لبنان-سوريا: الحربُ ضدّ تَحَوُّلَين
محمد قواص*
تفرضُ الاشتباكاتُ على جانبَي الحدود اللبنانية-السورية حراجةَ ملفٍّ مُؤجَّل. فقضيّةُ ترسيمِ الحدود التي طالبَ بها لبنان، لا سيما حديثًا، في العام 2006، في عهد حكومة فؤاد السنيورة، قوبِلَت بسرديَّاتٍ إلتفافية في دمشق تنهلُ أصولها من “أسطورة” البلد الواحد الذي لا حدود تبرّرُ هندسةَ دواخله وتبادُلًا ديبلوماسيًا بين عواصمه. أرسلت دمشق سفيرًا لها إلى بيروت، وظلّت قضية الحدود متعثّرة التنفيذ لارتباطها بقضية مزارع شبعا وامتناع نظام يشّار الأسد عن حسم اللبس في هويتها.
بدت مناطق الحدود في لبنان خاضعةً لمنطقِ الأطراف التي يُهملها المركز. وأنتجَ ذلك ترك يومياتها إلى قوى الأمر الواقع تحت مسمّيات الأهالي والعشائر وأصحاب النفوذ وسلطة “بزنس” التهريب، طالما أنَّ الأمر الواقع السوري يُتيحُ ذلك الخلط بين ما هو سوري وما هو لبناني من مناطق وقرى مُتداخِلة الهوية والمساحات. وبدا بالمقابل أنَّ ضعفَ المركز وركاكة دولته، استسلم لدويلة “حزب الله” في إدارة ذلك التداخل واستغلال فوضاه.
تكشفُ الروايات المُتناقضة الصادرة عن دمشق وبيروت بشأن الاشتباكات الحدودية عن صحوةِ الدولتين على فوضى الحدود. والواضح أنَّ شبكةَ مصالح “الدويلة”، كما عداءها للتحوّل السوري، تحتاجُ إلى تثبيت قواعد اشتباك وشروط بقاء. غير أنَّ الرواية الصادرة عن الجانب السوري الرسمي تبدو، رُغمَ التحفّظ المُسبَق على أية رواية رسمية، أكثر انضباطًا من الرواية الصادرة عن الجانب الرسمي اللبناني.
ظهرت الملامح الأولى لما فُجِّرَت هذه الاشتباكات في فيديو يدّعي فيه أحد سكان المنطقة اللبنانيين، بفخرٍ وتشفٍّ، أن “الشباب” قتلوا ثلاثة من “الدواعش” حاولوا التسلُّل إلى المنطقة. يُعلنُ الجيش اللبناني أنه سلّم، عبر الصليب الأحمر جثث القتلى إلى الجهات السورية. ولاحقًا تعلن مصادر سورية أنَّ “حزب الله” خطف 3 جنود سوريين من داخل الأراضي السورية وقتلهم بعد تعذيبهم داخل الأراضي اللبنانية.
غير أنَّ ما أعلنته الحكومة اللبنانية يذهب إلى حبكةٍ أُخرى من تلك الروايات. ينقل وزير الإعلام اللبناني بول مرقص عن زميله وزير الدفاع اللواء ميشال منسّى أنَّ القتلى السوريين هم من المُهرِّبين، من دون أيِّ تفاصيل أخرى عن كيفية اكتشاف أنَّ القتلى، وهم قتلى، هم من المهرِّبين، ومن دونِ أيِّ تفاصيل قضائية بشأن جريمةٍ ارتُكِبَت بحقِّ بشرٍ وُجِدَت جثثهم داخل الأراضي اللبنانية، حتى لو كانوا مُهرِّبين.
تقولُ مصادر سورية إنَّ الجيش السوري لن يقومَ بالحملة العسكرية لـ”تنظيف” الحدود وتمشيط القرى وطرد قوات “حزب الله” من أجل “مهرِّبين”، وتستغربُ روايةَ بيروت. بالمقابل فإنَّ أوامرَ صدرت إلى الجيش اللبناني بالردّ على مصادر النيران السورية، فيما “حزب الله” أعلنَ أنَّ ليست له علاقة بأصلِ الحكاية ومسلسلها (نعى 4 مقاتلين!)، رُغمَ أن الأسلحة المُستَخدمة، وفق الرواية السورية، ليست أسلحة عشائر ومهرِّبين، بل هي أسلحة صاروخية ورشاشات ثقيلة إضافة إلى مسيّرات استطلاع لا يمتلكها إلّا الحزب وامتداداته. وإذا ما “يفتك” القرار الأممي 1701 بسلاح الحزب، فإنَّ القرار والدولة يُصابان بشللٍ أمام السلاح نفسه تحت عنوان “العشائر”.
ليس بالضرورة تصديق الرواية السورية، لكن بالمقابل فإنَّ على بيروت أن تُقدِّمَ للرأي العام اللبناني سرديةً تُجيبُ عن كافةِ الأسئلة، وبناءً على تحقيق وتحقّق، يوضّح مَن يتحكّم بالحدود مع سوريا، ومَن يُسيطر على المنافذ غير الشرعية، ولماذا أساسًا تبقى المنافذ غير الشرعية، ومن ارتكب جريمةَ قتلِ “المهرِّبين”، ولماذا لا تستطيع الدولة التي يُعوِّلُ العالمُ على إراداتها ضبط حدودٍ تُتّهم بالعبث في غرب سوريا كما اتّهمت حديثًا بتسعير أحداث ساحلها.
تَكمُنُ المفارقة الخبيثة في أنَّ الحدث يُمثّلُ تحدّيًا حقيقيًا لتَحَوُّلَين. واحدٌ تاريخي، أطاح في سوريا حُكمًا سيطرَ على البلد 54 عامًا. وواحدٌ نوعي حدث في لبنان، وله أن يكون تاريخيًا، في انتخابِ رئيسٍ للجمهورية واختيار رئيس للحكومة ثم تشكيلها، لأول مرة منذ نهاية الحرب الأهلية، من دون وصاياتٍ حكمت البلد مذاك، واحدة من دمشق وتالية من طهران. ولم يخفِ أعداء التحوُّلَين هويتهم، وهم بالمناسبة طرفٌ واحد يمنّ النفس بالعودة إلى حكم بيروت والسطو على دمشق.
ما جرى على حدود البلدين هو اختبارٌ للتحوُّلَين. والمُقلق أنَّ برودةً تسري في علاقات بيروت ودمشق لا تتّسقُ مع حاجة التحوُّلَين إلى التكامل وربما التحالف. زار وزير خارجية سوريا أسعد حسن الشيباني دول الجوار القريبة والبعيدة ولم يَزُر لبنان، جاءت تهنئة الرئيس اللبناني العماد جوزيف عون للرئيس السوري أحمد الشرع مُتأخّرة، وأتى لقاؤهما مصادفة على هامش القمّة العربية في القاهرة، بينما ما زالت همّة حكومة نواف سلام أقل من همّة سلفه، نجيب ميقاتي الذي زار دمشق، في وضع لبنات مشتركة لقيام الدولتين على حساب الدويلات وفلولها.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).