الميثاقية موسيقى
رشيد درباس*
للبنان رصيدٌ في عالمهِ العربي لم تَنجَح
سنواتُ الانحدارِ الطويل في تبديده.
غسان شربل- صحيفة “الشرق الاوسط”
الدولةُ اللبنانية التي نالت استقلالها في العام 1943، كانت تلوذُ بحاضنةٍ دستورية قوامها النَصّ والمؤسّسات؛ وقد تولّى أمرها في ذلك الحين رجالٌ خاصموا الانتداب وحالفوه، لكنهم كانوا من أهلِ الخبرة السياسية، ولديهم قواعد شعبية متنوِّعة، إذ كانت الكتلة الوطنية تضمُّ، في مَن تضمّ، الشهيد كمال جنبلاط والكتلة الدستورية الرئيس كميل شمعون. في ذلك الزمان أخذت الخلافات مداها، لكنها بقيت في إطارٍ آمنٍ لا يُشكِّلُ اضطرابًا شارعيًّا ولا نزاعًا مُسَلَّحًا، ولا انتهاكًا لهَيبةِ الدولة والنظام العام.
عند قيام دولة إسرائيل، بات لبنان في مَهَبٍّ مُستدام، بدأ بكثافة لجوءُ الإخوة الفلسطينيين وانتشارهم في المخيَّمات على طول الجغرافيا، واستمرَّ بتداخل الحيوية الفلسطينية مع المجتمع اللبناني الذي دار النشاط السياسي فيه عقودًا طويلة حول محور القضية الفلسطينية، فتسبّبَ بانقسامٍ حاد في الداخل اللبناني، أخذَ في ذروته شكلَ النزاع المسلّح. وأصبحت المجالات اللبنانية مُستباحة للعدوان الإسرائيلي جوًّا وبرًّا وبحرًا بعد هزيمة 1967، لا سيما في الجنوب الذي دفع القسط الأكبر من الأثمان، بسبب نصرته لحركة المقاومة الفلسطينية والوجود الفعّال لقواعدها داخل المحافظة، بما أخرج الدولة منها بصُوَرٍ كلّية أو جُزئية.
لا أستعرضُ صفحات الماضي، ولا أُقَلِّبُها، ولكنني أُعيدُ الانتهاكات الإجرامية الإسرائيلية الحالية إلى مرجعها الواقعي والتاريخي، لأصِل إلى النتيجة التي آلت إليها أوضاعنا، وهي أنَّ لبنان قد أصبح “شعبًا وجيشًا ومقاومة”، مُقيمًا على مفارق الصراعات الدولية والإقليمية، إقامةً أوصلته في مراحل مُعيَّنة إلى اليأس من أيِّ خلاص.
ولعلّةِ تداخُل الداء بالدواء، اقتضت مصالح العامل الخارجي الذي سبّبَ لنا الويلات المُتوالية، أن يتدخّلَ لتغيير ميزان القوى في لبنان وسوريا معًا، الأمر الذي جعل معظم الرأي العام يعتقدُ أنَّ سوريا انتقلت، بصورةٍ عجائبية، من دولة المَسْبَعَةِ ذات الآساد المتناسلة، إلى مرتعٍ للديموقراطية والأمان وحرية الرأي والمشاريع الإنمائية، وأنَّ لبنان خرجَ من قيود الإرغام المُقنَّع بالتأويل الدستوري المتعسِّف، إلى حياةٍ ديموقراطية بريئة من الضغط وفائض القوة. لكن المثل السائر بأنَّ ما نتمنّاه أجملُ بكثير من أن يكون حقيقة، يجعلنا نثوب إلى الواقعية القاسية التي ترينا أنه رُغمَ وجودِ دستورٍ حديث ومجلس نواب مُنتَخَب بصورةٍ تنافسية خرج فجأة من إعاقته، وانتخب رئيسًا للجمهورية، واختار رئيسًا مكلفًا للحكومة، فإنَّ العوامل الخارجية التي أعادت مجلس النواب إلى فاعليته، قد انسحبت (ظاهريًّا) من المشهد الداخلي الذي استعاد تجاذباته الممضة والعقيمة وشعارات الميثاقية والحصرية والغلبة والانتصار، وعاد مسرحًا مُملًّا للفراغ الكلامي الفاشل. أما الجنوب فما زال يملأ فراغه وابل القصف والقنص، وإضافة مزيد من الجثث إلى قائمة آلاف الشهداء، ومراكمة الركام على الركام.
حيال هذا، نجدُ أنَّ الأدوات الداخلية التي تناغمت مؤقتًا مع المناخ الإقليمي والدولي، تستعيد الآن تمترسها الطائفي والمذهبي في حركة، إن نجحت، فستُفرِغُ المرحلة الجديدة من مضمونها الواعد. وفيما يراقب الرأي العام بدقّةٍ البيانات والتصريحات والعقبات، يُعَوِّلُ على العلاقة الممتازة القائمة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة المُكلَّف، وعلى الزخم الوطني والشعبي الذي يساند الرئيسين. إنَّ أحدًا لا يطلب من رئيس الحكومة المُكلَّف أن يقفز فوق مطالب التكتّلات السياسية المتمذهبة، لكن أحدًا لا يقبل الرضوخ لشهيتها المفتوحة، وعليه فإنَّ نسبةً من الواقعية ممزوجة بنسبةٍ من المُخاطرة، تشكّلُ معادلةً صالحة للخروج من الرمال المتحرّكة، ولتشكيل حكومة تضمُّ شخصيات ذات صيت محلي ودولي وعربي، وأخرى ذات خبرة ونزاهة، لتقديم بيان وزاري واقعي، من روح خطاب القسم، ومن جسد الإرادة السياسية، يقوم على قضايا جوهرية ملحّة وقابلة للتنفيذ السريع، ربما يكون ذكرُ بعض عناوينها إشارةً إلى نجاح الانطلاقة المبشِّرة المأمولة داخليًّا، والمدعومة من الأشقاء والأصدقاء. فعلى سبيل المثال، إنَّ تأهيلَ مطار رينيه معوض للملاحة الدولية يُقدّمُ لعكار وأهلها، حقًّا ملموسًا، واحترامًا لهذه المحافظة المُهمَلة، يوازي تسمية وزراء ينتمون إليها. وإعادة تشغيل خط النفط وإحياء المنطقة الاقتصادية ومعرض رشيد كرامي الدولي، أمور تؤشر، في حال حصولها، إلى أنَّ الشمال يتربّعُ في قلب الدولة.
أما الإصلاح الإداري والقضائي والمالي واللامركزية الإدارية الموسَّعة، وإعادة الاعتبار للعمل المصرفي، فأمور، إن انطلقت جعلت القوى السياسية كلها تلهث وراء الحكومة لتقدم لها التهنئة والتبريك بدلًا من العرقلة والتشكيك.
ويحدثونك عن الميثاقية ومخاطر الإخلال بها، قل إنَّ الميثاقية موسيقى منسجمة، لا يعكّرها نشاز الجشع وهدير الحناجر، واستنفار الشوارع، وضيق الآفاق.
عن الأستاذ غسان شربل، عن المرحوم محسن ابراهيم أنه قال: كان جمال عبد الناصر يَعُدُّ بيروت مختبرًا للزعامة العربية، ويعرف أنَّ المظاهرات فيها لا تأتي تلبية لأوامر مدير المخابرات خلافًا لما هو سائد في بلاد أخرى.
من حقِّ بيروت إذن أن تستعيدَ نفسها، كما تحاول الآن، فلا تقفوا بوجهها.
- رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).