الاقتصادُ العالمي بدونِ أميركا
جيم أونيل*
ما زلنا في بداية إدارة دونالد ترامب الثانية، ولكن يجب علينا أن نسأل أنفسنا ماذا يعني “لنجعَل أميركا عظيمةً مرّةً أخرى”.
بعد كل شيء، فإنَّ البلاد عظيمة أصلًا، إذا حكمنا من خلالِ كلِّ المقاييس الاقتصادية الأساسية. فهي تُمثّلُ ما بين 15% و26% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي (اعتمادًا على ما إذا كان المرء يستخدم الرقم الاسمي أو يُعدّله وفقًا للقوّة الشرائية)، واقتصادُها أكبر من بقية دول مجموعة السبع مُجتمعةً. وعلى الرُغم من أنَّ عددَ سكانها هو ربع حجم الصين أو الهند، فإنَّ الولايات المتحدة تتضاءل أمام كلا الاقتصادين (من حيث القيمة الاسمية). إنَّ متوسّط دخل الأسرة الأميركية أعلى بكثير من أيِّ دولةٍ أخرى يزيد عدد سكانها عن 50 مليون نسمة.
مع ذلك، فإنَّ مُعدّلَ الادّخار المحلّي في الولايات المتحدة مُنخَفضٌ بشكلٍ رهيب وتَظهَرُ تفاوتاتٌ شديدة في الدخل والثروة مُقارنةً بنظيراتها. وعلى الرُغم من إنفاق مبالغ هائلة على الرعاية الصحية، فإنها تحتلُّ مرتبةً أدنى من جميع الاقتصادات المتقدّمة الأخرى في نتائج الصحة، حيث يُعاني بعضُ فئات السكان من انخفاضِ متوسط العمر المُتَوَقَّع. إن غالبية خبراء الاقتصاد تقول إنَّ أميركا إذا أرادت أن تُصبحَ أعظم، فإنها تحتاجُ إلى تَحسينِ وَضعِها المالي، وإطلاقِ العنانِ لعوائد اجتماعية أعلى من نفقاتها الضخمة على الصحة، وتحقيقِ نموٍّ أكثر شمولًا، مع ارتفاع الدخول على نطاقٍ واسع، وخصوصًا بالنسبة إلى أولئك في أسفلِ سُلّمِ التوزيع.
ونظرًا لحجم الاقتصاد الأميركي وأهمّيته النظامية، فإنَّ التطوّرات في الاقتصاد الأميركي تميلُ إلى أن تكونَ لها آثارٌ على بقية العالم أيضًا. فعلى مدى العقود القليلة الماضية، اعتبرَ الجميعُ في الاقتصاد العالمي أنَّ هناكَ ثلاثَ سماتٍ رئيسة للنظام الأميركي: إنفاقه الدفاعي الضخم (الذي عزز تحالفاته ومنحه السلطة على الخصوم)؛ وموقعه المركزي في نظام الحكم العالمي القائم على القواعد في فترة ما بعد الحرب؛ والطلب الاستهلاكي الهائل، وهو أمرٌ أقلّ مُناقشة إلى حدٍّ ما.
في نهاية العام 2024، شكّلت نفقات الاستهلاك الشخصي 68٪ من الناتج المحلي الإجمالي الأميركي. وهذا مستوى مُرتفعٌ للغاية لأيِّ اقتصادٍ في أيِّ وقت، وفي حالة الولايات المتحدة، استمرَّ لسنوات عديدة. إنَّ حصّةَ أميركا من الاستهلاك العالمي للسلع أكبر بكثير حتى من حصة الاقتصاد الأميركي الكبيرة أصلًا من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ولأنَّ هناكَ علاقةً قوية بين الاستهلاك الأميركي والواردات الأميركية، فقد أصبحت بقية العالم، الأصدقاء والأعداء، ومقدمي السلع الأساسية (مثل الطاقة) والسلع الفاخرة على حد سواء، تعتمدُ على هذا الجانب من الاقتصاد الأميركي.
من خلال التهديدِ المُستمِرّ بفرض تعريفات جمركية أعلى على أكبر شركاء أميركا التجاريين، يبدو أنَّ الرئيس دونالد ترامب ومستشاريه غير مُنزَعجين من حقيقةٍ مفادها أنَّ خفضَ الواردات الإجمالية إلى الولايات المتحدة من شأنه أن يضرَّ بالمستهلك الأميركي على الأرجح، إما من خلال ارتفاع الأسعار أو بإجبار الولايات المتحدة على زيادة معدل ادخارها مع تحوّل انتباه واهتمام بقية العالم إلى أماكن أخرى.
هل يُمكن أن يحدث هذا؟ على الرُغم من أنَّ الولايات المتحدة تُمثّل 15-26٪ من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، فإنَّ بقية الاقتصاد العالمي لا تزال أكبر بنحو 3-5.5 مرات. لذا، فمن السهل أن نتخيَّلَ سيناريو تُقرّرُ فيه دولٌ أخرى أنها لم تَعُد تُريدُ الاعتمادَ كثيرًا على المستهلك الأميركي. لماذا لا تُنَوِّع؟
ولنتأمّل هنا مجموعة “بريكس”، التي كانت تعمل على توسيع تكوينها الأصلي (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) لتشمل أعضاءً جددًا و”دولًا شريكة”. ماذا لو قرّرت هذه الدول فجأةً القيامَ بأكثرِ من عقدِ قمم سنوية رمزية؟ فبدلًا من إملاءِ الشروط على المشاريع في البلدان المشاركة في مبادرة الحزام والطريق، قد تبدأ الصين في عرض التجارة والاستثمار مُنخفضَي التعريفات أو المعفيَين منها. وبالتعاون مع الهند، التي يبلغ عدد سكانها أربع مرّات عدد سكان أميركا، قد تخلق الصين الظروف الملائمة لانفجار التجارة العالمية التي تستبعد الولايات المتحدة.
وعلى نحوٍ مُماثل، قد نتخيّلُ حكومةٌ ألمانيّة جديدة أكثر انفتاحًا على الخارج تُدركُ أخيرًا أنَّ “فرملة الديون” التي فرضتها على نفسها كانت تُعيقها. ومثلها كمثل حكومة حزب العمال الجديدة نسبيًا في المملكة المتحدة، قد تتبنّى ألمانيا سياسةً لا تسمحُ فحسب بالاقتراض، بل وتُشجّع أيضًا على زيادة الإنفاق على البنية الأساسية والدفاع المحلي. ولماذا لا نعيد النظر في تلك المقترحات الفرنسية الدائمة لتطوير سوق السندات الأوروبية، أو نتعامل أخيرًا بجدية مع توسيع السوق الأوروبية الموحَّدة لتشمل جميع السلع والخدمات؟
إذا ساعدت حملة “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” الجميع في نهاية المطاف على التخلّص من اعتمادهم على المستهلك الأميركي، فسوف يكون لبقية العالم الكثير مما تشكر عليه ترامب. ولن يكونَ الخاسرون سوى الأميركيين العاديين.
- جيم أونيل هو رئيس سابق لشركة بنك غولدمان ساكس لإدارة الأصول ووزير الخزانة البريطانية سابقًا.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.