السعودية تَكبَحُ جماحَ طُموحاتِها في رؤية 2030… بهدوء
في حين قطعت المملكة العربية السعودية خطوات واسعة في تجديد اقتصادها ومجتمعها منذ الإعلان عن رؤية 2023 قبل ما يقرب من تسع سنوات، فإنَّ مخاطر التجاوز والفشل، من الضائقة المالية إلى الاستياء العام، تلوح في الأفق.

جوناثان فينتون هارفي*
في كانون الأول (ديسمبر) 2024، حققت المملكة العربية السعودية إنجازًا آخر في سعيها إلى تحويلِ صورتها العالمية وإعادة تشكيل اقتصادها: الفوز باستضافة نهائيات كأس العالم لكرة القدم في العام 2034.
بالنسبة إلى حاكم البلاد الفعلي، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، فإنَّ استضافةَ هذا الحدث العالمي ستفعل أكثر من مجرّدِ إرضاء حماسه المعروف للرياضة. إنها تتماشى بسلاسة مع برنامجه الطموح رؤية 2030، الذي أُطلِقَ في العام 2016 لتحويل السعودية إلى مركزٍ للمشاريع الضخمة وجُزءٍ من خطة المملكة الأوسع نطاقًا لتنويع اقتصادها المُعتمِد تقليديًا على النفط.
تُقدم نهائيات كأس العالم منصّةً عالمية أخرى لعرض الصورة “الجديدة ” للسعودية، حيث تتزايد وتتعزّز الرياضة والثقافة والترفيه، الأمر الذي يُعيد تشكيل صورة المملكة المحافظة التقليدية.
مع ذلك، وعلى الرُغم من بعض النجاحات، فإنَّ الطموحات الأولية لرؤية 2030 بدأت تُظهِرُ علامات الإجهاد. والآن يحاول بن سلمان، الموازنة بين مخططات المشروع الضخمة والتحدّيات المالية المتزايدة، بما في ذلك عدم اليقين بشأن القدرة على تحمُّل التكاليف. ولكن هذا قد يؤدّي في نهاية المطاف إلى فَرضِ ضغوطٍ على المواطنين السعوديين أنفسهم، مع ما يترتّب على ذلك من عواقب على الاستقرار السياسي.
إذا كانت رؤية 2030 أسفرت عن نتائج مُتباينة حتى الآن، فإنَّ التحرُّكات الأخيرة التي اتخذتها الحكومة تَعكسُ علامةً متزايدة على البراغماتية. ومن الأمثلة البارزة على ذلك مشروع “نيوم”، المدينة العملاقة الطموحة ذات التصميم المستقبلي والخضراء والتي تبلغ تكلفتها 500 مليار دولار، والتي تعمل كمشروعٍ رائد لرؤية 2030 ولكنها تمثل أيضًا تحدّياتها.
في العام الفائت، بعد تجاوز نقطة المنتصف قليلًا من رؤية 2030، بدا أنَّ الحكومة قد أدركت أخيرًا الحاجة إلى تخفيفِ التوقّعات بشأن “نيوم”. في تشرين الثاني (نوفمبر)، أعلن وزير المالية محمد عبدالله الجدعان أنَّ الأمرَ سيستغرق 50 عامًا أو أكثر لبناء المدينة العملاقة بالكامل، ما أدّى إلى إحباطِ الآمال السابقة في اكتمالها بحلول العام 2030.
جاء هذا الاختبار الواقعي في أعقابِ الأخبارِ التي تُفيدُ بأنَّ القدرة السكانية المُتوَقَّعة ل”نيوم” سيتم خفضها من 1.5 مليون إلى 300 ألف نسمة فقط. وقد تمَّ تقليص طول مشروع “ذا لاين” – المدينة الخطّية المخطط لها بطول 105 أميال من ناطحات السحاب التي تعمل بالطاقة المتجددة في الصحراء والتي تُعدُّ واحدة من الركائز الأكثر جرأةً في مشروع “نيوم”- إلى 1.5 ميل أكثر تواضُعًا بحلول العام 2030. وكان هذا التخفيض في “ذا لاين” بمثابةِ اعترافٍ ضمني بعدم جدوى المشروع الأوسع نطاقًا، ما يؤكّدُ الحاجة إلى تخصيصٍ أفضلٍ للأموال المحدودة بشكلٍ متزايد.
حتى العَرض الناجح لاستضافة كأس العالم 2034، على الرُغم من أنه فوزٌ كبيرٌ لصورة السعودية العالمية، إلّا أنه يجلب ضغوطًا إضافية. تُخطّطُ المملكة لاستضافةِ البطولة في 15 ملعبًا في جميع أنحاء البلاد. ومع ذلك، لم يتم بناء 11 منها، بما في ذلك ملعب مخطط له في “نيوم”، في حين ستخضع الملاعب الأربعة القائمة لتجديدات شاملة. وفي المجمل، يُعَدُّ هذا مثالًا آخر على أجندة بن سلمان الجريئة، لكنه يثير المزيد من الأسئلة حول القدرة على تحمُّل التكاليف.
في غضون ذلك، يعني التشكُّك المتزايد من جانب المستثمرين الدوليين المباشرين حول جدوى المشاريع الضخمة لرؤية 2030 أنَّ الكثيرَ من العبء المالي سوف يقع على عاتق المملكة العربية السعودية نفسها، بما في ذلك مواطنيها. ولسدِّ فجوات التمويل ودعم التحوُّل الاقتصادي الطموح، تبنّت الرياض سياسات مالية غير تقليدية ولجأت إلى الأسواق المالية العالمية. في أوائل كانون الثاني (يناير)، أصدرت أكبر عملية بيع سندات على الإطلاق بقيمة 12 مليار دولار، مما يشير إلى الاعتماد على الاقتراض لدعم مشاريع بن سلمان مع إدارة الضغوط المالية وموازنة دفاترها.
من بين أمورٍ أخرى، تكشفُ هذه التحرّكات عن الدرجة التي ستؤثر فيها العوامل الخارجية، بما في ذلك التحوّلات الجيوسياسية، بشكلٍ ملحوظ على مسار رؤية 2030. على سبيل المثال، عزّزت حرب روسيا في أوكرانيا والارتفاع اللاحق في أسعار النفط إلى ذروة 139 دولارًا للبرميل في آذار (مارس) 2022 إيرادات المملكة لفترةٍ وجيزة، ما ساعد على التعافي من أزمة كوفيد-19 عندما انخفضت أسعار النفط إلى منطقةٍ سلبية.
ولكن تعطيل حركة الشحن في البحر الأحمر من قبل الحوثيين في اليمن منذ كانون الأول (ديسمبر) 2023، إلى جانب المخاوف بشأنِ التصعيد الإقليمي المُحتمل للصراع بين إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائها ضد إيران، دفعَ بن سلمان إلى تبنّي سياسةٍ خارجية حذرة “لا مشاكلَ مع الجيران”، سعيًا إلى تجنُّب الأخطاء الجيوسياسية التي قد تُهدّدُ المشهد الأمني في المملكة وتُخيفُ المستثمرين.
إنَّ عودةَ الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى البيت الأبيض لها آثارٌ مختلطة على رؤية 2030. من ناحية، توسّعت العلاقات التجارية بين عائلة ترامب والعائلة المالكة السعودية حتى خلال السنوات الأربع التي قضاها خارج منصبه، ومن المحتمل أن تستمرَّ في ذلك على مدى السنوات الأربع المقبلة. استثمر صندوق الاستثمارات العامة -الجهاز الرئيس الذي يُموّل رؤية 2030- مليارَي دولار في شركةِ أسهمٍ خاصة يديرها صهر ترامب، جاريد كوشنر، بينما تُخطط شركة ترامب، التي يديرها ولداه إريك ودونالد جونيور، لبناء فنادق “برج ترامب” في كلٍّ من جدة والرياض.
لكن إذا صَعَّدَ ترامب الحرب التجارية الأميركية مع الصين، فقد تكون لذلك آثارٌ سلبية على الرياض، وخصوصًا إذا أعاقت الضغوط من واشنطن وصول السعودية إلى أشباه الموصلات الصينية والتعاون في مجال الطاقة الخضراء اللازم لتشغيل مشاريعها المستقبلية، بما فيها مدينة “نيوم”. علاوةً على ذلك، لا يزال بن سلمان يسعى إلى تطويرِ برنامجٍ نووي محلّي لتنويع مصادر الطاقة في المملكة وربما حتى بناء ترسانة نووية. ولكن إذا جعل ترامب -مثل الرئيس السابق جو بايدن- المساعدة النووية المدنية مشروطة بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، والتي خرجت عن مسارها بعد هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) وحرب إسرائيل اللاحقة على غزة، فقد يفرض ذلك مخاطر سياسية محلية على المملكة.
على الرُغم من كلِّ هذه التحدّيات الأوسع نطاقًا، ستظل أسعار النفط عاملًا حاسمًا في تشكيلِ التحوُّل الاقتصادي ومستقبل المملكة العربية السعودية. تُشيرُ تقديرات صندوق النقد الدولي إلى أنَّ المملكة تحتاج إلى أسعارِ نفطٍ تتراوح بين 90 و100 دولار للبرميل لتمويل مشاريع رؤية 2030 من دون تكبُّدِ عجزٍ في الموازنة، وهو ما يزيد بشكلٍ كبير عن النطاق الذي يتراوح بين 65 و85 دولارًا للبرميل والذي استمرَّ منذ أوائل العام 2024.
ورُغم كل الحديث عن الاستدامة المناخية وأهداف الانبعاثات الصفرية الصافية، فإنَّ حتى المسؤولين السعوديين ــبمن فيهم رئيس شركة النفط الحكومية أرامكوــ يعترفون بأنَّ الرياض ستظل تعتمد على الوقود الأحفوري في المستقبل المنظور. وفي حين نما القطاع غير النفطي، مما يشير إلى التقدُّم في التنويع، لا تزال الهيدروكربونات تُمثّل نحو نصف الناتج المحلي الإجمالي للمملكة و75% من عائدات الحكومة.
في حين أنَّ هذه الديناميكيات تخلق المزيد من عدم اليقين بشأن رؤية 2030، كانت هناك نتائج مُختلطة على المستوى الاقتصادي الجُزئي. فقد انخفض معدل البطالة إلى حوالي 3٪ (حوالي 7٪ للمواطنين السعوديين)، على الرغم من أنَّ هذا لا يزال أعلى من دول الخليج الأخرى مثل قطر، حيث تقل البطالة عن 1٪.
كما يدخل المزيد من النساء إلى سوق العمل، حيث تتجاوز مشاركتهن بالفعل أهداف رؤية 2030. وهذا من شأنه أن يساعدَ على تعزيز صورة المملكة العربية السعودية المُتغيّرة على المستوى المجتمعي، الأمر الذي قد يساعد على جذبِ المزيد من السياحة والاستثمار. كما وصلت البلاد إلى أكثر من 1.3 مليون شركة صغيرة ومتوسّطة الحجم، ما يخلق فرص عمل جديدة خارج القطاع العام المهيمن تقليديًا.
مع ذلك، إلى جانب هذه الإنجازات والفرص، تظل الأسئلة قائمة حول سُبُلِ عيش المواطنين السعوديين العاديين. في حين ارتفعت مُلكية المساكن وتقترب من هدف الحكومة البالغ 70٪، لا يزال العديد من السعوديين، وخصوصًا في الرياض، يكافحون من أجل تحمُّل تكاليف السكن. ارتفعت أسعار المساكن بنسبة 86% منذ العام 2020 -وهو أعلى بكثير من المعدلات في العديد من الدول الغربية- مدفوعةً بالتطوير السكني المحدود والطلب المتزايد مع انتقال المواطنين إلى العاصمة بحثًا عن فرص عمل جديدة، مما يُعقِّدُ في نهاية المطاف جهود الحكومة لتحقيق هدفها في ملكية المساكن.
في حين أنَّ هناكَ حماسةً مجتمعية وشعبية للتحوُّل في المملكة العربية السعودية، فإنَّ ارتفاعَ تكاليف المعيشة، وضغوط الإسكان، والضغوط المالية الكُلِّية قد تؤدّي في نهاية المطاف إلى تأجيجِ المظالم. وقد يُصبحُ هذا أكثر وضوحًا عندما تستقرُّ الغبار من المشاريع الضخمة لرؤية 2030 -وخصوصًا بالنظر إلى تأخير البناء- وبعد انتهاء بطولة كأس العالم 2034، وخصوصًا إذا لم يَجنِ السعوديون العاديون فوائد من هذه المشاريع. إنَّ الإنفاق الحكومي الكبير الذي يُنظَرُ إليه على أنه مُنفَصِلٌ عن الاحتياجات اليومية للسكان قد يؤدي بالفعل إلى زيادة هذا الخطر.
لقد حاول بن سلمان إعادة تشكيل العقد المجتمعي في المملكة، ولكن في القيام بذلك، عزّزَ أيضًا قدرة الدولة على مواجهة السخط المحتمل. مع ذلك، قد يظل السخط يطفو على السطح، حتى في ظل نظامٍ ملكي مُطلَقٍ آمنٍ مثل المملكة العربية السعودية. في العام 2013، على سبيل المثال، حصدت حملة “الراتب لا يُلبّي احتياجاتي” على تويتر، والتي أصبحت الآن “إكس” (X)، ملايين التغريدات. وفي العام 2017، واجهت تدابير التقشّف انتقادات عامة، وخصوصًا عندما قورنت بالإنفاق الباذخ للعائلة المالكة في ذلك الوقت. وقد تظهر مثل هذه الإحباطات مرة أخرى إذا واجهت البلاد المزيد من الأعباء المالية ولم يكن هناك الكثير مما يمكن إظهاره لمشاريع رؤية 2030.
في حين قطعت المملكة العربية السعودية خطوات واسعة في تجديد اقتصادها ومجتمعها منذ الإعلان عن الخطة قبل ما يقرب من تسع سنوات، فإنَّ مخاطر التجاوز والفشل، من الضائقة المالية إلى الاستياء العام، تلوح في الأفق. وقد أظهرت الحكومة وعيًا متزايدًا بالحاجة إلى موازنة طموحاتها الكبرى مع حقائق الاستدامة الاقتصادية وعدم اليقين الجيوسياسي. ورُغم أنَّ الأمير محمد بن سلمان قد يكون متردّدًا في الاعتراف علنًا بالفشل في مشاريعه الضخمة بعد أن أعلن عنها بكل هذا الضجيج، فإنَّ تحويلَ تركيزه إلى أهدافٍ أكثر قابلية للتحقيق قد يُثبتُ أنها استراتيجية أكثر حكمة.
- جوناثان فينتون هارفي هو محلل سياسي وصحافي بريطاني يُركّز عمله بشكل كبير على شؤون مجلس التعاون الخليجي، فضلًا عن القضايا الجيوسياسية والاقتصادية المتعلقة بالشرق الأوسط ومنطقة المحيطَين الهندي والهادئ.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.