الحوثيون واليمن: صراعُ البقاءِ في ظلِّ الدينامِيّاتِ الجيوسياسية المُتَسارِعة

يتعيّنُ على الأطرافِ الفاعلة إقليميًا ومحلّيًا مُراجعة خططها استجابةً لتداعيات سقوط نظام بشار الأسد، وقرار دونالد ترامب بإعادةِ إدراجِ الحوثيين على قائمةِ المنظّمات الإرهابية الأجنبية.

دونالد ترامب: أعاد تصنيف جماعة الحوثي كتنظيمٍ إرهابي عالمي.

فوزي الغويدي*

مَثّلَ سقوطُ نظام بشار الأسد نقطةَ تحوُّلٍ جوهرية في المشهد الجيوسياسي الإقليمي، حيث أدّى إلى إضعافِ “محور المقاومة” بشكلٍ كبير. فقد شكّلت سوريا حلقةَ وصلٍ إستراتيجية في سلسلةِ النفوذ الإيراني الممتدّة من طهران إلى بيروت وصولًا إلى صنعاء، ما جعلها عنصرًا أساسيًا في ما يُعرَف بـ “محور المقاومة“. أدّت الانتكاسات الأخيرة التي تعرّض لها هذا المحور نتيجةً للحرب مع إسرائيل وشركائها الغربيين، إلى وضعِ الحوثيين في اليمن في موقف صعب. فقد فقدوا مركزًا لوجستيًا وتدريبيًا مهمًّا في سوريا، كما إنّه يؤثّر بشكلٍ مباشر في قدرةِ إيران على إدارة شبكة حلفائها في المنطقة، ما قد يدفعها إلى إعادة ترتيب أولوياتها وتوزيع مواردها المحدودة بين حلفائها المُتبقّين. ويفرضُ هذا الواقع الجديد تحدّياتٍ كثيرة على الحوثيين الذين باتوا مضطرّين لمراجعة إستراتيجيّتهم وخياراتهم السياسية والعسكرية، الأمر الذي قد ينعكسُ بشكلٍ كبير على مسار الحرب والسلام في اليمن.

التعامُل مع التحوّلات الإقليمية الجديدة

على مدى العقد الماضي، شكّلت دمشق محطّةً لوجستية حيوية لتدريب عناصر الحوثيين ونقلهم، إذ كانت تستضيفُ معسكرات تدريب خاصّة بالتنسيق مع “حزب الله” اللبناني. ومع سقوط نظام الأسد، فَقَدَ الحوثيون أحد أهم مصادر الدعم الإستراتيجي لهم. ويؤثّر هذا التغيير أيضًا في قدرة إيران على إدارة شبكتها من الحلفاء الإقليميين، ما يفرضُ على الجمهورية الإسلامية خياراتٍ صعبة. يُمكنُ لإيران أن تُقرّرَ تعويض خسارة سوريا، وبالتالي ممر الإمداد إلى “حزب الله”، من طريق تكثيف دعمها للحوثيين باعتبارهم رأس الحربة الجديد ل”محور المقاومة”. ومع ذلك، فإنّ عدمَ اعتراف إيران بدعمها السابق للحوثيين قد يؤدّي إلى تعقيداتٍ إضافية وضغوطٍ عقابية من الغرب، خصوصًا بعد قرار إدارة ترامب تصنيف جماعة الحوثي كتنظيمٍ إرهابي عالمي، ما يضرُّ أيضًا بالعلاقات المتنامية مع المملكة العربية السعودية. في المقابل، يُمكن أن تتّخذَ إيران خيارَ التراجع وإعادة تقييم إستراتيجيتها الإقليمية، الأمر الذي قد يُفسَّر كعلامة ضعف تشجّع خصومها على مزيد من الضغط. ولعلّ الخيار المرجّح هو أن تُعيدَ حساباتها في المنطقة ككل وتبحث عن مقاربة جديدة تحفظ ما تبقّى من نفوذها.

ومن المتوقّع أن ينعكسَ تغييرُ إيران إستراتيجيتها على الوضع في اليمن، حيث قد تستغلّ السعودية ذلك لصالحها. وعلى الرُغم من تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة وما يمثّله من فرصة تاريخية، تختارُ الرياض سياسة “النأي الإستراتيجي” عن المواجهة المباشرة مع الحوثيين، مُفضّلةً تحويل أي مواجهة محتملة إلى صراع يمني-يمني تحت مظلّةٍ دولية. ويعكسُ هذا التكتيك السعودي الذكي فهمًا عميقًا لتعقيدات المشهد اليمني وتداعيات أي تصعيد مباشر. فالرياض، التي نجحت في تأمين حدودها عبر الهدنة الضمنية منذ نيسان (أبريل) 2022، تسعى إلى تجنّب أيِّ استفزاز قد يقوّضُ هذا الاستقرار النسبي. غير أنّ الحوثيين، المُدرِكين لحساسية الموقف السعودي، يستَبِقُون أيَّ تحرُّكٍ عسكري مُحتمَل بحملةِ تهديداتٍ مباشرة عبر منصّاتهم الإعلامية، مؤكّدين قدرتهم على تحويلِ أيِّ مواجهة إلى حرب إقليمية شاملة.

المُثيرُ للاهتمام أنّ جماعة الحوثي نجحت في توسيع شبكة تحالفاتها بعد “طوفان الأقصى”. فمن المليشيات العراقية إلى حركة الشباب الصومالي، ومن شبكات التهريب في خليج عدن إلى البحر الأحمر، يبني الحوثيون منظومةً بديلة قد تُعوّضُ تراجُعَ الدعم الإيراني المحتمل. ويمنح هذا التموضع الإستراتيجي الجديد الجماعة هامشًا للمناورة يتجاوز قاعدة دعمها التقليدية.

في ظلِّ هذه الدينامية المعقّدة، تجدُ السعودية نفسها أمامَ معضلةٍ إستراتيجية، إذ تصطدمُ الفرصة التاريخية لإعادةِ رسمِ خريطة النفوذ في اليمن بمخاطر الانزلاق نحو مواجهةٍ مفتوحة مع حركةٍ حوثية باتت أكثر تعقيدًا في تحالفاتها وأكثر تطوّرًا في قدراتها العسكرية. في المقابل، وعلى عكس الضغوط المتزايدة والعزلة التي يواجهها الحوثيون، تجد الحكومةُ المعترف بها دوليًا في البلاد فرصة إستراتيجية لإعادة بناء شرعيتها وتوسيع نفوذها. ومع ذلك، فإنّ استغلالَ هذه الفرصة يتطلّبُ رؤيةً شاملة تتجاوز المكاسب العسكرية ضد الحوثيين، وبناء نموذج حوكمة يستجيب لتطلّعات جميع اليمنيين ويحافظ على التوازنات الإقليمية الدقيقة. وفي حالة اندلاع حرب مفتوحة في اليمن، قد تلجأ الرياض نحو تبنّي إستراتيجية “القيادة من الخلف”، حيث تدعم تحرّكات الحكومة الشرعية من دون الانخراط المباشر في المواجهة، متأمّلةً في الاستفادة من الغطاء الدولي المتزايد ضد التهديدات الحوثية للملاحة البحرية حول مضيق باب المندب.

غير أنّ هذه المعادلة الدقيقة تبقى رهناً بمتغيّرات إقليمية ودولية متعدّدة، من مستقبل المفاوضات النووية الإيرانية إلى تطوّرات الصراع في غزة. فالحوثيون، الذين نجحوا في تحويل قضية فلسطين إلى رافعة لشرعيتهم المحلّية والإقليمية، قد يجدون في التصعيد ضد المصالح الغربية والإسرائيلية بديلاً إستراتيجياً يعزّز موقعهم التفاوضي ويربك الحسابات الإقليمية.

ترامب واستهداف الحوثيين

لا ينحصر تأثّر الحوثيين بالتحوّلات الدينامية في المنطقة، بل يمتدّ ليشمل قرارات دولية. فبعد فترة وجيزة من عودة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى منصبه، أصدرَ أمرًا تنفيذيًا يقضي بإعادة تصنيف الحوثيين كمنظمةٍ إرهابية أجنبية، وسيدخل هذا القرار حيّز التنفيذ في آذار (مارس). يتجاوز هذا التصنيف بآثاره التصنيف “الخاص” الذي اعتمدته إدارة جو بايدن، إذ يَفرُضُ عقوباتٍ شاملة تطالُ أيَّ كيانٍ يتعاملُ مع الجماعة، سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. ويعكسُ ذلك تحوّلًا في الإستراتيجية الأميركية من سياسة الاحتواء والردع المحدود إلى إستراتيجية المواجهة. بَيدَ أنّ هذا التحوّل لم يأتِ من فراغ، بل يعكسُ إدراكًا متناميًا في واشنطن لحقيقةِ أنَّ التهديدَ الحوثي تجاوزَ حدود اليمن وأصبح تحدّيًا إستراتيجيًا يُهدّدُ أمنَ الملاحة الدولية ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة.

ويؤسّسُ القرارُ الأميركي لعزلةٍ مُتعدّدة الأبعاد تُحاصِرُ الحوثيين في دوائر متداخلة. فمن الناحية السياسية، يَجدُ الحوثيون أنفسهم في عزلةٍ مُتزايدة عن المجتمع الدولي، مع تقلّصِ قدرتهم على المشاركة في المفاوضات السياسية. أمّا على الصعيد الاقتصادي، فهم يواجهون حصارًا ماليًا يُقيِّدُ وصولهم إلى النظام المصرفي العالمي. أمّا لوجستيًا، فهم أمامَ تضييقٍ مُتزايدٍ على شبكات الدعم والتموين التي اعتمدوا عليها طويلًا.

ربّما الأهمُّ من ذلك هو أنَّ القرارَ الأميركي قد يُعرّضُ الحوثيين لمعاملةٍ تُشبهُ معاملةَ المجموعات الإرهابية العابرة للحدود مثل تنظيم “القاعدة”، حيث يصبح قادتهم وبنيتهم التحتية أهدافًا عسكرية.

ومع ذلك، فإنّ تطبيق هذا القرار لا يخلو من آثارٍ سلبية وتحدّياتٍ عملية. تُشكّلُ العواقب على الأنشطة الإنسانية، بما في ذلك إيصال المساعدات للمدنيين، معضلةً كبرى ستتفاقم بمرور الوقت. وبالنظر إلى أنّ نحو ثلثي سكان اليمن يعيشون في مناطق سيطرة الحوثيين، فإنّ تطبيق العقوبات من دون معاقبة غالبية اليمنيين سيكون صعبًا للغاية. علاوةً على ذلك، قد يردّ الحوثيون على الضغوط المتزايدة عليهم بالتصعيد العسكري، ما يجعلهم ينخرطون في لعبة الدجاجة وديبلوماسية الرهائن.

مستقبل اليمن: إلى أين؟

قد يُحدِثُ سقوطُ نظام الأسد وإدراج الحوثيين على قائمة الإرهاب تحوّلاتٍ في المشهد الإقليمي، ما يستلزمُ على جميع الأطراف إعادةَ رسم خططها. خسرَ الحوثيون ممرًّا لوجستيًا في سوريا، في وقتٍ ستُضاعف العقوبات الأميركية الخناق عليهم. أمّا إيران، فمُثقَلةٌ بأعباءٍ اقتصادية وسياسية، وباتت أمامَ خيارٍ صعب: إمّا تعويض حلفائها الحوثيين عن خسائرهم أو تقليص نطاق دعمها. وقد تترتّب على كلا الخيارَين مخاطرُ تصعيد الضغوط الغربية وتهديد العلاقات المتنامية مع الدول الخليجية. أما السعودية التي تسعى إلى حماية حدودها وتجنّبِ المواجهة العسكرية المباشرة، فلا يمكنها التغاضي عن تنامي تحالفات الحوثيين واحتمال تجدّد الصراع.

في النهاية، تشهدُ منطقةُ الشرق الأوسط اضطراباتٍ نتيجةَ الحرب على غزة والتوتّرات المحتدمة بشأن البرنامج النووي الإيراني. ومع تفاقُمِ المحنة الإنسانية وفَرضِ المزيد من العقوبات وتهديدات الحوثيين بالتصعيد، تَرسُمُ هذه التغيّرات المتشابكة ملامح مرحلة انتقالية قد تُعيدُ تشكيلَ المشهدِ اليمني وفقَ معادلاتٍ جديدة، لكن نتائجها النهائية تبقى رهنًا بقدرةِ مختلفِ الأطراف على إدارةِ تحدّياتها الداخلية وتكييفِ إستراتيجياتها مع المتغيّراتِ المُتسارعة.

  • فوزي الغويدي هو زميل زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، ويحمل ماجستير في التاريخ من معهد الدوحة للدراسات العليا في قطر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى