الانتخابات الرئاسية في لبنان: تاريخٌ من التدخُّلات والتوازُنات الخارجية (5)

عرفت الإنتخايات الرئاسية اللبنانية تدخُّلاتٍ عربية وأجنبية منذ استقلال لبنان في العام 1943، الأمر الذي جعلها لعبة سياسية في أيدي القوى المؤثّرة القريبة والبعيدة. في ما يلي دراسة عن هذه الإنتخابات وتاريخها وكيف كانت تجري حتى الآن تنشرها “أسواق العرب” على خمس حلقات، هنا الخامسة والأخيرة منها.

رئيس الحكومة المُكَلَّف القاضي نوّاف سلام: هو الآخر جاء نتيجة تدخّلٍ أجنبي.

الدكتور سعود المولى*

 

انتخابات 2022 والفراغ الرئاسي من جديد

شهد لبنان، في 15 أيار(مايو) 2022، أول انتخابات نيابية بعد احتجاجات تشرين الأول (أكتوبر) 2019 وانفجار مرفَإِ بيروت في 4 آب (أغسطس) 2020. ومع أن المعسكر الذي يضمّ “حزب الله” وحلفاءه خسر الأغلبية التي كان يتمتع بها في المجلس السابق، فإنَّ النتائج لم تسفر في المقابل عن أغلبية واضحة لأيّ طرف؛ ما جعل انتخاب رئيس جديد للجمهورية بدل الرئيس ميشال عون، الذي انتهت ولايته في تشرين الأول (أكتوبر) 2022، صعبًا إن لم نقل مستحيلًا، وأدى بالتالي إلى إدخال البلاد في شغور رئاسي وفراغٍ حكومي وحالة من الشلل السياسي ناهيك عن الأزمة الاقتصادية الخانقة.

خلفية الانتخابات وأبعادها

جرت الانتخابات النيابية في لبنان في ظلِّ تغيّرات مهمّة جرت خلال السنوات الأخيرة، شملت انتفاضة تشرين الأول (أكتوبر) 2019 (انتفاضة 17 تشرين) ضد الفساد والنظام الطائفي، وانفجار مرفَإِ بيروت. وإضافة إلى هذا كله، تأثر لبنان بالانعكاسات السلبية على أمن الطاقة والغذاء التي نتجت من غزو روسيا لأوكرانيا. وقد كانت هذه الانتخابات أول انتخابات تجري في لبنان من دون مشاركة تيار الحريري (تيار المستقبل). وقد ترك قرار تعليق العمل السياسي الذي اتخذه سعد الحريري في كانون الثاني (يناير) 2022 تداعيات مهمة[1]، حيث تغيّرت الحسابات الانتخابية بناء عليه، وتسابق مرشحون لملء الفراغ الذي تركه تيار المستقبل الذي كان يتمتع بالأكثرية التمثيلية بين سُنّة لبنان. وجاءت هذه الانتخابات أيضًا في آخر ولاية الرئيس عون الذي انعكست سياساته سلبيًا على شعبية “التيار الوطني الحر” ، وكان هذا التيار يملك أكبر كتلة نيابية في مجلس النواب السابق. وقد فرضت كل هذه العوامل، من الانهيار الاقتصادي وعدم مشاركة “تيار المستقبل” وانحسار شعبية “التيار الوطني الحر” ودخول مرشحي “الانتفاضة” على خط المنافسة، دينامياتٍ جديدةً على هذه الانتخابات. ومع أنَّ النتائج كرّست نفوذ “حزب الله” في الطائفة الشيعية، لكنها جعلته أكثر حاجة إلى خصومه لتشكيل حكومة وتنفيذ سياسات وتمرير مشاريع قوانين في المجلس النيابي. وقد خسر في هذه الانتخابات أغلب المرشحين الموالين للنظام السوري (طلال أرسلان، ووئام وهاب، وأسعد حردان، والحزب القومي السوري الاجتماعي)، كما خسر فيها رموز في النظام المصرفي اللبناني مثل مروان خير الدين وإيلي الفرزلي. لكن النتيجة الأهم والأخطر أن هذه الانتخابات قطعت الطريق على أيّ احتمال لانتخاب جبران باسيل رئيسًا للجمهورية، وقد أصبح المزاج المسيحي منقسمًا بالمناصفة بين “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية”[2].

وبعد أكثر من شهر على هذه الانتخابات التشريعية التي أتت بكتل غير متجانسة إلى البرلمان، ومع تشكيل المجلس النيابي الجديد حصل الرئيس نجيب ميقاتي مجددًا على عدد كاف من الأصوات من النواب لتعيينه رئيسًا للوزراء، فكلّفه الرئيس ميشال عون في 23 حزيران (يونيو) 2022 تشكيل حكومة جديدة، وحصد ميقاتي 54 صوتًا من أصوات النواب (128) خلال استشارات أجراها رئيس الجمهورية، بينها دعم كتلة نواب “حزب الله”، القوة السياسية النافذة في البلاد. وامتنع 46 نائبًا، بينهم مستقلون وكتلة حزب “القوات اللبنانية” المعارضة المؤلفة من 19 نائبًا، عن تسمية أحد. واختار آخرون (25 صوتًا) بينهم كتلة “حزب الكتائب” المعارض (4 نواب) وكتلة “الحزب الاشتراكي” بزعامة الزعيم الدرزي وليد جنبلاط (معارضة 8 نواب) الدكتور نواف سلام، سفير لبنان السابق لدى الأمم المتحدة، في حين امتنعت كتلة “التيار الوطني الحر”، حزب رئيس الجمهورية (17 نائبًا آنذاك) عن تسمية مرشح[3].

الشغور الرئاسي الجديد

مع انتهاء ولاية ميشال عون مساء الاثنين 31 تشرين الأول (أكتوبر) 2022  بعد 6 سنوات أمضاها في سدة الرئاسة، دخل لبنان في مرحلة جديدة من فقدان التوازن بعدم انتخاب رئيس جديد، وشغور الموقع الرئاسي في غياب أي مؤشرات (داخلية وخارجية) توحي بإمكانية نجاح مجلس النواب في انتخاب رئيس جديد.  وكانت هذه المرحلة أشبه بتلك التي عاشها لبنان في العام 2014، لكن الجديد هذه المرة أنَّ لبنان كان يرزح منذ العام 2019 تحت ضغط أزمة مالية غير مسبوقة وأزمة اقتصادية حادة ناهيك عن أزمة الثقة بالسياسيين والقضاء والأجهزة الأمنية نتيجة لانتفاضة 17 تشرين ولتداعيات انفجار المرفَإِ في 4 آب (أغسطس) 2019 .

وقد برزت يومها مجموعة من الأسماء التي تسعى إلى الوصول إلى منصب الرئاسة، أعلن بعضهم ترشّحهم رسميًا مثل ميشال معوض ونعمة أفرام، وبقي آخرون مرشحين ضمنيين مثل قائد الجيش العماد جوزيف عون، وزياد بارود وزير الداخلية في حكومة فؤاد السنيورة (2008 – 2009). ثم انحصرت المنافسة بين الوزيرين السابقين سليمان فرنجية وجهاد أزعور. وفي حين حظي فرنجية بدعم “حزب الله”، فإنَّ أزعور (كان وزيرًا للمالية في حكومة السنيورة 2005 – 2008 وهو اليوم مدير إدارة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وآسيا الوسطى والقوقاز في صندوق النقد الدولي) دعمته قوى المعارضة قد انضم إليها تيار عون-باسيل بهدف منع وصول فرنجية إلى الرئاسة أو على الأقل الضغط على “حزب الله” لإيجاد بديلٍ من هذا الترشيح. كانت المعارضة تتشكّلُ من حزب “القوات اللبنانية” و”الحزب التقدمي الاشتراكي” و”حزب الكتائب” وبعض نواب “التغيير” الذين جرى انتخابهم بعد انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019، إضافة إلى بعض النواب الذين كانوا جُزءًا من “تيار المستقبل” بزعامة رئيس الحكومة الأسبق سعد الحريري. وتوافقت هذه القوى سابقًا على دعم النائب ميشال معوّض، لكن الأخير لم يحصل على العدد الكافي من الأصوات، لذلك سحب ترشيحه في 4 حزيران (يونيو) بعد تلاقي أو “تقاطُع” المعارضة مع “التيار الوطني الحر” على ترشيح جهاد أزعور.

ضمن هذا الوضع المأزوم عادت فرنسا تحاول لعب دور رئيس في الاستحقاق الرئاسي. في أيار (مايو) 2023، سلطت صحيفة “لوموند” الفرنسية الضوء على التدخل الفرنسي في الانتخابات الرئاسية اللبنانية والجدل المثار بشأن دعم باريس وتزكيتها لفرنجية. وأشارت الصحيفة إلى اتهام رئيس حزب “القوات اللبنانية” سمير جعجع لفرنسا بأنها تريد “تأمين مصالحها خصوصًا في ما يتعلق بميناءَي بيروت وطرابلس”[4].  إلّا أنَّ باريس تلقت ضربة معنوية بمبادرتها التي لم تنجح، وكانت تقوم على المقايضة التالية: انتخاب فرنجية رئيسًا مدعومًا من الثنائي الشيعي (“حزب الله” و”حركة أمل”)، مقابل تكليف الديبلوماسي سفير لبنان السابق لدى الأمم المتحدة نواف سلام رئيسًا للحكومة، مع ترتيبات محاصصة حول الحقائب الوزارية والبنك المركزي ومراكز بمؤسسات الدولة. هذه المعادلة التي هندسها المستشار الرئاسي الفرنسي باتريك دوريل، أثارت غضبًا واستياء قوى سياسية معادية لفرنجية، وتحديدًا القوى المسيحية، فدعمت المرشح أزعور كرد فعل على موقف فرنسا الداعم لفرنجية[5].

ومطلع حزيران (يونيو) 2023، عيّن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزير الخارجية السابق لودريان موفدًا خاصًا إلى لبنان، في محاولة جديدة لإنهاء الأزمة السياسية في البلد، حسبما أعلنت الرئاسة الفرنسية، وهي بالأحرى محاولة للملمة النكسة الفرنسية وعدم القبول بهزيمتها. وكانت وزيرة الخارجية الفرنسية آنذاك كاثرين كولونا التقت نظيرها اللبناني عبدالله بوحبيب في الرياض، على هامش الاجتماع الوزاري للتحالف الدولي لمحاربة “داعش” في 8 حزيران (يونيو)، بحسب بيان للخارجية اللبنانية جاء فيه أن “لقاء الوزيرين تناول ملف النزوح السوري في لبنان والانتخابات الرئاسية. وأوضحت الوزيرة الفرنسية أن الرئيس إيمانويل ماكرون، عيَّن وزير الخارجية السابق جان ايف لودريان موفدًا إلى لبنان للمساهمة في تسريع انتخاب رئيس للجمهورية اللبنانية”[6]. في 14 حزيران (يونيو) 2023، في الجلسة الثانية عشرة للبرلمان اللبناني لاختيار رئيس جديد للجمهورية، حصل جهاد أزعور على 59 صوتًا، فيما حصل سليمان فرنجية على 51 صوتًا. والمعروف أن المرشح يحتاج في الدورة الأولى من التصويت إلى أغلبية الثلثين -أي 86 صوتًا من مجموع نواب المجلس البالغ عددهم 128 نائبًا- للفوز، وفي حال الانتقال إلى دورة ثانية تصبح الأغلبية المطلوبة 65 صوتًا، لكن النصاب يتطلب الثلثين في الدورتين.

بعد هذا الفشل الجديد انعقدت في 16 حزيران (يونيو) في قصر الإليزيه بالعاصمة باريس قمة فرنسية-سعودية جمعت ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان والرئيس الفرنسي ماكرون، دعيا فيها المسؤولين في لبنان إلى الإسراع في انتخاب رئيس جديد للبلاد. وفي 21 حزيران (يونيو) التقى لودريان مع قيادات رسمية وحزبية لبنانية، وأجرى محادثات تتعلق بكيفية الاتفاق على انتخاب رئيس جديد للجمهورية بأقرب وقت ممكن[7]. وثمة أسباب أخرى أضفت أهمية على تدخل فرنسا بهذا الشكل: ففرنسا هي صاحبة مبادرة “سليمان فرنجية–نواف سلام”، وهي مفوضة أميركيًا لأنها تريد لبنان منصة إقليمية نحو الشرق الأوسط. ولفرنسا منظومة مصالح اقتصادية تبدأ بالنفط والغاز ولا تنتهي بالكهرباء والاتصالات مرورًا بالمرفَإِ وغيره[8].

وباستعراض لمواقف القوى الدولية والإقليمية -قبل طوفان الأقصى- نجد أنَّ إيران تركت يومها ل”حزب الله” مسؤولية التعامل مع الصراع على منصب الرئاسة، واتخاذ القرار بشأنه. ولعلَّ ذلك يعود لتفرّغها لعملية تقدم مفاوضاتها وعلاقاتها مع أميركا والسعودية وعدم الرغبة في تعكيرها. وفي حين كان الحزب يصرُّ على أنَّ إيران لا تتدخل في الملف الرئاسي، “لكن إذا ذهب الصراع لمحاصرة الحزب وفرض مرشح تحدٍّ عليه، فلن تقبل طهران بذلك”[9]. أما بخصوص الولايات المتحدة فالظاهر أن إدارة الرئيس جو بايدن لم تكن تعطي اهتمامًا حقيقيًا للوضع اللبناني. ومقارنة بالجهود التي بذلتها واشنطن بشأن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل في العام 2022، ثم في آب (أغسطس) 2023، فإنها لم تقدم أي مبادرة رئاسية إلى ما قبل الحرب الإسرائيلية على لبنان في تشرين الأول (أكتوبر) 2023- تشرين الثاني (نوفمبر) 2024. وكانت قد تركت في السابق لفرنسا مهمة التدخل ومحاولة إيجاد تسويات. وفي انتظار نتائج المهمة الفرنسية كانت واشنطن تلمح إلى قبولها بتسوية لبنانية تتوافق مع مصالحها وأنها تستطيع في الأخير نسف أي شيء مغاير، مع تلويحها بين حين وآخر بفرض عقوبات على المسؤولين عن تعطيل انتخاب رئيس الجمهورية. وكان “حزب الله” مطمنئًا إلى أن واشنطن لا تريد التورط بتسمية رئيس للجمهورية، حتى لا تتحمل المسؤولية إذا فشل أي رئيس جديد، وإن كان لديها حتمًا مرشحها المفضل، وأنها ترحب بأزعور وإن كانت لا تمانع بوصول فرنجية، انطلاقًا من قناعة واشنطن بأنَّ أيَّ رئيس ماروني لبناني سيكون حريصًا على أفضل علاقة مع واشنطن. ولفت في هذا السياق دعم واشنطن اللوجستي والمادي للجيش واحتضانها لقائده على الرغم من أنها لم تعبر عن دعمه بصفة رسمية، كما إنَّ واشنطن”كانت ترى في أزعور شخصًا مناسبًا، لمجيئه من مناخ صندوق النقد الدولي[10]“.

وعلى كل حال فإنَّ أميركا كانت منشغلة بأولويات دولية كثيرة تعتبرها حاسمة أهمها الحرب في أوكرانيا، وملف التفاوض مع إيران، وملف التطبيع العربي المتعثّر مع إسرائيل، ناهيك عن الوضع الداخلي ما بين فضائح ومحاكمات ترامب وبايدن، مع بدء الحملات التمهيدية لانتخابات الرئاسة 2024.

أما مصر فيبدو أنها دعمت منذ البداية ترشيح قائد الجيش العماد جوزيف عون، ولو أنها كانت تتحرك بما يوحي أنها تركت الحسم للمجموعة الخماسية وتحت سقفها طارحة على الدوام ضرورة إنجاز تسوية. بينما سعت قطر، التي لديها تجربة ناجحة في حل أزمة انتخاب الرئيس في العام 2008، إلى منع انهيار الوضع السياسي والاقتصادي ريثما يجري التوصل إلى اتفاق. ولم يكن هناك معارضة لوساطة قطرية في لبنان؛ فهي تتمتع بعلاقات جيدة مع الأطراف كافة، ولكن قطر بقيت تنتظر و”تجسّ نبض” القوى السياسية في لبنان بشأن احتمالات التوافق[11].

أمّا السعودية، التي تراجع نفوذها في لبنان خلال السنوات الأخيرة بعد أن فقدت التأثير في الكتلة النيابية الناخبة للرئيس في إثر تفكّك كتلة المستقبل والناخب السني بالتالي، وأزمة العلاقة بين الرياض والحريري، ومقاطعة تيار الحريري انتخابات 2022، فإنَّ أولوية أولوياتها كانت تقليص نفوذ “حزب الله” وقد جعلت ذلك شرطًا من أجل استئناف دعمها المالي للبنان. ومع أنَّ السعودية ألمحت إلى أنه ليس لديها “فيتو” على انتخاب سليمان فرنجيّة، إلّا أنها طبعًا لم تكن متحمّسة لانتخابه رئيسًا وفق التسوية الفرنسية وسلّة التعيينات التي ترافقها. وهي لم تطرح مبادرات بديلة أو تقترح أسماء جدّية، لكن يكفي أنها أحبطت المبادرة الفرنسية، وشجعت الكثير من الأطراف اللبنانية على إسقاطها.

أمّا سوريا (لأسد) التي لم يعد لها دور في الملف الرئاسي، لغرقها في أزماتها الداخلية الكثيرة والمتصاعدة، ولسيطرة القرار الإيراني-الروسي على سياستها، فإنها كانت لا تزال تحلم وتعمل على استعادة سيطرتها الكاملة على لبنان، وكان يكفيها قيام “حزب الله” بواجب دعم حليفها الأول والكبير سليمان فرنجية.

في 17 تموز (يوليو) 2023  دعت المجموعة الخماسية بشأن لبنان[12] خلال اجتماعها في العاصمة القطرية، الدوحة، أعضاء البرلمان اللبناني إلى انتخاب رئيسٍ جديد للجمهورية خلفًا للرئيس ميشال عون، وأشارت إلى أنه تمت مناقشة اتخاذ إجراءات ضد مَن يُعرقل ذلك. وأكدت المجموعة في بيانها استعداد الدول الخمس لدعم تنفيذ إصلاحات اقتصادية يوصي بها صندوق النقد الدولي. وأشار البيان إلى أن على أعضاء البرلمان اللبناني الالتزام بمسؤوليتهم والشروع في انتخاب رئيس للبلاد. وتأكد وتكرس مجددًا أنَّ لا انتخابات رئاسية ما لم يحصل اتفاقٌ إقليمي ودولي، حين اقترحت فرنسا ضم إيران إلى هذه المجموعة كما دعت إلى عقد طاولة حوار لبنانية تواكب المشاورات الإقليمية والدولية، وحاولت الاستفادة من التقارب السعودي-الإيراني الذي لم ينعكس أبدًا على لبنان[13]. لكن حسابات الحقل لم تطابق حسابات البيدر… فقد استمر “حزب الله” وحلفاؤه في التمسك بتعطيل أي تسوية انتخابية… إلى أن كان الطوفان.

طوفان الأقصى وتغير المعادلات

جاء طوفان الأقصى ليضرب كل الحسابات ويربك كل المعادلات… فهو لم يفاجئ فقط إسرائيل والغرب والعرب بل فاجأ أيضًا وأساسًا أركان محور الممانعة (إيران وسوريا “حزب الله”). وقد وجدت إيران (والحزب بالتالي) نفسها مضطرة لدخول الحرب ولكن بوتيرة خفيفة محسوبة فلا تقتل الذئب ولا يفنى الغنم. ووجد “حزب الله” نفسه محشورًا بين شعاراته “توحيد الساحات” و”إسناد غزة” و”الزحف نحو القدس”، وبين إمساك إيران التام بمفاصل قواته وقراراته بحيث منعت توسيع تدخله تجنبًا للردود الأميركية والإسرائيلية. ومن هنا فقد بقي تدخل “حزب الله” محصورًا في عمليات تكتيكية ضمن ما أسماه “قواعد الاشتباك”، وليس انخراطًا كبيرًا في الحرب، وذلك لمجرّد إظهار التضامن مع “حماس” مع تجنُّب حدّة الرد الإسرائيلي في الوقت نفسه. ومنذ البداية ظهر واضحًا أنَّ الإيرانيين لا يريدون توسيع رقعة الحرب وأنهم بتصعيدهم المواجهة في البحر الأحمر عبر الحوثيين يريدون توجيه رسالة إلى أميركا (وأوروبا) بعدم السماح لإسرائيل بجر الولايات المتحدة إلى حرب إقليمية. ويبدو أنَّ الضغوط الأميركية والأوروبية على إيران تركزت على منع تمدّد الحرب في لبنان والمنطقة وتوسعها ولكنها في المقابل اعتمدت سياسة ردعية بهدف منع الحوثيين من تعطيل الملاحة والمصالح الغربية في المنطقة. ومع تصاعد حمى الحرب في غزة والتصعيد اليومي على جبهة الجنوب اللبناني والبحر الأحمر، اعتقد “حزب الله” أنه صار يمتلك عددًا أكبر من الأوراق لفرض شروطه الداخلية، والتمسك أكثر بمرشحه للرئاسة معتبرًا أن الرسائل الدولية والإقليمية التي تصله حول ضرورة التهدئة في الجنوب وعدم الذهاب نحو الحرب تعينه في مسعاه وتفتح له الباب واسعًا لصياغة وضع سياسي جديد في لبنان. لكن مرة أخرى لم تكن حسابات الحقل منطبقة على حسابات البيدر، وهنا كان مقتل “حزب الله” ونظام الأسد ومعهما إيران.

منذ فجر الأول من تشرين الأول (أكتوبر) 2024 وسّعت إسرائيل من عملياتها لتبدأ هجومًا برّيًا في الجنوب، في ظل موقف أميركي معلن يقول بمعارضة توسيع الحرب في لبنان، لكنه يوافق على ضرب “حزب الله” وإنهاء وجوده[14]. أما هدف نتنياهو فكان خلق أمر واقع جديد يفرض من خلاله شروطه التي تدرجت من المطالبة بتنفيذ القرار 1701 وانسحاب الحزب إلى شمال نهر اليطاني، ثم المطالبة بالانسحاب إلى ما وراء نهر الأولي (منطقة صيدا)، وصولًا إلى الكلام عن إنهاء الحزب وتغيير خارطة الشرق الأوسط.

والحال أنَّ المبادرة كانت بين يدي نتنياهو، الذي استفاد من ضعف الإدارة الأميركية وعجزها عن القيام بأي خطوة قبيل أسابيع من الانتخابات الرئاسية، ناهيك عن دعم وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن وجماعته له، وموقف ترامب المؤيد أصلًا للحرب وللانتهاء من إيران وحلفائها[15]، علاوة على التأييد أو الصمت والنفاق الأوروبيين. ويبدو أن الجميع كان يراهن على فرض وقائع جديدة على الأرض وانتظار مفاعيلها ونتائجها[16]. وقد وجدت أميركا والغرب في الحرب فرصة لإنهاء “هيمنة حزب الله” التي استمرت لفترة طويلة ولكسر الجمود السياسي في لبنان[17]. وهكذا وجد اللبنانيون أنفسهم أمام خيار من إثنين: الاجتياح البري الموسّع، واستكمال عمليات التدمير والتهجير والاغتيال تمهيدًا لإنشاء حزام أمني شبيه بحزام ما قبل العام 2000؛ أو التسليم الرسمي والشعبي بالشروط الدولية المفروضة، والتي تدعو إلى العودة إلى القرار 1559 وليس مجرد تطبيق القرار 1701. بالمقابل فشل الحزب في توقّع الخسائر وتجنّبها. لقد بنى الحزب إستراتيجيته في إسناد غزة على تقدير للوضع عنوانه الالتزام بقواعد الاشتباك والردع المتقابل، لكن سرعان ما تبيّن أنّه تقدير خاطئ ما سمح لإسرائيل بالاستعداد لجبهة الشمال. لا بل ظهر أن الاستعداد كان بدأ منذ حرب تموز (بوليو) 2006.

كما إنّ الخطأ الأهم الذي وقع فيه الجميع كان في تجاهل مستوى الوحشية الصهيونيّة التي تمثلت بحرب إبادة كاملة في غزة وبحرب تدمير واسعة للجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت في لبنان. هذا ناهيك عن عدم فهم إشارات الموقف الأميركي (والأوروبي إلى حد كبير) الحاضن والمشارك في عملية الانتهاء من وجود قوى راديكالية مثل “حماس” و”الجهاد الإسلامي” و”حزب الله” على رقعة الشرق الأوسط، وعدم فهم معنى التلويح الأميركي والأوروبي المتكرّر بخطرِ الحرب “المفتوحة” وبضرورة ضبط النفس والذي ساهم في شل فعّالية الإسناد الإيراني. من جهة أخرى، لقد أخطأ الحزب (وإيران) في تقدير إستراتيجية نتنياهو في إطالة أمد الحرب على غزّة، بحيث فقد الإسناد مع الوقت كثيرًا من قدرته وأهدافه. وكان لا بد من تغيير هذا التقدير حين قام العدو بضربات الثلثاء 17 أيلول (سبتمبر) التي استهدفت أجهزة “البيجر” والأربعاء 18 في أجهزة اللاسلكي. لكن التغيير لم يحصل، بل استمرت إيران تماطل وتناور ضمن استراتيجيتها السابقة حتى كانت عمليات اغتيال القيادة العسكرية للحزب الجمعة 20 أيلول (سبتمبر)، ثمّ ضربة الإثنين الأسود في الضاحية يوم 23 أيلول (سبتمبر)، وصولاً إلى اغتيال السيد حسن نصر الله يوم الجمعة 27 أيلول (سبتمبر)، والسيد هاشم صفي الدين في 3 تشرين الأول (أكتوبر) 2024، وبالتالي أنجز العدو  القضاء على النخبة القائدة في “حزب الله” (2 أمناء عامين، وعدد كبير من قادة الوحدات العسكرية والأمنية، ناهيك عن معظم أعضاء المجلس الجهادي وبعض أعضاء مجلس شورى القرار) ناهيك عن التدمير الكامل لشريط حدودي من القرى بعمق 2-3 كلم واحتلال مساحات أخرى من الجنوب. هذه الضربات أجبرت قيادة الحزب (أي إيران في الأساس) على “تجرُّع السم” وقبول الخطة الأميركية-الفرنسية لوقف إطلاق النار (ولو أنَّ الحزب عاد لاحقًا إلى نغمة الانتصار). ثم كانت الضربة الأهم والأخطر التي تلقتها طهران و”حزب الله”، بالسقوط السريع والمذهل لنظام بشار الأسد وفراره إلى موسكو. ولعل العامل الحاسم في سرعة تهاوي دفاعات النظام كان انكفاء روسيا بسبب نقل المزيد من ضباطها وقواتها وأسلحتها إلى الجبهة الأوكرانية، وانهيار “حزب الله” في لبنان بعد الحرب الضروس التي خاضها ضد العدوان الإسرائيلي غير المسبوق، وتزايد ضعف إيران بعد التغييرات الداخلية التي تلت مقتل الرئيس ابراهيم رئيسي وبعض معاونيه، وبالأخص بنتيجة الضربات (والاغتيالات)الإسرائيلية على أراضيها وضد “حزب الله” في سوريا ولبنان. وبالتالي فقد خسرت إيران و”حزب الله” خسارة كبيرة بهذا التحوّل المفاجئ في الوضع السوري، كما خسرت موسكو المشغولة بحربها الأوكرانية، وقد اضطرت أخيرًا للاستنجاد بكوريا الشمالية. وهكذا انكشف الحزب بالكامل أمام خصومه في الداخل بعد انكشافه أمام العدو الخارجي.

هذا الوضع الجديد أعاد طرح مصير حزب الله (وسلاحه) ودوره في المعادلة الداخلية. فعادت الخماسية إلى طرح التسريع بانتخاب رئيس للجمهورية ، وتبنت بالإجماع قائد الجيش العماد جوزيف عون، على أن يلي ذلك تشكيل حكومة تلتزم بالسقف الدولي الجديد، أي تنفيذ القرارات 1559 و 1680 و1701 وتطبيق الطائف ببنوده ذات الصلة، والقيام بالإصلاحات الضرورية التي كان قد حددها المجتمع الدولي والهيئات المختصة منذ سنوات وتبنتها المحموعة الخماسية ومعظم الأفرقاء. وقد حاول الرئيس نبيه بري تأجيل الأمر المحتوم وانتزاع بعض الضمانات، من خلال تحكّمه بمجريات التصويت في مجلس النواب مع تمتعه بكتلة كبيرة من النواب (37 للثنائي الشيعي وحلفائه و14 للتيار العوني وعدد آخر من المستقلين المترددين في انتخاب قائد الجيش لأسباب متنوعة)… لكن الوضع الدولي الإقليمي كان رسم مُجددًا مصير الانتخابات. وهكذا كان.

  • الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد، وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية في قطر.

 

هوامش:

[1] https://cutt.ly/6wlTx8iC

[2] https://cutt.ly/mwlTbu4X

[3] https://thenewkhalij.news/index.php/article/271384/lmatha-ydyaa-mykaty-okth

[4] https://cutt.ly/owlRkuFc

[5] https://cutt.ly/dwlRDNHa

[6] https://cutt.ly/3wlRW6Vm

[7] https://cutt.ly/3wlRkJM7

[8]https://cutt.ly/lwlRlswY

[9] https://cutt.ly/lwlRlswY

[10] https://cutt.ly/3wlRW6Vm

[11] https://cutt.ly/xwl4rxuQ

[12]  وهي الإطار الدولي الإقليمي الذي يتابع الوضع اللبناني، ويسعى للتوصل إلى توافق لإنهاء الفراغ الرئاسي والمباشرة في تشكيل حكومة تشرع باتخاذ الإصلاحات الضرورية لحصول لبنان على الدعم الدولي للخروج من أزمته الاقتصادية الخانقة، وقد تشكلت من أميركا وفرنسا وقطر ومصر والسعودية

[13]https://cutt.ly/bwlZeEQZ

[14] https://cutt.ly/ZeAfTKsN

[15] https://cutt.ly/MeAfYkDb

[16] https://cutt.ly/geAfUqR4

[17] https://cutt.ly/eeAfU2xr

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى