تَخَثُّرُ الدماءِ في قَلبِ العُروبةِ النابِض

الدكتور فيكتور الزمتر*

اجتهدَ الباحثون في تاريخ الحضارات لتحديد طبيعة التفاعُل بين الجغرافيا والسياسة، حتّى إذا ما أعياهم البحثُ عن تحديد أيَّةٍ منهما لها أولوية التأثير في الأُخرى، وجدوا الحلَّ في توأمتهما، تحت مُسمّى “الجيو سياسة”. وبذلك، أضحى المولودُ الجديدُ، “الجيو سياسة”، كالقلب الذي لا يخفقُ إلّا بتفاعُل حُجُراته العُلويّة والسُفليّة.

ولئن كانت الجُغرافيا الطبيعيةُ مُعطَى ثابتًا، اعتُبِرَت الجغرافيا السياسيةُ ابنةَ التاريخ المُتحرِّك، بدليل ما يُدخلُه مِقَصُّ الإرادة السياسية من تعديلاتٍ على الخرائط الجغرافية القائمة، تِبعًا لموازين القوى المُسَيطِرة.

إنَّ مُتونَ التاريخِ حافلةٌ بالشواهد، التي لا تُحصى، على التغييرات الحدودية لامبراطوريّاتٍ وممالك ودُولٍ سادت ومادت، ثمَّ بادَت وأَفَلَت بفعلِ وَهنِ قواها الإبداعية، على ما يقول المؤرّخُ البريطاني الشهير “أرنولد طوينبي” (Arnold Toynbee) (١٨٨٩- ١٩٧٥).

إلى ذلك، تبقى للإنسان اليدُ الطُولى في تطويع الجغرافيا الطبيعية، ما مكَّنَه إبداعُه، والتطبُّع مع إملاءاتها، “مُكرَهٌ أخوك لا بطل”. إلّا أنَّ تعذُّرَ إخضاعِ ثوابت الجغرافيا الطبيعية لا يعفي الإنسان من مسؤوليته في عدم جعلها بيئةً، ينعمُ فيها معشرُ البشر بالسلامِ والوئامِ والدِعَة!

لقد حبا الله سوريا جغرافيةً طبيعيةً مثاليةً بتنوُّعها البيئي، من جبالٍ وسهولٍ وصحاري وشواطئ … وأكرمَها بتعدُّدٍ بشريٍّ، من أعراقٍ وأديانٍ ومذاهب، ما أثرى تاريخَها بمساهمات تلك الأقوام المُجتمعية التي عاشت وتفاعلت على أرضها، حتى أصبحت قُبلةَ أنظار الفاتحين من مُختلف بقاع الأرض.

وعليه، كان من البداهة أنْ تكونَ حدودُها مطّاطةً بين مدٍّ وجزرٍ، ما أوجبَ، غالبًا، رسمَ تلك الحدود بالدم لا بالحبر. ولعلَّ ما سعَّرَ القلاقل في سوريا الطبيعية مُنذُ سقوطُ السلطنة العثمانية، كان التكالُبُ الإستعماريُّ لاقتسام تركة “الرجل المريض”، طمعًا بالموقع الإستراتيجي، المتوسِّط بين ثلاث قارّاتٍ، وبما يختزنُه باطنُها من ثرواتٍ دفينةٍ، ولا سيَّما مع اندفاع المشروع الصهيوني (مؤتمر بال ١٨٩٣) وانبعاث رائحة النفط من مسام الشرق الأوسط الترابية.

وهكذا، عاشت سوريا الطبيعيةُ بالخصوص، والشرقُ الأوسط بالعموم، على صفيحٍ ساخنٍ، من خلال سياسة التحريض واللَّعب على الأوتار الإثنية والدينية والمذهبية. فكانت اتفاقيات التآمُر، من اتفاقية سايكس- بيكو (١٩١٦) ووعد بلفور (١٩١٧) ومؤتمر سان ريمو (نيسان/أبريل ١٩٢٠) الذي فرضَ الإنتدابَ الفرنسي على سوريا ولبنان، والإنتدابَ الإنكليزي على العراق وفلسطين، ردّاً على إعلان الأمير فيصل بن الشريف حُسين ملكًا على سوريا (آذار/مارس ١٩٢٠) … وُصولًا إلى معركة ميسلون (٢٥ تمّوز/يوليو ١٩٢٠)، التي أنهت، خلال ساعاتٍ معدوداتٍ، ليس فقط حُلُمَ المملكة العربية السورية المُستقلَّة بالضربة القاضية، بل أذنت تلك الهزيمةُ النكراء بمآسي سوريا الحديثة، منذ قرنٍ من الزمان، والحبل ما زال مُلتفًّا على عُنُقها حتى كتابة هذه السطور.

آخرُ فصولِ تلك المآسي ما زالت تُكتبُ بالأحمر القاني السوري، ولكن بإخراجِ فسيفساءٍ من الجنسيّات الإقليمية والدولية!

إلّا إنَّ الوقتَ ليس لرمي المسؤولية على الخارج الطامع دائمًا، بل للتوقُّف عن الإستقالة من المسؤولية. فهذا الواقعُ المُحزن يدفع إلى التساؤل، كيف لهذا الخزيان المُتناسل أن يحصلَ مع شعبٍ تعدَّدت فيه الإثنياتُ والمِلَلُ والدياناتُ والمذاهبُ، من العرب والشركس والتركمان والأكراد والبشناق، والأشوريين والكلدان والسريان والآراميين والأزيديين والأرمن، ومن المسيحيين والسنَّة والعلويين والدروز …؟

سوريا العريقةُ، موطنُ “إنسان “نياندرتال” وسليلةُ أبجدية “أوغاريت”، سوريا التنوُّعُ والخصوبةُ، مصلوبةٌ، مُنذ عُقودٍ على خشبة الجهل والحقد، يقتلُ الأخُ فيها أخاه على خُطى “قايين”، لا لشيءٍ إلّا لاعتقاده خطأً أنَّه يحتكرُ حقيقةَ الإيمان ونُبلَ القوم وصوابَ المذهب. لقد وصلَ الإنتقامُ، قبلَ أيّامٍ، إلى دَرْكٍ غير مسبوقٍ، حيثُ أَرغمَ الأخُ المُنتقِم أخاه اللَّدود المُنْتَقَم منه أن “يَعْوي” كالحيوان وهو يمشي على يديه ورِجليه!

يحصلُ ذلك، والسوريون، من كلّ المشارب والمذاهب، غافلون عن اقتراع بعض دُوَل المحيط والقوى الكُبرى على ثياب سوريا المصلوبة والمجلودة. لقد اقتسموا غلافَها الشرقي النفطي وشمالَها الزراعي الخصيب وغربَها البحري الدافىء وجنوبَها الجبلي الحصين. فالكيانُ الإسرائيليُّ يسرحُ ويمرحُ ويتوسَّع، وِفق رؤية بنيامين نتنياهو لتغيير الشرق الأوسط، حتى وصلَ على بُعد كيلومتراتٍ من عاصمة الأُمويين. وحديثًا، تداولت تقاريرٌ عن فرض إسرائيل جُملةَ شروطٍ للتطبيع مع النظام الجديد في سوريا. من تلك الشروط، كما قيل، المُطالبة بمنطقةٍ عازلةٍ في الجنوب السوري، مع ضمان حرية حركة الجيش الإسرائيلي، والتسليم بضمّ الجولان وقمم جبل الشيخ.

وهكذا، يستمرُّ تمزيق سوريا الطبيعية، مُنذ سقوط مملكة فيصل الهاشمية، على أيدي الإنتداب الفرنسي، الذي شرذَمَها إلى أربع دُوَلٍ، بنكهةٍ طائفيةٍ مقصودةٍ، هي دويلات دمشق (سُنَّة) ودولةُ حلب (طابع كردي) ودولةُ العلويين (١٩٢٠) ودولةُ جبل الدروز (١٩٢١)، بعد سلخ لواء الإسكندرون وإعلان دولة لبنان الكبير (١٩٢٠).

وبُعَيد استقلالها، عصفت بسوريا موجةٌ من الإنقلابات والثورات، انتهت بسيطرة حُكم البعث، حيث نعمت، بحدِّ السيف، ببعض الإستقرار السياسي النسبي، إلى أن قضى الله، في ٨ كانون الأوَّل (ديسمبر) ٢٠٢٤، أمرًا كان مفعولًا. على أنَّ ذلك الإستقرار لم يكن ليتمّ إلّا على حساب كَمِّ الأفواه والتنكُّر لحقوق الإنسان وللتداول الديموقراطي للسلطة، فضلًا عن فُقدان مُرتفعات الجولان.

لقد شكَّلت معركةُ ميسلون مَعلَمًا مفصليًّا أطفأ شُعلةَ الدولة الهاشمية الواعدة، بإخضاعها إلى الإستعمار، تحت مُسمّى الإنتداب، تلطيفًا.

لم يَكُنْ عصيًّا على المُراقب المُحايد أن يتنسَّمَ ملامحَ مملكة فيصل بن الحُسين الواعدة، لما رافق قيامَها من تآلفٍ قوميٍّ، تحت عباءة الأمير فيصل. فقد أحاطَ نفسَه ببرلمانيين ووزراء ومستشارين، بدونِ تفرقةٍ بين سوريٍّ ولبنانيٍّ وفلسطينيٍّ وعراقيٍّ .. منهم السُنّي والكردي والدرزي والعلوي والمسيحي …

أين نحن، اليومَ، من تلك الحميَّة الوطنيَّة والقوميَّة بعدما أصبحَ الوطنُ وُجهةَ نظرٍ تستجدي الفيءَ في ظلال أيَّة دولةٍ، بما فيها دولة الشيطان، على أن تؤمِّن له الحدَّ الأدنى من العيش الكريم؟

وفي هذا السياق، وشهادة للتاريخ، من الإنصاف الإتيان على ذكر الأب الماروني حبيب اسطفان (١٨٨٨- ١٩٤٦) خريج الكرسي الرسولي، الضليع في مجال اللّاهوت والعقيدة، وخادم رعية مار جرجس المارونية في بيروت، والذي قال عنه الكرسي الرسولي، يوم تخرُّجه بأنَّه: “هديةُ الفاتيكان إلى الطائفة المارونية في لبنان”. فمن شدَّة تعلُّقه بلبنانيته وبمحيطه، خلعَ الثوب الرهباني الأسود والتحق بالأمير فيصل ليكونَ مستشارَه وأميرَ البيان والمنابر، وليساهمَ في بناء الدولة العربية الحديثة.

ومن أشهر خُطب “ميرابو العرب والشرق، الراهب السابق حبيب اسطفان، خطابٌ ردَّدَ فيه بيتَ شعرٍ منسوبٍ لزوجة مُعاوية، ميسون بنت بحدل الكلبية، يقولُ: “ولبسُ عباءةٍ وتقرُّ عيني، أحبُّ إليَّ من لبس الشفوف”. عندها، وقف الأمير فيصل وخلعَ عباءتَه المُقصَّبةَ بخيطان الذهب، وألبسَه إيّاها!

كان ذلك زمنَ الإنعتاق من حرب التتريك، أواخر الحكم العثماني، والتطلُّع إلى الدولة الوطنية والقومية، التي لا تُفَرِّقُ بين مواطنيها، ولا تسمحُ لمدَّعي الإيمان أنْ يقتلوا باسم الدين والمذهب على الهوية الطائفية والمذهبية، كما يحصل راهنًا من مذابح همجيةٍ في الساحل السوري، بما يندى له الجبين الوطني والقومي!

يحصلُ ذلك والناسُ على صيامٍ في شهر الصلاة والتأمُّل والتراحُم! فحتّامَ التنكُّرُ لقوله تعالى: “ولو شاءَ ربُّك لجعلَ الناس أمَّةً واحدةً ولا يزالون مُختلفين”(سورة هود، الآية ١١٨)؟ بل، متى يتمعَّنُ القومُ بقول الأديب المصري، مصطفى صادق الرافعي، العام ١٩١٦: الدين لله والوطنُ للجميع”؟

نتذابحُ ومصير الوطن على مشرحة التمزيق، والمُطالبة الدولية بحماية الأقلّيات تُذكِّرُ بالمُكر الذي رافق الحديث على “المسألة الشرقية” أو “الرجل المريض” في القرن التاسع عشر، بينما المقصودُ واحدٌ: شرذمةُ الأُمَّة ليتَسَيَّدَ الخارج على أهل الأرض، ما تحتها وما فوقها! والأنكى من كلِّ ذلك استهجانُ الكلام على انفصالٍ كُرديٍّ في الشمال وعلويٍّ في الغرب ودرزيٍّ في الجنوب، بدون تقريع الدولة على خذلانها لشعبها! إنَّه، باختصارٍ،عَودٌ على بدء “مأثرة” الإنتداب الفرنسي، يوم قسَّمَ المقسومَ، سوريا، إلى أربع دُوَلٍ على أساسٍ طائفي! واخجلتانا!

لكنَّ ما يحصلُ الآن أخطر وأدهى بكثيرٍ، لأنَّ المطلوب لم يعد تقسيمًا ضمن النطاق السوري، بل سلخًا وضمًّا، على المكشوف، تحقيقًا لمشروع “إسرائيل الكُبرى”، وتنفيذًا للميثاق الذي عقده الله  مع أبراهام، حسب التوراة: “سأُعطي نسلكَ هذه الأرضَ من وادي العريش إلى النَّهر الكبير، نهر الفرات”!

“.. فاتَّقوا الله يا ذوي الألباب لعلَّكم تُفلحون” (سورةُ المائدة، الآية ١٠٠).

  • الدكتور فيكتور الزمتر هو كاتب ومحلل سياسي، وسفير لبناني متقاعد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى