هذه خطّةُ ترامب… فما هي الخطّة المُقابِلة؟
محمّد قوّاص*
أطلّ الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، باكرًا على المسألة الفلسطينية ببُعدِها المصيري العام. ضَخّمَ جميلَ إدارته، وحَدَّها، في إبرامِ اتفاقٍ لوقف إطلاق النار في غزّة. أرادَ أن يُوحيَ لأهلِ القطاع أنه فعل لهم ما لم تستطعه إدارة سلفه، جو بايدن، فأوقفَ المقتلة وأتاحَ تحريرَ الأسرى. وأرادَ أن يُقدّمَ للإسرائيلين نهايةً لحرب نتنياهو وتحريرَ أسرى “طوفان الأقصى”. وعلى أساس “إنجازٍ”، ما كان ليتمّ لولا انتخابه، على حدّ زعمه، فإنه يتحرّى “إنجازًا” دغدغَ دائمًا طموحاتَ أيِّ رئيسٍ للولايات المتحدة، في الاهتداء إلى التسوية الكبرى.
في بداية ولايته الأولى، وَعَدَ ترامب بحلٍّ نهائي للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. استغرَبَ عدمَ التوصُّلِ إلى الحلّ، مُعتَبرًا، بلغةِ رجل الأعمال، أنَّ لكلِّ مشكلةٍ حلّ، ولا شيءَ يمنعُ إيصال هذه المسألة إلى الحلّ المنشود. أطلق ترامب صهره ومستشاره، جاريد كوشنر، على رأس فريق لصناعة “صفقة القرن”. أطاحت جائحة كوفيد ببعض تلك الجهود، وأطاح هذيان تلك الصفقة ببعضٍ آخر، فيما قضى فشل ترامب في تجديد ولايته على الصفقة وفريقها ورئيسها.
بعد 6 أيام فقط من دخوله البيت الأبيض، باشر ترامب فتاويه الفلسطينية فاقترح بداية “ترانسفير” فلسطيني نحو مصر والأردن. لا يتعامل الرجل بلغة التاريخ والحقوق والشعوب والسرديات والذاكرة. يتناول المسألة الفلسطينية كملفٍّ محشوٍّ بالأرقام والخرائط ودراسات الجدوى. ويطرح حلولًا مُستندة على خوارزمياتٍ تبسيطية لا تأخذُ بعين الاعتبار حروبًا، ومظلومية، وجرائم إبادة، شهدت حرب غزّة خلال 15 شهرًا أبشع واجهاتها. ينظرُ إلى “التصاميم” المقترحة، ويَعِدُ بغزّة تُشبهُ موناكو على البحر المتوسط أو سنغافورة في قلب آسيا.
لا يبتعد “ترامب ستايل” عمّا يقوله الطبيب لأهل المريض: “تكلّلت العملية بالنجاح لكن المريض مات”. تحتاجُ “جراحات” ترامب إلى تخلُّصِ غزّة من هويتها بإخلاء أصحاب الأرض وإلصاق هويات جديدة بهم. ولا بأس من إبقاء بعض الأهالي بيادق على رقعة سنغافورة الغزيّة الموعودة. لكن رجل أميركا القوي يستفيضُ في توسيع جراحاته لتشمل مصر والأردن، بحيثُ يرسمُ بمبضعه، ومن خلال تصريح عرضي على باب الطائرة الرئاسية، مصائر الشعوب النازحة والبلدان الحاضنة.
تعرف المنطقة خطورة هذا العبث في صناعة التاريخ. تُدركُ استسهالَ أصحاب القوة في العالم رسم الجغرافيا والتاريخ، وفبركة سرديات وحمايتها بقرارات أممية، ما برحت المنطقة تعيش تحت وطأتها منذ ولادة دولة إسرائيل. كان ترامب اكتشفَ بقلقٍ أثناء حملته الانتخابية ضيق مساحة هذه الدولة واعدًا بالعمل على توسيعها. وبدا أنَّ فكرةَ زحفِ الحدود داخل مساحة فلسطين التاريخية، تتطلّبُ تفريغًا لها من فلسطينييها، وللمُفارَقة، من “غزّة أولا” كسابقة لمصيرٍ مُماثل في الضفة الغربية. ومن غير الواضح ما إذا كانت الـ”لا” الجازمة التي صدرت عن الفلسطينيين، وعن مصر والأردن خصوصًا، كافيةً لرَدعِ رياحِ واشنطن وإجهاضِ خططِ ترامب وطموحاته.
غيرَ أنَّ الرجلَ يلعبُ بين أحاجي “اليوم التالي” للحرب داخل ميدانٍ فارغ. يتقدّمُ ترامب بخطّطٍ، حاملًا لها الملفّات والرسومات، مُوَزِّعًا أهل البلد، مُشتِّتًا مصائرهم، غير جازمٍ في الحسم بين المؤقت والدائم في منفاهم. يستعين ترامب بذلك الفراغ الذي فشلَ الفلسطينيون، المُحترفون للانقسام الغارقون هذه الأيام بجدل النصر من عدمه، في اجتراحِ توافقٍ لملئه. ينسحب تحمّل مسؤولية غياب خطة “اليوم التالي” على بلدان المنطقة، لا سيما تلك المُنخرطة مباشرة بمستقبل غزّة والمعنيّة بمستقبل الحلّ الفلسطيني الشامل. ولئن تُردِّدُ العواصم التمسّك بحلٍّ يضمنُ إقامة دولة فلسطينية، وحتى اشتراطها للاستجابة إلى مساعي التطبيع مع إسرائيل، فإنَّ كلَّ ذلك لا يجيب عن أسئلة “غزّة أوّلًا”.
لا أجوبة شافية بشأن مَن يَحكُمُ غزّة ويُديرُ أمورها. لا سيناريو محلّيًا-إقليميًا بشأن دور “حماس” ومكانة السلطة الفلسطينية. لا وضوحَ في كيفية إعادة إعمار غزّة عمليًا وإدارة يوميات الناس خلال عقود إعادة الأعمار، قبل أن نتحدث عن التمويل وبرامجه وشروطه. ينهلُ ترامب من ذلك الفراغ الذي لم تعمل إدارة بايدن على وضعِ خططٍ جدّية لإنهائه، ولم يَجرُؤ الأوروبيون على التدخّلِ في شأن اعتُبِرَ دائمًا أميركيًا. يُطلقُ ترامب رشقاتٍ تجريبية عشوائية عبثية، لكنها تضعُ نقاطًا على حروفِ معضلةٍ لا أحدَ تبرّعَ بأجوبة شافية لها.
تردُّ المنطقة ببأسٍ وعزيمةٍ وغضبٍ على مشروعٍ آخر من مشاريع سابقة تمّ تمريرها إلى أن باتت فلسطين تحتل بالكاد نسبة 22 في المئة من مساحتها التاريخية. غير أنَّ الردَّ سيبقى وَهِنًا أَجوَفَ، لأهل غزّة خصوصًا، إذا لم تُقابل المنطقة، كل المنطقة، خطابَ البديل عن الفراغ الآتي من واشنطن، بخطّةٍ سياسية إعمارية تلقى احتضانًا دوليًا، حتى من إدارة ترامب نفسها ربما، تكون مدخلًا مُحتَمَلًا لهندسةِ حلٍّ تنفيذي مباشر، يُخلّصُ غزّة ومصر والأردن من شرورٍ قد لا تقوى على رَدّها.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).