كَيفَ صارت عُمان بهدوء لاعبًا حَيَوِيًّا في الخليج
رُغمَ أنَّ سلطنة عُمان قد لا تمتلك النفوذ الإقليمي الذي تتمتّع به الإمارات العربية المتحدة أو المملكة العربية السعودية أو قطر، فإنَّ سياستها الخارجية، التي ترتكزُ على الحياد والتوازن الديبلوماسي بين الولايات المتحدة وروسيا وإيران، جعلتها لاعبًا حيويًا في الديبلوماسية الإقليمية، الأمر الذي عزّز بدوره نفوذها الجيوسياسي.
جوناثان فينتون هارفي*
استطاعت الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي في السنوات الأخيرة مُوازَنةَ علاقاتها بنجاح مع القوى العالمية المُتنافسة حيثُ وضعت نفسها بشكلٍ أفضل في عالمٍ مُتَعدّد الأقطاب ناشئ. مع ذلك، من بين جميعها، استفادت سلطنة عُمان بشكلٍ أكبر من تقليدها القديم من الحياد القوي في منطقةٍ مُتقلّبةٍ لجعلِ نفسها شريكًا ذا قيمةٍ فريدة لكلٍّ من القوى العالمية والإقليمية. وعلى وجه الخصوص، أصبح اعتماد واشنطن المُستَمِر على مسقط كقناةٍ خلفيةٍ حيوية للمحادثات غير المباشرة مع طهران ركيزةً دائمة للسياسة الخارجية الإقليمية للسلطنة، والتي أصبحت أكثر مركزية وسط المواجهة الإقليمية المُتصاعِدة بين إسرائيل وإيران.
إنَّ عودةَ الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأميركية في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) تُشيرُ إلى عودةٍ مُحتَمَلة من جانب واشنطن إلى النهجِ المُتَشدّد تجاه طهران الذي مَيَّزَ ولايته الأولى كرئيس. مع ذلك، من المُرجَّحِ أن يظلَّ حيادُ عُمان الراسخ تجاه إيران ثابتًا حتى لو ساءت العلاقات بين الولايات المتحدة والجمهورية الإسلامية وأصبح المشهد الإقليمي أكثر تقلُّبًا. كان حيادُ الدولة الخليجية الصغيرة سمةً مُمَيّزةً لسياستها الخارجية طوال فترة حكم السلطان قابوس بن سعيد التي استمرّت 50 عامًا، وحافظَ عليه السلطان هيثم بن طارق منذ تولّيهِ العرش بعد وفاة قابوس في شباط (فبراير) 2020. في الواقع، على الرُغم من أنَّ عُمان كانت تقليديًا شريكًا دفاعيًا حيويًا لكلٍّ من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، إلّا أنَّ نظرتها البراغماتية للسياسة الخارجية مَكَّنتها من الحفاظ على علاقاتٍ جيدة مع إيران، فضلًا عن دولٍ أُخرى تضمُّ بعضًا من ألدِّ أعداءِ واشنطن ولندن.
في أوائل تشرين الأول (أكتوبر)، على سبيل المثال، أجرت إيران وعُمان تدريبات عسكرية وبحرية مشتركة، مع التركيز على عمليات الإنقاذ والإغاثة البحرية في المحيط الهندي ومضيق هرمز. وتؤكد التدريبات على تركيز السلطنة على الحفاظ على الأمن الإقليمي، خصوصًا في مضيق هرمز الذي يمرُّ عبره 20% من نفط العالم. لكنها تتحدث أيضًا عن استعداد مسقط لتنمية العلاقات مع طهران ضمن مجموعةٍ واسعةٍ من الشراكات.
وقد سعت دولٌ خليجية أخرى أيضًا إلى الحفاظ على علاقاتٍ سَلِسة مع إيران، وإن كان الأمرُ لأسبابٍ مختلفة. على هامش قمة حوار التعاون الآسيوي في الدوحة يومي 2 و3 تشرين الأول (أكتوبر)، عقد وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي وإيران مناقشاتٍ غير رسمية بشأن المخاوف من أنَّ التوتّرات الإقليمية قد تُهدّدُ صناعات بلدانهم النفطية. وفي الاجتماع، طمأن وزراء مجلس التعاون الخليجي طهران بأنهم ينوون البقاء على الحياد في المواجهة بين إيران وإسرائيل.
وتخشى كلٌّ من المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة الانجرارَ إلى حربٍ إقليمية، ربما تشملُ الفصائل الموالية لإيران في العراق أو حركة الحوثي المدعومة من طهران في اليمن. وقد أثبتت الأخيرة بالفعل قدرتها على ضربِ أهدافٍ في دول الخليج قبل وقت طويل من ضرباتها الراهنة المستمرّة ضد إسرائيل منذ بدء الحرب في غزة في تشرين الأول (أكتوبر) 2023.
لكنَّ التحوُّلَ بين دول الخليج نحو الإنخراط والمشاركة مع إيران لا يعني أنَّ جميع نقاط الخلاف مع طهران قد تمّ تلطيفها أو حلّها. على سبيل المثال، لدى كلٌّ من الإمارات والكويت نزاعات إقليمية نشطة مع إيران. تطالب أبوظبي طهران بالإنسحاب من جزر أبو موسى وطنب الكبرى وطنب الصغرى التي تعود ملكيتها إلى الإمارات، في حين كانت الكويت مُنخَرطة في نزاعٍ مع إيران بشأن حقوق الحفر في حقل غاز الدرة/آراش في الخليج العربي، والذي لا يزال مصدرًا للتوتر بين البلدين على الرُغم من حدوثِ تقدُّمٍ في المحادثات لحلِّ المسألة في العام 2023.
على النقيضِ من ذلك، تمتّعت عُمان تاريخيًا بعلاقاتٍ أكثر ودّية مع إيران. لا يزال العُمانيون يتذكّرون كيف قَدَّمَ شاه إيران آنذاك محمد رضا پهلوي الدعم العسكري للسلطان قابوس في السبعينيات الفائتة للمساعدة على قمع ثورة ظفار في البلاد. أما بالنسبة إلى عُمان، فقد صمدت أمام الضغوط للتخلّي عن حيادها خلال الحرب العراقية-الإيرانية التي وقعت بين العامين 1980 و1988، عندما دعم حلفاؤها الخليجيون حكومة صدام حسين. وحتى في خضمِّ فتراتِ الاضطرابات اللاحقة في المنطقة، استمرّت مسقط وطهران في التعاون في أمورٍ عدة مثل الحفاظ على الاستقرار في مضيق هرمز الحيوي لنقل صادرات النفط والغاز.
كما إنَّ حيادَ عُمان في مناطق الصراع الرئيسة مثل اليمن وسوريا جعلها شريكًا جذّابًا، ليس فقط لإيران، التي لها نفوذٌ ومصالح في كلا البلدين، بل وأيضًا لروسيا، نظرًا لتدخّلها العسكري لدعم الرئيس السوري بشار الأسد. وبالإضافة إلى دورها كوسيط، تُعَدُّ عُمان أيضًا وجهةً واعدةً واستراتيجيةً للتجارة الروسية.
في الأوّل من تشرين الأول (أكتوبر)، قام رئيس مجلس الشورى العُماني خالد بن هلال بن ناصر المعولي بزيارةٍ إلى موسكو استغرقت ثلاثة أيام، حيث التقى بمسؤولين روس بارزين، بمن فيهم وزير الخارجية سيرغي لافروف، وطرح خلال اجتماعاته سلطنة عُمان كوجهةٍ للاستثمارِ الروسي في القطاع الخاص. وجاءت الزيارة في أعقاب مشاركة عُمان في المنتدى الاقتصادي الدولي في سانت بطرسبيرغ في العام 2024، حيث عزّزَ الجانبان تعاونهما في مجالاتٍ مثل الخدمات اللوجستية والأمن الغذائي.
لقد نمت التجارة الثُنائية بين روسيا وسلطنة عُمان بشكلٍ كبير في السنوات الأخيرة، حيث ارتفعت من 84 مليون دولار في العام 2014 إلى 400 مليون دولار في العام 2023، في حين زاد حجم التجارة بنسبة 60 في المئة في سنة واحدة فقط بين العامين 2022 و2023. وقد وفّرَ ذلك منفذًا حيويًا لروسيا وسط العقوبات الغربية بسبب الحرب في أوكرانيا، حيث برزَ ميناء صحار العُماني كمركزٍ حاسمٍ لإعادةِ تصدير النفط الروسي إلى شرق أفريقيا. كما بدأت الاستثمارات العُمانية تتدفّقُ بدورها إلى روسيا. في العام 2022، على سبيل المثال، اشترى صندوق الاستثمار العُماني المملوك للدولة حصّةً في شركة “ديميترا القابضة” (Demetra Holding) التجارية التي تتّخذ من موسكو مقرًّا لها، وهي واحدة من أكبر شركات تصدير القمح في روسيا.
يأتي تحوُّلُ تركيز روسيا إلى عُمان في وقتٍ تضغطُ واشنطن على حلفاءٍ خليجيين آخرين، وخصوصًا دولة الإمارات، لإبعادهم عن موسكو. والواقع أن أميركا قد زادت من ضغوطها التنظيمية على الشركات والبنوك الروسية العاملة في الإمارات أو المُرتَبطة بشركاتٍ إماراتية. ونتيجةً لهذا المشهد الأكثر تعقيدًا، فضلًا عن ارتفاعِ تكاليف المعيشة في دبي، تتطلّعُ الشركات الروسية بشكلٍ مُتزايدٍ إلى عُمان كبديل. وتبدو السلطنة سعيدة بجني الفوائد الاقتصادية، حتى في الوقت الذي تسعى إلى التغلّب على المخاطر السياسية المُترتّبة على التقرّب الشديد من موسكو.
ورُغمَ أنَّ الولايات المتحدة وشركاءها الغربيين قد لا يشعرون بالارتياح التام لعلاقات عُمان مع روسيا، فإنَّ الدورَ المحوري الذي تلعبه مسقط في الأمن الإقليمي وأمن الطاقة يفوقُ هذه المخاوف. ومن منظور واشنطن، فإنَّ حيادَ عُمان يُشَكّلُ شيئًا جيدًا يستحقُّ الدعم.
ومن المفيد أن تعتمد الولايات المتحدة أيضًا على الوصول إلى موانئ وقواعد عُمان الجوية لحماية ممرّات الشحن وإظهار القوة العسكرية في الشرق الأوسط. وفي حالة حدوث أزمة مع إيران، سيكون تعاون عُمان أمرًا حيويًا لضمان المرور الحرّ للنفط عبر مضيق هرمز والحفاظ على أمن الطاقة العالمي.
بالإضافة إلى لعب هذا الدور الحاسم في سياسة واشنطن الأمنية الإقليمية، أصبحت مسقط قناةً رئيسة للديبلوماسية الأميركية، وخصوصًا خلال إدارة الرئيس السابق باراك أوباما. في ذلك الوقت، بدأت واشنطن تعتمد بشكلٍ أكبر على القدرات الديبلوماسية العُمانية في حرب اليمن، بينما عملت أيضًا كوسيطٍ سرّي ولكنه حاسمٌ في المفاوضات التي بلغت ذروتها في الاتفاق النووي المُتعدّد الأطراف مع إيران في العام 2015. وحتى مع انهيار العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران في العام 2018 بعد انسحاب ترامب من الاتفاق النووي ومقتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني في العام 2020، ظلّت عُمان ذات أهمية كقناةٍ خلفية لواشنطن وطهران.
وقد استمر هذا الوضع طيلة العام الفائت. من المؤكد أنَّ دولَ الخليج الأخرى لعبت دورًا في إدارة التوترات الإقليمية الحالية، مثل المفاوضات التي أجرتها قطر بين إسرائيل و”حماس” بشأن إطلاق سراح الرهائن ووقف مؤقت للقتال في غزة. مع ذلك، فإنَّ الدورَ الذي تلعبه عُمان فريدٌ من نوعه في تيسير الحوار بدلًا من العمل كوسيطٍ فقط، وهو الموقف الذي لم يصبح مُمكنًا إلّا بفضل حيادها الصارم.
من الواضح أنَّ قدرةَ عُمان على السيطرة على التوترات الأوسع في الشرق الأوسط أو إدارتها بمفردها محدودة. ففي 14 تشرين الأول (أكتوبر)، على سبيل المثال، أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي تعليق المحادثات التي توسّطت فيها مسقط مع الولايات المتحدة، مُشيرًا إلى التقدُّم المحدود الذي تمَّ إحرازه من خلال المناقشات. مع ذلك، أشاد عراقجي بدور عُمان في الحفاظ على القناة الخلفية، مما يدلُّ على إيمان طهران المُستَمر بمسقط كفاعلٍ ديبلوماسي.
حتى لو عاد ترامب إلى تبنّي سياسة عقوباتٍ أكثر صرامة ونهجِ احتواءٍ تجاه إيران، فمن المرجح أن تظلَّ عُمان ثابتة في حيادها، وخصوصًا في ضوء تقدير واشنطن لنهجِ مسقط. وقد يؤدي هذا إلى تمييز السلطنة بشكلٍ أكبر عن جيرانها في مجلس التعاون الخليجي إذا أعادت الرياض وأبو ظبي تحالفهما مع إدارة ترامب، نظرًا لعلاقاتهما الأكثر دفئًا مع ترامب مقارنة بالرئيس جو بايدن، في حالِ تصاعدت التوتّرات الإقليمية مع إيران.
ورُغمَ أنَّ عُمان قد لا تمتلكُ النفوذَ الإقليمي الذي تتمتّع به الإمارات العربية المتحدة أو المملكة العربية السعودية أو قطر، فإنَّ سياستها الخارجية، التي ترتكزُ على الحياد والتوازن الديبلوماسي بين الولايات المتحدة وروسيا وإيران وحتى الصين، جعلتها لاعبًا حيويًا في الديبلوماسية الإقليمية، الأمرُ الذي عزّز بدوره نفوذها الجيوسياسي. وعلى نطاقٍ أوسع، تُظهِر عُمان كيف يتعيّن على القوى العالمية التي تسعى إلى تعزيزِ نفوذها في الشرق الأوسط أن تمرَّ أوّلًا عبر دول مجلس التعاون الخليجي للقيام بذلك.
- جوناثان فينتون هارفي هو صحافي ومحلل سياسي بريطاني ركز عمله إلى حد كبير على شؤون مجلس التعاون الخليجي، فضلًا عن القضايا الجيوسياسية والاقتصادية المتعلقة بالشرق الأوسط الأوسع ومنطقة المحيطين الهندي والهادئ.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.