الوفاءُ للمبدعين حياةٌ لهم دائمة
هنري زغيب*
خلال تدريسيَ سنَتَين (1989-1990) لدى “كليَّة ميدلْبُري الجامعية” في ولاية فيرمونت الأَميركية، كنتُ أَختلسُ أَيامَ العطلة في نهاية الأُسبوع لأَنتقل إِلى قرية ريبتون المجاورة وأُمضي ساعاتٍ هانئةً من الكتابة في “كوخ روبرت فروست” الذي كان الشاعر الأَميركي الخالد (1874-1963) يُمضي فيه صيفيَّاته منذ ابْتَناه سنة 1939. وبعد وفاته اشتَرَتْه “كلية ميدلْبُري الجامعية” وحوَّلَتْه واحةً ثقافية سياحية باسطةً حول الكوخ ساحاتٍ واسعةً خضراءَ مُشَجَّرة، وعلى جذع كلِّ شجرةٍ لوحةٌ معدنيةٌ محفورةٌ عليها قصيدة من روبرت فروست.
ودِدْتُ لو كان لدينا في لبنان صرحٌ جامعيٌّ يتعهَّد، ضمن رسالته الأَكاديمية، ولو “كُوخًا” لِمبدعٍ لبنانيٍّ في أَيِّ حقلٍ معرفيٍّ علميٍّ أَو ثقافيٍّ أَو تراثيٍّ، بتحويلِه وُجهةً ثقافية سياحية للأَجيال الجديدة كي تكتشف منابع لبنان الإِبداعية الخالدة قبل هذه الحرب التدميرية وستبقى بعدَها حين تنقشع الغيوم السُود.
سوى أَن قدَرنا في لبنان يحصر هذه الأَعمال بوفاء ذوي المبدعين حفاظًا على إِرثهم أَمكنةً ونتاجًا واستذكارات فيتعهَّد الأَبناء والأَحفاد ومهتمُّون بوادرَ حفْظ الغائبين كي يظلُّوا حاضرين.
منها بادرة ماري هاسكل بإِرسالها موجوداتِ محترف جبران في نيويورك إِلى بشرّي التي تشكَّلَت فيها لجنةٌ ما زالت تحْيي جبران كلَّ يوم متحفًا رائعًا في الدير الذي اشترَتْه مريانا شقيقة جبران يوم جاءَت مع جثمانه (آب 1931).. ومثْلها بادرةُ الناشر أَلبرت الريحاني بتحويل بيت شقيقه أَمين متحفًا (سنة 1955) يضم مخطوطاته ومؤَلَّفاته وأَغراضه يتعهَّدها اليوم ابنُه أَمين الذي شكَّلَ لحفْظ الإِرث مؤَسسةً في الفريكة مرآتُها مؤَسسةٌ في واشنطن بعهْدة شقيقته ميّ وشقيقَيه رمزي وسَرمَد لتخليد صاحب “قلب لبنان” في كل اتجاه.. وبعد نديم ونظير عبود يتولَّى أَبناؤُهما متحف مارون عبود في عين كفاع. والبادرة ذاتها تولَّاها نهاد نوفل بتأْسيس متحف الياس أَبو شبكة في بلدته زوق مكايل مما كنتُ جمَعْتُه وجمَعَه الزميل الصحافي أَنطوان سلامة. وفي السياق ذاته تحتضن سهى حدَّاد (ابنة مي نعيمه) متحف ميخائيل نعيمه في المطيلب (بعد الزلقا) بحفْظ دقيق ممتاز. ويتواصل الحفْظ مع الأَبناء، فيحافظ وليد فؤَاد سليمان على إِرث أَبيه بِنشْر مؤَلَّفاته قديمها والمخطوط ونُصْبٍ في البلدة الأُم فيع، ولا يهدأُ حيَّان حيدر عن بلْوَرة ذكرى والده الشاعر سليم حيدر نشرًا واستذكارًا، ويحفظ هاني فرُّوخ أَعمال والده المبدع مصطفى فروخ، ويُصْدر شادي كرم المؤَلفات الكاملة موضوعَها والمترجَم لوالده الخلَّاق أَنطُون غطاس كرم، ولا تقصِّر ميراي شحادة عن استحضار والدها عبدالله شحادة إِصدارًا وجوائزَ ودارَ نشر.. أَما المحامي الأَديب الناصع أَنطُون قازان فهنيئًا في غيابه حضُورُهُ النابض بفضل المحامي شوقي قازان (ابن أَخيه) وهو ينشر مؤَلَّفات عمِّه الكاملة طبعة بعد طبعة، منشئًا له موقعًا إِلكترونيًّا تامَّ المعلومات والأَرشيف نُصُوصًا وصُوَرًا ومقتطفات صحافية..
هكذا يقتصر حفْظ التراث على القطاع الخاص فيما تتولّاهُ الدُوَل الحضارية فتؤَمِّن له العناصر الثقافية والسياحية.. ولولا “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU لكان يتيمًا هذا الحفاظ.
تاريخُ البلدان يخلِّده مبدعوها، وما أَكثرَهم في لبنان، وما أَتعس حكَّامًا لا يفْهمون أَنهم آيلون إِلى النسيان ولن يبقى لهم ذكْرٌ إِلَّا بتَقَرُّبهم من المبدعين، ولو قليلًا، ولو على هامش أُولئك المبدعين.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر منصة (X): @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار” (بيروت).