إشتباكاتُ الحدود: إقفالُ مَمَرِّ طهران-بيروت
محمّد قوّاص*
تُشكِّلُ الاشتباكاتُ على الحدودِ السورية-اللبنانية أوَّلَ حالةِ توتّرٍ حدودية للحُكمِ الجديد في سوريا. كانت صَدَرَت عن الأردن والعراق أعراضُ مخاوف من هوية الحُكم الجديد وطبيعة أجنداته. غير أنَّ العلاقات تطوّرت لاحقًا إيجابيًا بين عمّان ودمشق، وبقيت مُتَحفّظّة بين بغداد ودمشق. ولئن جرى تنسيقٌ أمني لضبطِ الحدود السورية مع الجارَين، الشرقي والجنوبي، بقيت الأمور مع حدود الجار الغربي، لبنان، من دون تنسيقٍ جدّي عميق بين البلدين.
سعى لبنان إلى الالتحاق بتطوّرِ الموقف العربي من التحوّلات السورية. زار الزعيم اللبناني وليد جنبلاط، على رأسِ وفدٍ لبناني درزي، دمشق، والتقى برئيس الإدارة الانتقالية آنذاك، أحمد الشرع. لاحقًا قام رئيس حكومة تصريف الأعمال، نجيب ميقاتي، على رأس وفد حكومي بزيارة دمشق مُفتتحًا اتصالًا رسميًا بين الدولتين. ولئن صاحب الزيارتَين كلامٌ فضفاضٌ عن حُسنِ الجوار والتطلّع إلى علاقاتٍ مُتقدِّمة، فإنَّ ما بين سوريا ولبنان ملفات تاريخية شائكة، وما بين الحُكم الجديد في سوريا ولبنان مسائل موجعة مُرتبطة بانخراط “حزب الله” في الحرب السورية دفاعًا عن النظام السابق ضد معارضيه.
جرى كلامٌ كثيرٌ بشأن تأخّر الرئيس اللبناني، جوزيف عون، بالاتصال بالشرع وتقديم التهنئة له بعد تعيينه رئيسًا لسوريا في المرحلة الانتقالية. كان زعماءُ دولٍ عربية، في مقدمهم السعودية ومصر والإمارات وغيرها، قد بادروا إلى إجراء هذا الاتصال، بما كشف عن إرادةٍ عربية لرعاية التطوّر السوري واحتضان رئيسه. وكان الشرع نفسه قد عبّر، قبل أسابيع من الانتخابات الرئاسية اللبنانية، وبشكلٍ اعتُبِرَ من خارج قواعد الحياد، عن تأييده لانتخاب عون رئيسًا للبنان، قبل أن يُصَحّحَ القصد بالقول أنه داعمٌ لخيار اللبنانيين.
قد لا تُعبّرُ اشتباكاتُ الحدود عن أيِّ مناخٍ سياسي مُعيّن بين دمشق وبيروت. لكن اتصال التهنئة المُنتَظر الذي أجراه الرئيس اللبناني بالرئيس الشرع جاء في سياقٍ طارئٍ وعاجلٍ لمُناقشة سُبُل التنسيق بشأن ضبط اشتباكات الحدود بين البلدين. لكن تفاقُمَ وقعِ هذه الاشتباكات، وصولًا إلى إعطاء عون تعليمات للجيش اللبناني بالردّ على مصادر النيران الآتية من داخل الأراضي السورية، أدخَلَ البلدَين في فخٍّ مُعقّد لا يتناسب مع توقيت سوريا في سعيِها لإدارة تحوّلاتها، ولا مع توقيت لبنان الذي خرج للتو من أزمة الشغور الرئاسي وتشكيل حكومة جديدة مُكتملة الصلاحيات.
تَهرّبَ النظامُ السوري السابق على مدى العقود الغابرة من نقاشِ مسألةِ تَرسيمِ الحدود. بدا أنَّ القضية تنهلُ من وحولٍ إيديولوجية لطالما نظّرَ إليها نظامُ البعث في عدم الاعترافِ بكينونة لبنان ووجود حدود له معه. فحتى عندما احتاج لبنان إلى حجّة قانونية نهائية تحسم هوية مزارع شبعا، فإنَّ نظام الأسد تَقَصّدَ الالتفاف على طلبات بيروت بفذلكات واهية، مُتواطئًا مع “حزب الله”، وإيران من خلفه، لجعل هذا الملف إشكاليًا، يُبرّرُ بقاء السلاح لـ”تحرير” الأراضي المحتلّة.
غَيرَ أنَّ أولويات دمشق الجديدة باتت تختلفُ عن مواقيت بيروت. فالإدارة الجديدة تُراهنُ على الإمساك الكامل بالأمن والسيطرة على حدود البلاد وكافة المعابر الشرعية وإنهاء ظاهرة المعابر غير الشرعية. والأمُر ليس وليد بديهيات قيام الدولة، لا سيما في نسختها الجديدة، بل إنَّ في الأمر عاجلًا أمنيًا يردعُ استباحة الحدود بما يُهدّدُ أمنَ سوريا وأمن النظام السياسي الجديد. وفي الأمرِ عاجلٌ آخر، مطلوب عربيًا ودوليًا، لإنهاء حالة التَسَيُّبِ التي أغرقت سوريا والمنطقة العربية بأنشطة التهريب وخصوصًا أخطرها المُتعلّق بالكبتاغون. وربما هنا تنبّهَ لبنان إلى أنَّ الرعاية الدولية لقطع ممر طهران-بيروت تُملي تطهيرَ الحدود وبقايا ذاك الممر.
بدا الأمر يتجاوز مسألة اشتباكات حدودية تقليدية بين الدولة والمهرّبين على منوال ما تشهده الحدود بين الدول. فالسلاحُ الذي استُخدِمَ من الجهة اللبنانية دفاعًا عن مكاسب وتقاليد عتيقة في أنشطة التهريب، ليست من النوع الذي يستخدمه المهرّبون، بل ترقى إلى مستوى ما تمتلكه الجيوش. ولئن أسقطت تلك الأسلحة مُسيّرات سورية، فإنَّ شبهات تكثّفت بشأن تدخُّلِ سلاح “حزب الله”، سواء من خلال مقاتليه أم من خلال فتح مخازنه لمُقاتلين آخرين. باختصار دمشق تقول: لن نسمح بوجود “حزب الله” على حدودنا. وفيما لم تكشف التطوّرات عن حقائقها، فإنَّ التحريض الطائفي المُتبادَل منحَ المعارك أبعادًا تُعيدُ نَبشَ أحقاد الحرب السورية ودور الحزب فيها.
إنتشرَ الجيشُ اللبناني في مناطق التماس. وقد تنجح ترتيباتٌ تقنية في تهدئة الجبهات. غير أنَّ أمرَ العلاقة السويّة التي وَعدَ الشرع أن عمادها وقف أيّ تدخُّل “سلبي” في شؤون لبنان، ستتطلّب نقاشًا عميقًا بين البلدين، لكنها تتطلّبُ خصوصًا نقاشًا لبنانيًا داخليًا بشأن تدخُّلٍ دموي اقتُرِفَ بحقِّ سوريا والسوريين وجب تحريمه وجعله من ماضٍ وجب تصحيح خطاياه.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).