الصفقة الكبرى التي يريدها ترامب مع إيران لا ينبغي أن تتغاضى عن شعبها
يتمتع الرئيس الأميركي دونالد ترامب بنفوذ كبير للتفاوض على اتفاق نووي جديد مع طهران يحمي المحتجّين أيضًا.

مايكل إيزنر*
“لا غزّة ولا لبنان – حياتي هي من أجل إيران”. هذه هي الهتافات الحاشدة التي هتف بها المحتجون في جميع أنحاء إيران، وقد تكون مفتاحًا لمستقبل البلاد.
في مواجهةِ حملةِ قمعٍ وحشية ضد موجة المظاهرات التي بدأت في أيلول (سبتمبر) 2022، يشكّل المحتجّون -الذين يمثِّلون شريحةً واسعة بشكل متزايد من السكان الإيرانيين- تحديًا عميقًا لنظامٍ عانى من سلسلةٍ من الخسائر المدمّرة في الخارج وأزمةٍ شرعية في الداخل.
في احتياجٍ ماسٍ إلى تخفيف العقوبات لتخفيف اقتصاده المُتدهور بشدة، أشار النظام الإيراني إلى اهتمامه باتفاقٍ نووي جديد، ما يُوفّرُ للولايات المتحدة فرصةً تاريخية للتفاوُض على صفقةٍ كبرى يُمكنُ أن تُعيدَ تَشكيلَ الشرق الأوسط.
وبينما هما يتأمّلان الخطوط العريضة للاتفاق الجديد، يجب على الرئيس الأميركي دونالد ترامب ــصانع الصفقات ــ ووزير خارجيته ماركو روبيو ــالذي دافع عن حقوق الإنسان في الجمهورية الإسلاميةــ ألّا يتخلّيا عن هؤلاء المتظاهرين الشجعان لصالح المُتشدّدين في النظام.
إنَّ النظامَ الإيراني، في غيابِ المُساءلة أمام شعبه، قد يُتاجر بالقدرة النووية مقابل تخفيف العقوبات، ما يسمح له بتسريعِ حملةِ القمع ضد المجتمع المدني. ومن شأن مثل هذه الصفقة أن تضمنَ بقاء الجمهورية الإسلامية وظهورها مرة أخرى كعدوٍّ عنيد للولايات المتحدة ومصالحها الأمنية الوطنية.
للحدِّ من التهديد الذي تُشكّله إيران المُتَجَدِّدة وتعزيز المصالح الأميركية في الأمد البعيد، ينبغي على إدارة ترمب أن تضمنَ أنَّ أيَّ صفقةٍ جديدة تتضمّنُ أحكامًا تحمي وتُمكِّنُ نشطاء المجتمع المدني. إنَّ الدعم الأميركي الصريح للمجتمع المدني الإيراني ــالذي يُعارِضُ بشدّة سياسات النظام الإقليمية وموقفه المناهض للغرب ــ من الممكن أن يلعب دورًا حاسمًا في توجيه إيران نحو تقارُبٍ أكثر جدوى واستدامة مع الولايات المتحدة.
الوقتُ ليس في صالح النظام الإيراني، الذي يحتاج إلى تخفيف العقوبات أكثر من احتياج الولايات المتحدة إلى صفقةٍ كبرى.
في ظلِّ التدهور الاقتصادي الذي تعيشه إيران، سوف يتمتّع ترامب بنفوذٍ كبير للتفاوض على اتفاقٍ جديد يُعالج اعتراضاته المُعلَنة على خطة العمل الشاملة المشتركة التي أُبرِمَت في عهد باراك أوباما، بما في ذلك فرض قيود أكثر صرامة على برامج إيران النووية والصاروخية الباليستية ومنع إيران من إعادة إمداد وكلائها وعملائها في المنطقة.
بحلول الوقت الذي توصّلت فيه جماعة “حزب الله” المسلحة االلبنانية إلى وقف إطلاق النار مع إسرائيل في تشرين الثاني (نوفمبر)، كانت تتفاوض من موقف ضعيف، بعد أن فقدت بالفعل قيادتها العليا وجُزءًا كبيرًا من ترسانتها. وقد تفعل إيران الشيء نفسه مع برنامجها النووي الضعيف وصفقة كبرى مع الولايات المتحدة.
إنَّ مثل هذه الصفقة ستكون فوزًا لإدارة ترامب، ولكنها ستزيد أيضًا من عائدات النفط الإيرانية بعشرات المليارات من الدولارات، مما يوفّرُ شريانَ حياةٍ اقتصاديًا لنظامٍ إيراني لا شك أنه سيسعى إلى إعادة بناء نفسه كلاعبٍ إقليمي مُدمِّر. لا ينبغي لإدارة ترامب أن تكون لديها أوهامٌ حول الحمض النووي للنظام الإيراني وسياسته القديمة المتمثلة في “الصبر الاستراتيجي”.
أشارَ ترامب إلى أنه ليست لديه مصلحة في فِرضِ تغيير النظام في إيران. وكما كتب أخيرًا مُحللٌ مجهول الهوية مُقيم في طهران: “إنَّ الطريقَ نحو الإصلاح القائم على المجتمع في إيران يتركّز على تعزيز المجتمع المدني. والاستراتيجيات الأخرى -مثل السعي إلى التغيير من خلال التدخّل الأجنبي كما يدعو إليه البعض في الشتات – لن تسفر عن نتيجة أفضل”.
ولكن الولايات المتحدة لديها مصلحة حيوية في نتائج الصراع من أجل تشكيل مستقبل إيران، والتخلّي عن تغيير النظام لا يعني الوقوف على الهامش. ويتعيّن على واشنطن أن تلقي بكامل دعمها للشعب الإيراني، ويمكنها أن تفعل ذلك بالإصرار على أنَّ أيَّ اتفاقٍ مع إيران يجب أن يحتوي على شروطٍ تسعى إلى حماية نشطاء المجتمع المدني والمحتجّين الذين سيلعبون في نهاية المطاف دورًا حاسمًا في تحديد الاتجاه المستقبلي للبلاد.
إنَّ إيران تبرز في المنطقة باعتبارها واحدة من البلدان القليلة التي تتمتّع بمُجتمعٍ مدني قوي وعالي التعليم ونشط. فقد ناضل المحامون المعارضون والناشطون وزعماء العمال والمعلمون والصحافيون والفنانون وغيرهم الكثيرون لفترة طويلة وبجدٍّ من أجل الدفاع عن الحقوق الأساسية.
كما يوجد المجتمع المدني الإيراني النشط في الشتات، وينبغي لأيِّ اتفاق جديد مع إيران أن يكونَ مشروطًا بإنهاء ممارسات النظام الخارجة عن القانون المتمثّلة في استهداف المعارضين في الخارج. ومثل هذا الشرط من شأنه أن يُمكّنَ المعارضين الإيرانيين في مختلف أنحاء العالم الذين قد يتمكّنون، بدون خوف من الانتقام، من الدعوة إلى الإصلاح الديموقراطي وحقوق نشطاء المجتمع المدني داخل إيران.
وقد يخلق هذا أيضًا نموذجًا محتملًا للتعامل مع العنف العابر للحدود الوطنية كما تمارسه أنظمة استبدادية أخرى ــوخصوصًا روسيا والصين ــ ويثبت أنَّ الولايات المتحدة لم تتنازل عن دورها القيادي بين العالم الغربي.
وعلى نحوٍ أكثر شمولًا، يتعيّن على واشنطن أن تدعمَ أصوات الناشطين داخل إيران من خلال التشاور مع منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني الراسخة التي لديها تاريخ طويل في العمل بشأن إيران من أجل صياغة شروط محددة وقابلة للقياس في ما يتصل بحماية المجتمع المدني.
وعلى هذا النحو، تستطيع الولايات المتحدة أن تُترجِمَ مطالب المجتمع المدني الإيراني إلى شروطٍ قد تشمل، على سبيل المثال، تخفيف العقوبة عن 54 سجينًا سياسيًا محكوم عليهم بالإعدام حاليًا؛ والإفراج عن سجناء سياسيين بارزين مثل الحائزة على جائزة نوبل نرجس محمدي؛ والإفراج عن محامِي حقوق الإنسان المسجونين وإلغاء الملاحقات القضائية النشطة ضدهم؛ وإلغاء قانون العفة والحجاب الجديد القاسي، الذي يقصد به المتشددون أن يكون مسمارًا في نعش حركة “المرأة والحياة والحرية”؛ وأخيرًا، آلية لفرض عقوبات سريعة لمعاقبة الانتهاكات.
أرسل المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي إشارات مُتضاربة بشأن التفاوض مع الولايات المتحدة، حيث أشارَ أوّلًا في آب (أغسطس) 2024 إلى أنه لن يكون هناك “عائق” أمام المفاوضات مع “العدو”، لكنه اعتبر أخيرًا مثل هذه المفاوضات “غير حكيمة وغير ذكية وغير مشرِّفة”.
إذا اختار النظام الإيراني استئناف المفاوضات النووية، فمن المرجح أن يرفض خامنئي شروط المجتمع المدني باعتبارها جرعة سامة للجمهورية الإسلامية. لكن شرعية خامنئي وغيره من المتشدّدين تضرّرت بشكلٍ لا يمكن إصلاحه، وقبضتهم على البلاد تتراجع، وسط تقارير تفيد بأن خامنئي مريض.
إنَّ حملة “الضغط الأقصى” الثانية لترامب -والتي بدأت بالفعل حيث تدفع الإدارة الدول الأوروبية الثلاث المُتبقّية الموقّعة على خطة العمل الشاملة المشتركة لتفعيل العقوبات السريعة لاستعادة تلك التي تمَّ تعليقها بموجب الاتفاق – من المرجح أن تعمل على تضخيم السخط الشعبي، والضغط على النظام بشكل أكبر، وزيادة الحاجة الملحة إلى تخفيف العقوبات.
في ظل شعورهم بالحصار، قد يختار المتشدّدون في النظام مضاعفة القمع، الأمر الذي من شأنه أن يزيد من عزلة النظام وردود الفعل العنيفة من جانب المحتجّين الذين أصبحوا أكثر جرأة. وفي مرحلة ما، قد يبدأ الحرس الجديد في إيران ــالذي يواجه أزمة وجودية في الداخل، وترامب الذي لا يمكن التنبؤ بتصرفاته ويهدد بضربة عسكرية، وشبح مصير بشار الأسد في سورياــ في إدراك أن “الصبر الاستراتيجي” لم يعد استراتيجيًا. وعند هذه النقطة، قد يصبح النظام أكثر استعدادًا للتفاوض على شروط في صفقة كانت تبدو غير واردة من قبل.
حتى لو رفضت طهران مثل هذه الصفقة، فإنَّ دعوة واشنطن إلى شروطٍ تُركّزُ على تمكين المجتمع المدني من شأنها أن تقوِّضَ المتشددين في النظام وتُعزّز موقف المحتجين من خلال منحهم نقطة تجمّع وآلية لصياغة مطالبهم الخاصة.
كما إنَّ مثل هذه الشروط من شأنها أن تُمثّلَ انحرافًا حادًا عن السياسات الأميركية الفاشلة في المنطقة، بما في ذلك جهود واشنطن الكارثية لفرض الديموقراطية من خلال التدخّل العسكري. وعلى النقيض من العام 1953 ــ عندما حرّضت الولايات المتحدة على انقلابٍ ضد رئيس الوزراء الإيراني المنتخب محمد مصدق ــ فمن خلال الوقوف إلى جانب المحتجّين من أجل “المرأة والحياة والحرية” اليوم، تستطيع واشنطن أن تضع نفسها على الجانب الصحيح من التاريخ الإيراني. وكما كتب السيناتور روبيو في العام 2020 في أعقاب احتجاجات “تشرين الثاني/نوفمبر الدامي” في إيران في العام السابق: “يتطلّب الوقوف في وجه الاستبداد جهدًا هائلًا وتنظيًما وشجاعة. وعندما تدير الولايات المتحدة ظهرها لهؤلاء المحتجّين، فإننا نهدر فرصة استخدام القوة والنفوذ الأميركيين لصالح الصالح العام، وننقل بدلًا من ذلك إلى أولئك الذين يقفون في وجه الاستبداد أنهم يفعلون ذلك بمفردهم”.
في خضمِّ الاضطرابات في المنطقة وصمود المحتجّين تحت شعار “المرأة والحياة والحرية”، أصبحت الطاولة جاهزة أمام ترامب وروبيو للتفاوض على أعظم الصفقات الكبرى مع إيران؛ والوقوف إلى جانب الشعب الإيراني في سعيه إلى الحرية؛ وربما حتى إجبار إيران على التخلّي عن تحالفها مع التحالف المناهض للغرب والاستبدادي المكوَّن من روسيا والصين وكوريا الشمالية.
- مايكل إيزنر هو المستشار العام لمركز حقوق الإنسان في إيران. يمكن متابعته عبر منصة “إكس” على: @Mikeyeis
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورِن بوليسي” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.