رفيق الحريري، قِلَّةٌ من سياسيي لبنان ما بَعدَ الحرب كان لها تأثيرُه

مايكل يونغ*

يوم غد الجمعة (14 شباط/فبراير)، سيُحيي لبنان الذكرى العشرين لاغتيال رفيق الحريري. وهذا يوفّرُ فرصةً لدراسة إرث رئيس الوزراء السابق، ولكن أيضًا للتأمل في إخفاقات التحقيق الدولي في الكشف عن جميع قاتليه.

عندما تولّى الحريري السلطة في العام 1992، تحقّقَ ذلك إلى حدٍّ كبير من خلال تفاهُمٍ بين المملكة العربية السعودية وسوريا. لعب السعوديون دورًا رئيسًا في التفاوض على اتفاقِ الطائف الذي كان بمثابة الأساس للتغييرات الدستورية التي أعادت توزيع السلطة بين الطوائف اللبنانية وأنهت الحرب الأهلية. بدورها، كانت سوريا القوة المُهَيمِنة بحُكمِ الأمرِ الواقع في لبنان، بعدما أطاح جيشها ميشال عون والحكومة العسكرية التي ترأسها.

كانت مهمّة الحريري مُركّزة على قيادة التعافي الاقتصادي وإعادة الإعمار المادي في لبنان، نظرًا للثقة التي كان يتمتّع بها دوليًا، وخصوصًا بين المؤسسات المالية. وقد احتفظ السوريون بنفوذٍ كبير على الشؤون السياسية والأمنية في لبنان، وفرضوا استثناءً على نزع سلاح الميليشيات التي نشأت بعد الحرب: حيث سمحوا ل”حزب الله” الاحتفاظ بأسلحته ومواصلة مقاومته ضد الاحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان.

كان الهدف السوري من القيام بذلك هو الاحتفاظ بنقطةِ ضغطٍ ضد إسرائيل في وقتٍ كانت دمشق مُنخَرِطة في مفاوضاتٍ مع الإسرائيليين بشأن مرتفعات الجولان، في أعقاب مؤتمر مدريد الذي عُقِدَ في العام 1990. لم يكن الرئيس السوري آنذاك حافظ الأسد يسعى إلى استعادة الجولان المُحتَل فحسب، بل كان يسعى أيضًا إلى الاحتفاظ بالسيطرة على لبنان.

عانى الحريري من هذا الوضع لسنوات، ما أدّى إلى ازدواجية شاذة بين دولةٍ تُحاوِلُ استعادة سيادتها وجماعةٍ مُسلّحة مستقلة تُقوّضُ هذه السيادة. كما واجه مشكلة كبرى أخرى في الاضطرار إلى توجيه إعادة الإعمار في بلدٍ لا تزال غالبية زعماء الميليشيات في زمن الحرب، وحلفاء لسوريا، تحتفظ فيه بقدر كبير من السلطة.

لقد أجبر هذا الأمر الحريري على وضعِ نظامٍ يمنح فيه زعماء الأحزاب أو أعضاءها وزارات، والتي غالبًا ما يديرونها كإقطاعيات شخصية، بينما يحتفظ رئيس الحكومة بقرارات إعادة التأهيل وإعادة الإعمار بين يديه. هذا لا يعني أن الوزارات كانت مُهَمَّشة. فالمشاريع التي كانت تُدار من خلال هذه الوزارات سمحت بقدرٍ كبيرٍ من الفساد ونهب الموارد الوطنية.

كان الرجل الذي سيؤمّن التمويل لمثل هذه الأنشطة هو رياض سلامة، حاكم مصرف لبنان المركزي. بدأ سلامة، الذي يقبع الآن في السجن، عملية إصدار سندات ديون محلية عالية الفائدة لجذب رأس المال إلى البلاد، ما ساعد على تمويل إعادة الإعمار، وفَرَضَ ربطًا ثابتًا (ومُكلِفًا) للعملة المحلية بالدولار الأميركي. وعندما وصل هذا النظام إلى مرحلة الأزمة في العام 1998، بدأ لبنان إصدار سندات ديونٍ أجنبية لتجنُّب التخلّف عن السداد.

يُمكِنُ للمرء أن يُشيدَ بالحريري لقيادته عمليةِ إعادةِ إعمارٍ شائكة للغاية كانت لتطغى على معظم رؤساء الوزراء الآخرين. ومع ذلك، فقد أشرف أيضًا على الأُسُسِ الهشّة للنظام المالي اللبناني الذي انهار في العام 2019. ربما لم يكن لديه خيارٌ آخر إذا كان هدفه إعادة بناء لبنان، لكن اغتياله أزال أيضًا الشخص الوحيد الذي ربما كان قادرًا على تقديم تدابير تصحيحية لتجنُّب الأسوَإِ.

وبحلول العام 2004، شعر الحريري بالاستياء من قيام السوريين بتمديد ولاية الرئيس اللبناني آنذاك إميل لحود، الذي فرضوه في العام 1998 لاحتواء الحريري، من بين أسبابٍ أخرى. ولعب الحريري دورًا خلف الكواليس في الضغط من أجل صدور قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1559، الذي يدعو إلى انسحاب سوريا من لبنان ونزع سلاح جميع الميليشيات. وكانت هناك أيضًا إشارات إلى أنه كان على وشك تشكيل قوائم ضد المرشّحين الذين تدعمهم سوريا في انتخابات العام 2005، وتأمين الأغلبية البرلمانية، ووضع نفسه في موقفٍ يسمح له بمطالبة سوريا بسحب قواتها.

كانت هذه هي الخلفية التي أدّت إلى اغتيال الحريري. وقد أكدت هذه الخلفية قدرة الرجل على المناورة بين التناقضات والنفوذ الكبير الذي مارسه محلّيًا ودوليًا، الأمر الذي جعله في نهاية المطاف هدفًا. ولكن النتيجة الإيجابية كانت أنه ترك وراءه بلدًا أُعيدَ بناؤه بشكلٍ كبير بعد خمسة عشر عامًا من الحرب. وكان بوسعه أن يُشيرَ إلى هذا، حتى ولو كانت خططه قد أثارت انتقادات من بعض الأوساط.

إن آخر ما قد نتذكره عن الحريري هو أنَّ مقتله أدّى إلى إنشاء أول محكمة تابعة للأمم المتحدة للتعامل مع الجرائم الإرهابية. ومع ذلك، فإنَّ التحقيق الذي أجرته الأمم المتحدة والذي سبق المحكمة لم يقم إلّا بقدر ضئيل من التحقيق بعد العام 2005، خوفًا على ما يبدو من العواقب السياسية، وفي النهاية توصّل إلى لائحة اتهام سمحت للعديد من المتورطين بالبقاء أحرارًا. إن ما كان من المُفتَرَض أن يكون عملية قضائية لإنهاء الإفلات من العقاب على الجرائم السياسية لم يكن كذلك على الإطلاق حيث استمرت الاغتيالات السياسية.

ليس من السهل تلخيص الحريري وأثره. ففي كثير من النواحي، أظهرت فترة وجوده في منصبه أفضل وأسوأ ما في لبنان، بينما أدّى موته إلى تقسيم البلاد بشكل أكبر، في حين كان ينبغي أن يُوحّدها. ولكن عندما نستعرض لبنان بعد الحرب، نجد أن قِلّة من السياسيين تمكّنت من دفع البلاد إلى الأمام كما فعل، في حين أدى موته إلى فترة طويلة من الجمود والعنف والدمار في الشؤون الوطنية. وهذا وحده يُفسّر سبب الأسف على غيابه.

  • مايكل يونغ هو مُحرّرٌ كبير في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيثُ يرأس تحرير مدوّنة “ديوان” التابعة للمركز. وهو كاتب رأي في الشؤون اللبنانية في صحيفة ذا ناشيونال، ومؤلف كتاب “أشباح ساحة الشهداء: رواية شاهد عيان عن كفاح لبنان في الحياة” (دار سايمون وشوستر، 2010)، الذي اختارته صحيفة وول ستريت جورنال كواحد من الكتب العشرة البارزة لعام 2010. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى