هل يستمرُّ وَقفُ إطلاقِ النار في غزّة؟
بول بوست*
إذا سارت الأمور على ما يرام، فقد تقترب الحرب في غزة من نهايتها قريبًا. يوم الأحد الفائت، دخلت المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار المُكوَّن من ثلاث مراحل بين إسرائيل و”حماس” حَيِّزَ التنفيذ، بدءًا بوقف القتال وتبادل الأسرى بين الجانبين. وتتضمّنُ المرحلتان التاليتان المتتاليتان انسحاب القوات الإسرائيلية مقابل إطلاق سراح المزيد من الرهائن من قبل “حماس”، وفي النهاية إعادة إعمار غزة، وهو مشروعٌ قد يستغرق سنوات، وربما عقودًا.
إنَّ توصُّلَ الجانبين إلى هذا الاتفاق يُثيرُ مجموعةً من الأسئلة. أبرزها، “لماذا الآن؟” أو ربما بشكلٍ أكثر مُلاءمة، “لماذا استغرقَ الأمرُ وقتًا طويلًا؟”. وكما أشار الرئيس الأميركي آنذاك جو بايدن نفسه في تصريحاته بعد الإعلان عن الاتفاق، فإنَّ هذا هو في الأساس الإطار نفسه الذي طرحه في أيار (مايو) الفائت. إنَّ استمرارَ الحرب لمدة ثمانية أشهر أخرى، ما أسفرَ عن مقتل الآلاف من الناس، يؤكّدُ ببساطة على اللغز النهائي للحرب: لماذا يواصل المتحاربون القتال وتحمُّل تكاليف الحرب، فقط لقبولِ صفقةٍ كان من الممكن التوصل إليها قبل وقتٍ كثير؟
لتفسير توقيت وقف إطلاق النار في غزة، يشيرُ البعضُ إلى العودة الوشيكة للرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض والتأثير الذي أحدثته على المفاوضات. لا شكَّ أن ذلك لعب دورًا جُزئيًا على الأقل. فقد شارك مسؤولون من إدارة ترامب، وخصوصًا مبعوثه إلى الشرق الأوسط ستيف ويتكوف، في المفاوضات إلى جانب كبير مفاوضي بايدن في الشرق الأوسط، بريت ماكغورك. ويبدو أنَّ الاثنين تمكّنا من التنسيق على أساس روتين “الشرطي الصالح والشرطي السيّئ”، حيث عمل ماكغورك في الدوحة على صياغة تفاصيل الاتفاق النهائي، بينما أكد ويتكوف في القدس لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مدى رغبة ترامب في إنهاء الحرب قبل تولّيه السلطة. ولدى نتنياهو الكثير من الأسباب لمحاولة كسب ودّ ترامب، لذا فإنَّ توقيت الصفقة، الذي جاء قبل أقلِّ من أسبوعٍ من تنصيب ترامب، ليس مصادفة على الأرجح.
لكن حتى لو أجبرت عودة ترامب الوشيكة الصفقة على المرور الآن بدلًا من وقتٍ لاحق، فمن المرجّح أنَّ احتمالَ التوصُّل إلى اتفاقٍ لم تكن له علاقة كبيرة بترامب أو بايدن أو أيِّ جهدٍ من جانب الوسطاء. بدلًا من ذلك، يبدو أنَّ التوصل إلى اتفاقٍ كان إلى حدٍّ كبير نتاجًا للحقائق المُتغيِّرة على الأرض. وباستخدام إطار عمل الباحث في حل النزاعات ويليام زارتمان، كان الوضع “ناضجًا” للتوصُّلِ إلى اتفاق. لماذا؟
بالنسبة إلى إسرائيل، فإنَّ وقفَ إطلاق النار لا يفعل الكثير لتغيير الوضع العسكري الحالي في غزة نفسها. كانت العمليات العسكرية الكبرى في غزة بدأت أصلًا التراجع في حزيران (يونيو)، ولهذا السبب تمكّنت إسرائيل آنذاك من توجيه قواتها ضد “حزب الله” في لبنان. كانت غزة مُدمَّرة بالفعل إلى حدٍّ كبير، حيث تم تدمير أكثر من 60 في المئة من هياكل ما قبل الحرب في المنطقة، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة. والحقيقة القاسية هي أنَّ توقيع وقف إطلاق النار يصبحُ سهلًا نسبيًا عندما لا يتبقّى الكثير لإطلاق النار عليه.
لكنَّ التوصُّل إلى اتفاقٍ لوقف إطلاق النار يتطلّبُ طَرَفَين. وهذا يعني أنَّ “حماس” لا بُدَّ وأن تكون أدركت أيضًا أنَّ الظروف الحالية مواتية لتوقيع الاتفاق. وربما لا تكون كلمة “مواتية” هي الكلمة الأفضل. بل إنَّ “حماس” رأت ببساطة أنَّ فُرَصَ تحسُّن آفاقها من خلال استمرار القتال ضئيلة. وعلى وجه الخصوص، أدّى وقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حزب الله” الذي تمَّ التوصُّلُ إليه في تشرين الثاني (نوفمبر) إلى تغيير حسابات الحركة. وقبل ذلك، ربما كانت “حماس” راهنت على انقسام وتشتت انتباه الجيش الإسرائيلي على جبهاتٍ متعددة. ولم يكن هذا رهانًا غير معقول، نظرًا لأنَّ نتنياهو بدا راغبًا في الانخراط في حربٍ مُتعدّدة الجبهات بهدفٍ نهائي يتمثل في إضعاف إيران وضرب وكلائها وعملائها.
لكن هذا الأمل انهارَ عندما وافق “حزب الله” على وقف إطلاق النار قبل التوصُّل إليه في غزة، وهو موقفه منذ بدأ إطلاق الصواريخ على إسرائيل تضامُنًا مع “حماس” بعدما بدأت إسرائيل عملياتها العسكرية في غزة. والحقيقة أنَّ رهانات نتنياهو على الجبهات المتعددة ربما كانت ناجحة. فمن خلال تصعيد الصراع مع “حزب الله”، تمكّن من تهدئة التهديد على الحدود الشمالية لإسرائيل، مؤقتًا على الأقل. ولقد ساهم إضعاف “حزب الله” في سقوط الرئيس السوري السابق بشار الأسد، الأمر الذي أدّى بدوره إلى إضعاف إيران، راعية “حزب الله”، وبالتالي الحد من خطر اندلاع حرب أوسع نطاقًا. وبما أنَّ “حماس” لم تَعُد قادرة على الاعتماد على استنزاف إسرائيل، فلم يَعُد لديها ما يجعلها تعتقد أنها قد تستفيدُ من استمرار الحرب في غزة.
إنَّ الحقيقة المحزنة هنا هي أنَّ التغيير في حسابات “حماس” ربما لم تكن له علاقة بحملة القصف المكثّف والعمليات البرية التي نفذتها إسرائيل في غزة ذاتها، بل كانت له علاقة أكبر بالجهود التي تبذلها إسرائيل في لبنان ضد “حزب الله”. بعبارةٍ أخرى، كان بوسعنا أن ننتهي إلى النتيجة نفسها في وقتٍ أقرب، من دون إلحاق القدر نفسه من الدمار بغزة، لو أنَّ إسرائيل تبنّت نهجًا آخر، نهجٌ يُركّز على الصمود في غزة، في حين تتخذ إجراءات ديبلوماسية وعسكرية للتوضيح ل”حماس” أنها لن تتلقّى دعمًا خارجيًا. لكن نتنياهو اختار استراتيجية مختلفة، استراتيجيةٌ تقومُ على إظهار قدرة إسرائيل على فرض العقوبات على غزة إلى جانب تصميمها على التسامح وعدم الاكتراث للاتهامات الدولية التي نتجت عن هذه الاستراتيجية.
إنَّ فهمَ الأسباب التي أدت إلى التوصل إلى وقف إطلاق النار أمرٌ بالغ الأهمية. لكن هناك سؤالًا مرتبطٌ بهذا، وهو الأكثر أهمية في الوقت الحالي، وهو إلى متى قد يستمر وقف إطلاق النار؟ إنَّ التحدي الذي يفرضه وقف إطلاق النار هو أنه ليس اتفاقات سلام شاملة، ولا يُشكّلُ اعترافًا بالاستسلام. بل إنه ببساطة ترتيبٌ يتفق بموجبه الجانبان على وقف القتال. إنَّ الحقيقة هي أنَّ خبراء الصراع وجدوا أنَّ نجاح وقف إطلاق النار مختلط، حيث ينهار العديد من حالات وقف إطلاق النار في غياب أطراف ثالثة لفرض الاتفاق والحفاظ على الفصل بين الجانبين. وهذا، على سبيل المثال، هو الدور الذي تقوم به قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في كثير من الأحيان.
في حالة وقف إطلاق النار في غزة، من غير المرجح أن يوفر توقف القتال الأساس لاتفاقية سلام شاملة تعالج القضايا الأساسية التي تسببت في القتال في المقام الأول، نظرًا لمعارضة إسرائيل لإقامة دولة فلسطينية والافتقار إلى خطة قابلة للتطبيق للحكم في غزة بعد الحرب لا تشمل “حماس”، وهو أحد الخطوط الحمراء لإسرائيل. مع ذلك، قد يتمكن الجانبان من تمديد وقف إطلاق النار إلى وقفٍ دائم للأعمال العدائية. لكن من الممكن أيضًا، بل ومن المرجح جدًا، أن يكون التوقف قصير الأجل. الواقع أنَّ بعض المراقبين يخشى أن يخطط نتنياهو لاستئناف الحملة ضد “حماس” بعد تنفيذ المرحلة الأولى فقط من المراحل الثلاث للاتفاق.
ورُغمَ أنَّ ترامب سيكون الآن مسؤولًا عن كلِّ ما سيأتي بعد ذلك، فهناك فرصة جيدة لأن تُحدّدَ الحربُ في غزة بقوة إرث السياسة الخارجية لبايدن. ونأمل أن يمهد وقف إطلاق النار هذا الطريق لسلام دائم في المنطقة. وإذا أدى إلى حلٍّ للعداء الطويل بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فإنَّ دعم بايدن القوي والمتردّد في بعض الأحيان لإسرائيل، حتى مع خطر كشف النفاق في فكرته العزيزة عن النظام القائم على القواعد، ربما أتى بثماره. لكن هذا جاء على الرغم من الخسائر الهائلة في الأرواح والدمار التي كان من الممكن تجنبها في نهاية المطاف. علاوة على ذلك، من المرجح أن يستمر العداء بين الإسرائيليين والفلسطينيين وأن يكون إرث الحرب هو فضح هشاشة اتفاقيات وقف إطلاق النار بشكل أكبر.
- بول بوست أستاذ مشارك في قسم العلوم السياسية بجامعة شيكاغو وزميل غير مقيم في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.