إنقلابٌ على الاستراتيجياتِ التَقليدِيّة لمُعالَجَةِ الأمراضِ السرطانية

الدكتورفيليب سالم*

‏في مثلِ هذا اليوم من كلِّ سنة، يقفُ البشرُ في جميعِ أنحاءِ العالمِ بخوفٍ وخشوعٍ أمامَ “إمبراطور الأمراض”، ويسألون: أينَ نحنُ من القضاءِ على هذا المرض؟ وإلى متى سيبقى هذا المرض يُهدّد حياتنا ويَزرَعُ الخوفَ في قلوبنا؟ وأيّ تقدُّمٍ أحرزه العلم في السنوات الأخيرة؟

‏إنَّ المعرفةَ العلمية التي نمتلكها اليوم تُمَكِّننا من شفاء 65% من جميع المرضى المُصابين بالأمراض السرطانية. كما تُمَكِّننا من  وقاية 70% من الإصابات بهذه الأمراض. إلّا أنَّ المرضى المُصابين بحالاتٍ مُتقدِّمة من المرض، تهبُطُ عندهم نسبةُ الشفاءِ التام هبوطًا ملحوظًا. وتتوقّفُ نسبةُ الهبوطِ عندهم على  نوعِ المرضِ السرطاني وعلى جودةِ العلاج. وها قد جئنا اليوم، وبمناسبة اليوم العالمي للسرطان، نتكلّمُ عن أهمّية جودة العلاج، وعن المفاهيم الجديدة التي تُشَكِّلُ انقلابًا على الفكر التقليدي لمُعالجة الأمراض السرطانية، وتقودُ إلى ارتفاعٍ كبيرٍ في نسبةِ الشفاء.

المفهومُ الأوّل: إنَّ الخلايا السرطانية في المريضِ الواحد هي على عكسِ ما كُنا نعتقد. فهي ليست من نوعٍ واحد، بل إنها تختلفُ في الشكلِ والوظيفة، كما تختلفُ في التجاوُبِ للعلاج. بعضُها قد يتجاوَبُ مع العلاج الكيميائي، وبعضها قد يتجاوب مع العلاج المناعي، والبعض الآخر قد يتجاوب مع العلاج المُستَهدِف.  لذا، فمن المنطقِ أن نُعالجَ المريض بمزيجٍ من هذه العلاجات الثلاثة. وها قد أثبتت الأبحاث العلمية الحديثة أنَّ هذا المزيج يقتلُ عددًا أكبر بكثير من الخلايا السرطانية نسبةً إلى العلاج التقليدي الذي يَستَخدمُ نوعًا واحدًا من هذه العلاجات؛ وبالتالي فهو يُحدِثُ ارتفاعًا كبيرًا في نسبةِ الشفاء. هذه العلاجات الثلاثة تقتلُ الخلية السرطانية بطُرُقٍ مختلفة.  فبينما يقتلُ العلاج الكيميائي الخلية السرطانية كما يقتل الخلية الصحيحة، فالعلاجُ المُستَهدِف يستهدفُ الخلية السرطانية وحدها دون غيرها. أمّا العلاجُ المناعي فهو يعملُ بواسطةِ تحفيزِ جهازِ المناعة عند المريض بحيث يُصبحُ هذا الجهاز قادرًا على التعرُّف على  الخليّة المريضة وتدميرها.

المفهوم الثاني: هو أنه ليس هناك مريضان بالسرطان مُصابَين بالمرض نفسه. فالمرضُ في المريضِ الواحد يختلفُ جذريًا عن المرض في المريض الآخر؛ حتى ولو كان المرضُ ناشئًا من العضو نفسه في الجسم، ويحمل التشخيص الميكروسكوبي التشريحي (anatomical diagnosis ) نفسه. لقد تعلّمنا أنَّ تحديدَ المرضِ بهويته البيولوجية وعلى مستوى الخلية هو أهم من تحديدِ المرضِ بمظهره تحت المجهر. كما تعلّمنا أنَّ الهوية البيولوجية للمرض هي فريدةٌ من نوعها وأنه ليس هناك مريضان يحملان الهوية نفسها. ويقودنا هذا إلى رؤيةٍ جديدة تؤمن بأنَّ مُعالجةَ المئات من المرضى بالعلاجِ نفسه هو أمرٌ غير منطقي. وهنا يَكمُنُ لبُّ الانقلابِ على الاستراتيجية التقليدية للمعالجة.

في الاستراتيجية الجديدة، يُصَمَّمُ العلاج على قياسِ المريض الفرد وعلى قياسِ نوعِ المَرَض عنده. وفي الاستراتيجية الجديدة أيضًا يُعالَجُ كلُّ مريضٍ بالمزيج من العلاجات الثلاثة ولكنه رُغم ذلك، يكونُ العلاجُ مُختلفًا بين مريضٍ وآخر؛ إذ أنَّ كلَّ نوعٍ من العلاجات الثلاثة يمتلكُ عددًا كبيرًا من الأدوية المختلفة. إنَّ لبَّ الانقلاب هو أنه ليس هناك مريضان يُعالَجان بالعلاج نفسه. هذا المنحى من العلاج الذي يُركّزُ على الهوية البيولوجية سيُصبحُ المستقبل، أما العلاجُ الذي يُركّزُ على الهوية الميكروسكوبية (anatomical diagnosis) فقط، سيُصبحُ من الماضي. بالإضافة إلى ذلك يُمكنُ استعمال هذه الاستراتيجية في معالجة جميع الأمراض السرطانية، ما عدا سرطان الدم. وها قد أثبتت الأبحاث الحديثة أنَّ في كلِّ مرضٍ استُعمِلت فيه هذه الاستراتيجية كانت نتيجة التجاوب لها أفضل بكثير من نتيجة العلاجات التقليدية.

المفهوم الثالث: هو أنَّ الطبيبَ يجب أن يُعالِجَ مريضه بما يعتبره أفضل علاجٍ له، وليس بما يعتبره العلاج القابل للتعويض من شركات الضمان الصحي والذي يُعتَبَر العلاج التقليدي المفضّل وما يُعرَف باللغة الإنكليزية ب”standard therapy”. إنَّ العلاجَ الأخير قد يكون علاجًا فعّالًا، لكنه قد لا يكون بالضرورة أفضل علاج. السرّ هو أنه في معالجة الأمراض السرطانية، قد يكون الفرق بين أفضل علاج والعلاج التقليدي هو الفرق بين الحياة والموت. وهناك مشكلة كبرى، إذ أنَّ الأطباءَ يتردّدون في استعمال أفضل علاج لأنَّ شركات التأمين قد لا توافق عليه، ولذا لا تُغطّي النفقات المالية له. يجب ان نتذكّر أنَّ الهدفَ الأساس لشركات التأمين هو الربح المالي وليس شفاء المريض. لذا فهي تُفتِّشُ دائمًا عن ذرائع لتجنُّب دفع النفقات الباهظة المُتَوَجِّبة أحيانًا في العلاج الأفضل. عندما كنتُ عضوًا في لجنةٍ استشارية صحّية للرئيس جورج بوش الأب، حاولتُ جاهدًا تحريرَ الطبيب من طغيان شركات التأمين، إلّا أنني اكتشفتُ أن هذه الشركات هي أقوى من الدولة. ويتردّدُ الأطبّاء في استعمالِ أفضلِ علاجٍ لأنه قد يكون سببًا لإقامة دعاوى قضائية ضدهم. ففي الولايات المتحدة الأميركية قد يتعرّضُ الطبيب إلى دعوى قضائية ضده من قبل المريض أو أهله عندما يستعملُ علاجًا خارج منظومة ما يُسمى ب “standard therapy”.

‏هذا هو الانقلاب. وهذه هي الطريق لإعطاء المريض المصاب بالسرطان وهو في الحالات المُتقدّمة منه، أفضل فرصة للشفاء التام: استعمال المزيج الثلاثي، وتصميم العلاج على شخص المريض ونوع السرطان المصاب به، واختيار ما يعتبره الطبيب افضل علاج مُتوفّر.

‏إنَّ أهمَّ حقٍّ للإنسان هو الحقُّ في أن يحيا. والحق في الحياة يمرُّ في الحقِّ في الصحة، إذ أنَّ الصحة هي البوابة للحياة. إنَّ كلَّ الحقوق التي جاءت في شرعة الأمم المتحدة لحقوق الانسان تذبلُ أمامَ حقِّ الإنسان في الحياة. هذا الحقُّ يجب أن يكونَ الأولويةَ في سُلَّمِ الأولويات لأيِّ دولةٍ في العالم. آلافٌ من البشر يموتون كلّ يوم لأنهم لا يملكون هذا الحق. والذريعة دائمًا هو عدم توفُّر المال لدعم هذا الحق.  يقولون أنَّ لا مالَ عندهم كافيًا لدَعمِ الإنسان في صراعه ضد المرض، ولكنهم بالطبع يملكون فائض المال لصنع وشراء أكثر الأسلحة دمارًا لقتل الإنسان وشنّ الحروب. فمتى يا ترى يأتي إلى هذا العالم قادةٌ يؤمنون بأنَّ القوة هي في إحياء الإنسان وإعلاء شأنه، لا في إذلاله وقتله؟ لقد جاء في القرآن “مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا”.

  • الدكتور فيليب سالم هو طبيب وباحث وأستاذ ورجل دولة عالمي في طب السرطان، يعمل كمدير فخري لأبحاث السرطان في مستشفى سان لوك الأسقفية في هيوستن، وهو رئيس “مركز سالم للأورام السرطانية”.
  • كُتِبَ هذا المقال لمناسبة اليوم العالمي للسرطان الذي يُحتفَلُ به سنويًا في الرابع من شباط (فبراير).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى