؤ بما سيفعل على كَسبِ تنازُلاتٍ لأنَّ القادة الأجانب الآخرين لا يعرفون مدى مصداقية تهديداته. بعبارةٍ أخرى، الفوضى جُزءٌ من السياسة.

وقد شهدَ العالم هذا التجلّي خلال الأسابيع الثمانية الأولى من ولاية ترامب الجديدة.

في ما يتعلق بالرسوم الجمركية، هدّدَ ترامب كندا والمكسيك، اللتين أعاد التفاوض معهما على اتفاقية تجارة حرة خلال ولايته الأولى، برسومٍ جمركية شاملة بنسبة 25%. وقد تراجع الآن مرّتين خلال شهرين عن تنفيذ وعده، مرةً في اللحظة الأخيرة، ومرةً بعد فرضه لفترة وجيزة رسوم الاستيراد. أدّى عدم اليقين الذي أحدثه هذا الوضع في بيئة الأعمال في أميركا الشمالية إلى انخفاض ثقة المستهلكين، وتراجع أسواق الأسهم الأميركية، ومخاوف من ركودٍ إقتصاديٍّ مُحتَمل. في غضون ذلك، زاد ترامب تدريجًا الرسوم الجمركية على الصين، وهدّد الاتحاد الأوروبي بقيودٍ تجارية واسعة النطاق، وزاد الرسوم الجمركية على واردات المعادن، ما أدّى إلى فرض رسوم جمركية مُضادة وغضبٍ شعبي استهدف الشركات الأميركية في جميع أنحاء العالم.

هل يأمل ترامب في استخدام هذه الرسوم الجمركية لزيادة الإيرادات أم لإعادة التصنيع إلى الولايات المتحدة؟ أم يأمل أن يُغيّرَ تهديد الرسوم الجمركية سلوك الدول الأخرى قبل أن يضطرَّ فعليًا إلى فرضها؟ لا أحد يعلم. فقد ادّعى ترامب هذه المبررات الثلاثة المتضاربة في نقاط مختلفة، ما زاد من حدّة الأزمة.

لا يقتصر عدم اليقين على التجارة. ففي ما يتعلق بالحرب في أوكرانيا، بدأ ترامب محادثات مباشرة مع موسكو ووجّهَ الولايات المتحدة للتصويت ضد قرارٍ للأمم المتحدة يُدينُ روسيا على الغزو. وفي وقتٍ لاحق من ذلك الأسبوع، بدا أن ترامب غيّرَ مساره ودعا الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى البيت الأبيض لتوقيع اتفاقية بشأن المعادن الحيوية لأوكرانيا. أُلغِيت هذه الاتفاقية بعد المؤتمر الصحافي الكارثي للزعيمين في المكتب البيضاوي، ما دفع ترامب إلى تعليق المساعدات العسكرية وتبادل المعلومات الاستخباراتية التي قدمتها الولايات المتحدة لكييف منذ غزو شباط (فبراير) 2022. ثم دعا المفاوضين الأميركيين إلى الاجتماع مع نظرائهم الأوكرانيين في المملكة العربية السعودية، حيث اتفقوا على اتفاقٍ مُحتَمَل لوقف إطلاق النار. وبحلول كتابة هذه السطور، استؤنفت المساعدات العسكرية وتبادل المعلومات الاستخباراتية مع أوكرانيا، والآن يطرح ترامب فرض عقوبات صارمة على روسيا لحملها على الموافقة على وقف إطلاق النار.

في ما يتعلق بسياسة فنزويلا، سافر المبعوث الخاص لترامب ريتشارد غرينيل إلى كاراكاس في أواخر كانون الثاني (يناير) للقاء الرئيس نيكولاس مادورو، الذي سرق الانتخابات الرئاسية في البلاد العام الماضي بشكل صارخ وكان هدفًا لحملة “ضغط قصوى” سعت إلى تغيير النظام خلال فترة ولاية ترامب الأولى. ونتيجةً لزيارة غرينيل، وافق مادورو على قبول المهاجرين الفنزويليين المُرَحَّلين إلى البلاد من الولايات المتحدة، مقابل ضمان ضمني بأنَّ إدارة ترامب لن تُعيدَ فرض العقوبات النفطية التي توقَّفَ الرئيس السابق جو بايدن عن فرضها كجُزءٍ من جهوده الديبلوماسية لضمان أن تكون انتخابات العام الماضي أكثر حرية ونزاهة. ومع ذلك، بعد بضعة أسابيع، عكس ترامب مساره، وألغى ترخيصًا خاصًا كان يسمح لشركة شيفرون بالحفر في البلاد ومنح الشركة 30 يومًا فقط لتقليص عملياتها. ومع ذلك، في أواخر الأسبوع الماضي، بدأ مادورو قبول رحلات الترحيل مرة أخرى، ما يشير إلى التوصل إلى صفقة أخرى هادئة تحت الطاولة. ثم خلال عطلة نهاية الأسبوع، رحّل ترامب مواطنين فنزويليين اتهمهم بالانتماء إلى حركة “ترين دي أراغوا” إلى السلفادور.

جميع هذه التقلّبات، التي حدثت خلال الأسابيع الثمانية الأولى من ولاية ترامب، دفعت العديد من القادة والحكومات والمحلّلين إلى التساؤل عن مصير سياساته المتعلّقة بالرسوم الجمركية وأوكرانيا وفنزويلا وقضايا أخرى. السيناريو الأكثر إحباطًا، وربما الأكثر ترجيحًا، هو ألّا تتوصل أيٌّ من هذه السياسات إلى موقفٍ نهائي حاسم.

في مثل هذا السيناريو، سيظلّ عدم اليقين السياسي سائدًا حتى عامٍ من الآن. سيواصل ترامب التهديد بالرسوم الجمركية وتنفيذها وسحبها، من دون أن تدوم أي إجراءات أو سياسات لأكثر من بضعة أسابيع. سيواصل التأرجح بين روسيا وأوكرانيا، مما يدفع منتقديه إلى طرح تساؤلات حول قربه من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بدون أن يتخلّى تمامًا عن زيلينسكي. سيستخدم خطابًا صارمًا، بل وسيُبقي على بعض السياسات المتشددة ضد مادورو في فنزويلا لإرضاء جمهور الحزب الجمهوري المحلّي، مع الحفاظ على المفاوضات السرية والتعاون بشأن عمليات الترحيل لإبقاء الديكتاتورية الفنزويلية تعتقد أنَّ صفقةً أكبر قد تكون قاب قوسين أو أدنى.

لتنفيذ هذه الاستراتيجية الفوضوية، شكّل ترامب “فريقًا من المنافسين” الخاص به، وهو مصطلح ارتبط في البداية بحكومة أبراهام لينكولن في حقبة الحرب الأهلية، والتي ضمّت مجموعة واسعة من الشخصيات المتعارضة والآراء المتباينة. وبالمثل، يدفع أعضاء “نسخة” ترامب أجنداتهم الخاصة داخل الإدارة، لكنهم جميعًا يُظهرون ولاءهم العلني له وينظّفون أي فوضى تركها ترامب لهم بخطابه الأخير أو منشوره على وسائل التواصل الاجتماعي. ونتيجةً لذلك، بدلًا من أن تعمل هذه الانقسامات داخل كلٍّ من السلطة التنفيذية والائتلاف الجمهوري في الكونغرس كقوة اعتدال أو استقرار، فإنَّ ترامب يُحوّلها إلى أدواتٍ لتنفيذ وتغطية تقلّبات سياسته. بعبارةٍ أخرى، لا ينبغي لأحد أن يتوقع من وزير الخارجية ماركو روبيو أو السيناتور ليندسي غراهام إنقاذه من الجنون.

إذا كان السيناريو الفوضوي محتملًا، فيجب على القادة خارج الولايات المتحدة الاستعداد له. لا يمكنهم التخطيط لمواجهة أسوَإِ سياسات ترامب المحتملة فحسب، بل يجب أن يكونوا مستعدّين لسياسات لا تتوقف أبدًا عن التغيير وحتى الانعكاس.

أحدُ الحلول المُمكنة هو التوقف عن التفاوض مع شريكٍ غير موثوق به كهذا، وإيقاف عجلة الفوضى بالقوة. على سبيل المثال، يُمكِنُ لكندا والمكسيك والاتحاد الأوروبي والصين ببساطة تطبيق تعريفات جمركية مضادة دائمة، بغضِّ النظر عمّا إذا كانت تعريفات ترامب التي هدّد بها ستُطبَّق خلال أيِّ أسبوع. سيؤدي هذا إلى إنهاء حالة عدم اليقين في الأسواق، وإجبار ترامب على مواجهةِ أسوَإِ العواقب الاقتصادية لتهديداته التجارية. سيفقدُ ترامب الكثير من النفوذ في المفاوضات الذي يسعى إلى خلقه باستخدام أسلحته الجمركية، ويدفعه إلى موقف دفاعي. سيكون هذا النوع من الحرب التجارية ضارًا للغاية لأيِّ طرفٍ يُطبق هذه السياسة، ولكنه خطوة منطقية ضد خصم متقلّب.

الحلُّ الثاني المحتمل لترامب كشريكٍ غير موثوق به هو البدء في وضع ترتيباتٍ أخرى تُستَبعَدُ منها الولايات المتحدة. لقد تفاوضت المكسيك والاتحاد الأوروبي أصلًا على اتفاقية تجارية. كما بدأت أوروبا وأوكرانيا بالفعل في تعزيز بنيتهما التحتية الدفاعية وتعاونهما الأمني ​​بشكلٍ منفصل عن هياكل حلف شمال الأطلسي (الناتو) بقيادة الولايات المتحدة. وبالمثل، يمكن لفنزويلا أن تُفعّل استخدام أسطول روسيا المتهالك لتصدير نفطها، متجنّبةً بذلك الاعتماد على الشركات والسفن الأميركية. لا يمكن للولايات المتحدة أن تستخدمَ الترابط الاقتصادي المُسلّح لمصلحتها إلّا إذا عرضت في المقابل نظامًا دوليًا مستقرًا. أما إذا استمرت الولايات المتحدة في إحداث تغييرات جذرية وتطبيق سياسات تضرُّ بحلفائها، فسيُشكّلون هم ودول أخرى أنظمة تعاون بديلة.

مع ذلك، وفي ظل أيٍّ من هذه الاستجابات المحتملة، من الخطَإِ الاستهانة بالنفوذ الذي لا تزال تتمتع به الولايات المتحدة في النظام العالمي الحالي. قد يكون ترامب في طور استنفاد عقود من حسن النية الذي بنته الإدارات الأميركية السابقة، لكن الولايات المتحدة لا تزال القوة الاقتصادية والعسكرية المهيمنة في العالم، بقدرةٍ لا مثيل لها على التأثير في الأسواق العالمية والترتيبات الأمنية. لا يمكن للدول تجاوز النظام العالمي الذي تدعمه الولايات المتحدة أو إعادة إنشائه ومؤسساته بالسرعة التي يُحدث بها ترامب تغييرات جذرية.

هذا يعني أنَّ النتيجة المؤسفة لنهج ترامب هي أنه قد يستفيد سياسيًا في المدى القصير، ولكن على حساب خسارة الولايات المتحدة لتأثيرها ونفوذها في المدى الطويل. وبينما تستجيب الدول الأخرى لفوضى ترامب، قد تُجبَرُ على التنازل عن بعض القضايا فورًا، بينما تُنشئ تحالفات وشراكات بديلة للمستقبل. سيرث خليفة ترامب حينها دولةً أضعف بكثير، وسمعتها ممزّقة. لن يثقَ العالم بعد الآن بدولةٍ انتخبت مجنونًا.

  • جيمس بوسوُورث هو مؤسس شركة هكساغون، وهي شركة تُجري تحليلات للمخاطر السياسية وأبحاثًا مُخصصة في الأسواق الناشئة والواعدة، وهو أيضًا زميل عالمي في برنامج أميركا اللاتينية في مركز ويلسون للأبحاث. يتمتع بخبرة تمتد لعقدين من الزمن في تحليل السياسات والاقتصاد والأمن في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى