كَيفَ سيُغَيِّرُ ترامب العالَم
فاز دونالد ترامب بفرصةٍ جديدة لتحديدِ سياسة الأمن القومي للولايات المتحدة. سوف يُمارس القوة المثيرة للإعجاب المُتجسّدة في الرجال والنساء الذين ينتظرون الآن العمل معه. إنَّ فريق ترامب لديه ما يكفي من الثقة، وسوف يتعلّم العالم قريبًا ما إذا كان لديه أيضًا ما يكفي من الحكمة.
بيتر فيفر*
اصطَدمَ وحيدُ القرن الرمادي -وهو اضطرابٌ مُتَوَقَّع منذ فترة طويلة ولا يزال صادمًا عندما يحدث – بالسياسة الخارجية الأميركية: فازَ دونالد ترامب بولايةٍ ثانية كرئيسٍ للولايات المتحدة. وعلى الرُغم من أنَّ استطلاعات الرأي كانت تتوقّعُ أن يكونَ الأمرُ مُثيرًا للأعصاب، إلّا أَّنَّ النتائجَ النهائية كانت حاسمة إلى حدٍّ كبير، وعلى الرُغم من أننا لا نعرفُ التكوينَ الدقيق للنظام الجديد بعد، فإننا نعلم أن ترامب سيكونُ على رأسه.
كان فوزُ ترامب في العام 2016 مفاجأة أكبر بكثير، ودارَ في حينه الكثير من النقاش والأسئلة في الأسابيع التي تلت يوم الانتخابات حول كيفية حكمه ومدى سعيه بشكل كبير إلى تغيير دور الولايات المتحدة في العالم. ونظرًا لعدم القدرة على التنبؤ بترامب وأسلوبه غير المُنتظم وتفكيره غير المتماسك، فإنَّ بعضَ هذه الأسئلة نفسها يظلُّ مطروحًا اليوم. لكننا نملك الآن معلومات أكثر بكثير بعد أربع سنوات من مشاهدته وهو يقود البلاد، وأربع سنوات أخرى من تحليل فترة وجوده في منصبه، وعامٍ على مشاهدة حملته الثالثة للبيت الأبيض. وبفضل هذه البيانات، من الممكن أن نُطلقَ بعضَ التوقّعات حول ما قد يحاول ترامب القيام به في ولايته الثانية. والمجهول المعروف هو كيف سيتفاعل بقية العالم وما ستكون النتيجة النهائية.
الواقع أنَّ هناكَ أمرين رئيسيين واضحَين. أوّلًا، كما حدث في فترة ولاية ترامب الأولى (وكما حدث في كل الإدارات الرئاسية الأميركية)، سوف يُشكّلُ الموظّفون السياسات، وسوف تتنافسُ الفصائل المختلفة على النفوذ ــ بعضُها يحملُ أفكارًا جذرية حول تحويل الدولة الإدارية والسياسة الخارجية الأميركية، وبعضُها الآخر يحمل وجهاتَ نظرٍ أكثر تقليدية. ولكن هذه المرة، سوفَ تكونُ الفصائل الأكثر تطرُّفًا هي المسيطرة، وسوف تستغلُّ ميزتها لتجميد الأصوات الأكثر اعتدالًا، وتفريغ صفوف المهنيين المدنيين والعسكريين الذين يرون فيهم أنهم “الدولة العميقة”، وربما يستخدمون أدوات الحكومة لملاحقة مُعارضي ترامب ومُنتقديه.
ثانيًا، يظلُّ جوهرُ نهج ترامب في السياسة الخارجية ــ المعاملاتية العاريةــ من دونِ تغيير. لكنَّ السياقَ الذي سيحاول فيه تنفيذ شكله الفريد من إبرام الصفقات قد تَغيّرَ بشكلٍ كبير: فالعالم اليوم أصبح مكانًا أكثر خطورةً مما كان عليه خلال فترة ولايته الأولى. وقد صوّرَ خطابُ حملة ترامب العالم بعباراتٍ كارثية، كما صوَّرَ نفسه وفريقه باعتبارهما واقعيين صارمين أدركا الخطر. لكن ما قدماه كان أقل واقعية من الواقعية السحرية: مجموعةٌ من التفاخُر الخيالي والوصفات السطحية التي لا تَعكُسُ أيَّ فَهمٍ حقيقي للتهديدات التي تواجهها الولايات المتحدة. وقد يعتمدُ ما إذا كان ترامب قادرًا في الواقع على حماية المصالح الأميركية في هذه البيئة المُعقّدة على مدى سرعة تخلُّصه هو وفريقه من الصورة الكاريكاتورية للحملة الانتخابية التي أقنعت أكثر من نصف الناخبين بقليل ومواجهة العالم كما هو حقًا.
إنَّ المهمة الأولى التي يواجهها ترامب هي فترة الانتقال الرسمي. حتى في ظلِّ أفضل الظروف، فإن هذه المناورة البيروقراطية صعبة التنفيذ، ومن المشكوك فيه أن تَسيرَ بسلاسةٍ هذه المرة. لقد سجّلَ ترامب أصلًا ازدراءه للعملية، ولتجنُّبِ الخضوع لقيودٍ أخلاقية صارمة، رفضَ حتى الآن التعاون مع “إدارة الخدمات العامة”، التي تُوفّرُ البنية الأساسية التي تسمح للحكومة المُنتَظَرة بجمعِ المعلومات التي تحتاجها لتكون جاهزة في اليوم الأول. مع ذلك، فإنَّ غيابَ الانتقال التقليدي قد لا يُبطئ الإدارة المقبلة كثيرًا، حيث قامت بالفعل بتعهيد معظم العمل إلى مشروع 2025 سيئ السمعة التابع لمؤسسة “هيريتيج” ومشروع الانتقال الأقل شهرة لمعهد “أميركا أوّلًا”. إنَّ العمل الذي قام به المؤمنون الحقيقيون بـحركة “ماغا” (MAGA) في هذه المشاريع أكثر أهمية وأكثر دلالة على ما ستفعله إدارة ترامب المقبلة من أيِّ شيءٍ تمَّ تطويره من خلالِ جُهدِ الانتقال الاسمي الذي ترأسته عضو الكونغرس السابقة تولسي جابارد مع روبرت ف. كينيدي (الإبن).
ستكون عملية الانتقال أقل أهمّية إذا نفّذَ فريق ترامب خططه للتخلّي عن عمليات التحقّق من الخلفية التي يقوم بها مكتب التحقيقات الفيدرالي وبدلًا من ذلك، جَعلُ الرئيس يمنح التصاريح الأمنية فقط على أساسِ فحصِ الحملة الداخلية، مما يسمح لترامب بمنع اختياراته الشخصية المُفضَّلة من أن يتمَّ حظرها بسبب “هياكل عظمية” في خزانتهم. من المحتمل أن تكون مثل هذه الخطوة الجذرية قانونية، ولكن فقط بعد تنصيب ترامب. في غضون ذلك، ستكون إدارة بايدن المُنتهية ولايتها محدودة في قدرتها على التنسيق مع فريق ترامب المقبل بالطريقة التقليدية لأنَّ موظفي ترامب لن تكون لديهم تصاريح.
وسوف يكون هذا الأمر أكثر أهمّية إذا قرّر ترامب وضع بعض الشخصيات الهامشية التي تُهيمِن الآن على دائرته الداخلية في مناصب عليا. وحتى إذا لم يُنفّذ ترامب الأفكار الأكثر جنونًا التي طرحها أثناء الحملة الانتخابية ــ لن يتولى نجم كرة القدم المتقاعد والمرشح الفاشل لمجلس الشيوخ لعام 2022 هيرشيل ووكر مسؤولية الدفاع الصاروخي، على سبيل المثال ــ فقد يجلب إلى مناصب الأمن القومي أفرادًا مثل الجنرال المتقاعد مايكل فلين أو ستيف بانون، اللذين من شأن مشاكلهما مع القانون أن تمنعهما عادة من الخدمة في شؤون الأمن القومي. وفي كلتا الحالتين، سوف يشكّل ترامب فريقًا عازمًا على تنفيذ العديد من المخططات نفسها التي تمكنت شخصيات أقل تطرّفًا من إقناع ترامب بالتراجع عنها في ولايته الأولى. على سبيل المثال، بعد خسارته انتخابات العام 2020، أراد ترامب فرضَ انسحاب مُتسرِّع من أفغانستان في أسابيعه الأخيرة كقائد أعلى: النوع نفسه من الانسحاب الكارثي الذي أذن به الرئيس جو بايدن بعد نصف عام. لكن عندما أشار بعض أعضاء فريق الأمن القومي المُتبقّي إلى مخاطر هذه المناورة، تراجع ترامب عن مطلبه.
خلال فترة ولايته الأولى، يُمكنُ تَصنيفُ المُعَيَّنين السياسيين في مجال الأمن القومي في إدارة ترامب في واحدة من ثلاث فئات. تتألف الفئة الأولى وربما الأكبر، من أشخاص يتمتّعون بخبرة حقيقية ربما حصلوا على مناصب في إدارة جمهورية عادية، وإن كانت ربما أقل ببضعة مستويات من تلك التي جاؤوا لشغلها في عالم ترامب. لقد حاولوا تنفيذ أجندة الرئيس بأفضل ما في وسعهم وسط الفوضى، ويمكن أن تُنسَبُ إليهم معظم الأشياء الجيدة التي حدثت: على سبيل المثال، حدثت الجهود المبذولة لتحويل خطاب الرئيس السابق باراك أوباما “التحوُّل إلى آسيا” إلى حقيقة مع شراكات استراتيجية ذات مغزى في منطقة المحيطين الهندي والهادئ في الغالب تحت رادار ترامب واستمرّت على مسارات مماثلة في إدارة بايدن، وتَقدَّمَ بها استراتيجيون متشابهون في التفكير.
كانت هناك مجموعةٌ أصغر ولكنها أكثر نفوذًا تتألف من كبار المسؤولين المخضرمين الذين كانت لديهم أفكار ثابتة حول الاتجاه الذي ينبغي أن تسلكه سياسة الأمن القومي، والذين اعتقدوا أنهم قادرون على هندسة هذه النتائج على الرُغم من المعاملات المُفرِطة التي يتبنّاها ترامب من خلال التأكيد على الكيفية التي قد تشير بها السياسة البديلة إلى الضعف. ومن الأمثلة على ذلك “إتش آر ماكماستر” وجون بولتون، اللذان عملا مستشارَين للأمن القومي الثاني والثالث لترامب على التوالي. في مُذكّراتهما، يشيران إلى ما اعتبراه إنجازاتٍ سياسية حقيقية: فقد نجح ماكماستر في إقناع ترامب بالموافقة على زيادة القوات الأميركية في أفغانستان في العام 2017، ونجح بولتون في إقناع ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران في العام 2018. لكن ماكماستر وبولتون وكل شخصية كبيرة أخرى تبنّت هذا النهج انتهى بها الأمر إلى مغادرة الإدارة بعد الإدراك بأنَّ ترامب سيجد دائمًا طريقةً للتخلُّص من القيود، مما يقوِّض أي فائدة سياسية كانوا يعتقدون أنهم قد يحققونها. حتى أنَّ بعضَ أولئك الذين ظلّوا حتى موعد تنصيب بايدن في العام 2021 من دون أن يستقيل قدم لي سرّيًا تقييماتٍ صريحة بشكلٍ ملحوظ تؤكد صورة ترامب باعتباره متهوّرًا وأي شيء سوى العقل المدبر للأمن القومي، بغض النظر عما قالوه علنًا.
كانت الفئة الثالثة عبارةً عن مجموعةٍ صغيرة ولكنها مؤثّرة من المؤمنين الحقيقيين بـحركة “ماغا” (MAGA) وعملاء الفوضى الذين سعوا إلى تنفيذ نزوات ترامب بدون أي توضيح أو اعتبار للعواقب. كانت لديهم رؤية ضيّقة للولاء، معتقدين أنَّ الرئيس يجب أن يحصلَ على ما يبدو أنه يطلبه ولا يسمع عن العواقب غير المقصودة لتلك التحركات خشية أن يُغَيِّرَ رأيه عندما يكون على علم كامل بالحقائق. على سبيل المثال، كانت المحاولات المحفوفة بالمخاطر للانسحاب من أفغانستان والتزامات حلف شمال الأطلسي (الناتو) الأخرى في الأيام الأخيرة من الولاية الأولى من تصميم موظفين صغار تُركوا في السلطة بعد رحيل القادة الأكبر سنًّا والذين سعوا إلى منع ترامب من الحصول على المشورة الكاملة بشأن ما ستُسفر عنه توجيهاته بالفعل.
في إدارة ترامب المقبلة، سوف يظل هناك جمهوريون تقليديون الذين يسعون إلى فرصةِ عملٍ لا تتكرّر إلّا مرة واحدة في العمر، وهم على استعداد للمجازفة بالتضحية بالنفس التي قد تقع لهم إذا ما واجهوا ترامب بطريقةٍ أو بأخرى. ولا ينبغي لأحدٍ أن يُقلّلَ من شأن خدمتهم، لأنه بدونهم، لن يكونَ ترامب أفضل رئيس يمكن أن يكون. وسوف يظل هناك إيديولوجيون يعتقدون أنهم يعرفون الاستراتيجية الصحيحة التي يجب اتباعها، ويعتقدون أنهم قادرون على توجيه ترامب للقيام بما يعتبرونه الشيء الصحيح – على سبيل المثال، التخلّي عن أوكرانيا لهجمات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع تعزيز الردع الأميركي للصين، وهو النهجُ الذي قد يبدو ذكيًا في ندوةٍ أكاديمية أو مقال رأي في صحيفة، ولكن من غير المرجح أن ينجح في الحياة الواقعية. وبفضل مؤسسة “هيريتيج” ومعهد “أميركا أولًا”، سيكون هناك الكثير من عملاء الفوضى الذين سيكون تدمير النظام الحالي لصنع السياسات الأمنية الوطنية، والذي حافظ على المصالح الأميركية لمدة 80 عامًا، سمةً من سمات ترامب 2، وليس عيبًا. والفرق هنا هو أن المجموعة الثالثة ستكون هذه المرة أكبر وأكثر نفوذًا من المرة السابقة.
وهذا يُشكّلُ تحدّيًا خطيرًا لأمناء النظام الحالي لصنع السياسات الأمنية الوطنية: الجيش النظامي والخدمة المدنية التي تشكل الغالبية العظمى من الأشخاص المكلَّفين بالإشراف على أجندة أيِّ رئيس. لقد أوضح ترامب وفريقه أنهم يعطون الأولوية للولاء قبل كلِّ شيء. وقد يكون لديهم أبسط اختبارات الولاء: سؤال أي فرد في منصب سلطة ما إذا كانت انتخابات العام 2020 قد سُرِقَت أو ما إذا كان الهجوم على مبنى الكابيتول الأميركي في السادس من كانون الثاني (يناير) كان عملًا من أعمال التمُّرد. وكما أظهر نائب ترامب المُنتخَب جي دي فانس، هناك طريقة واحدة فقط للإجابة عن هذه الأسئلة التي سيقبلها ترامب.
إنَّ مثلَ هذا الاختبار الحاسم قد يسمح لترامب بتسييس الرتب العليا في المؤسسة العسكرية وأجهزة الاستخبارات من خلال الترويج فقط للأفراد الذين يعتقد أنهم “في الفريق”. وسوف يتمتع أعضاء الخدمة المدنية بمزيد من الأمن الوظيفي والعزل عن الضغوط السياسية، ما لم يواصل فريق ترامب خطته لإعادة تصنيف الآلاف من الموظفين المدنيين المحترفين باعتبارهم مُعَيَّنين سياسيين يخدمون وفقًا لرغبة الرئيس، مما يجعل من السهل نسبيًا إقالتهم لأسباب سياسية.
من غير المرجح أن يتَّخذ الجيش والخدمة المدنية أي إجراء استفزازي من شأنه أن يؤدّي إلى تبرير مثل هذا التطهير. فهم يدركون أنهم ليسوا “المعارضة الموالية” – وهو الدور المخصص لحزب الأقلية في الكونغرس والمراقبين في وسائل الإعلام والمعلقين السياسيين. ووفقًا لقسم خدمتهم وأخلاقياتهم المهنية، فإنَّ المحترفين في مجال الأمن القومي سوف يستعدون لمساعدة ترامب بأفضل ما في وسعهم.
ولكن ترامب قد يقرر أنه يمكنه الحصول على التعاون أو الاستقالة التي يسعى إليها ببساطة من خلال ترك تهديد التطهير معلقًا في الهواء – وسيكون على حق. على أقل تقدير، من المرجح أن يقيل بعض كبار الشخصيات، في صدى لنصيحة “فولتير” بإقالة بعض الجنرالات الفرنسيين لإثارة الخوف في قلوب الآخرين. والسؤال هو ما إذا كان كبار المسؤولين المهنيين سيتبعون أفضل ممارسات العلاقات المدنية-العسكرية ويُقدّمون نصائحهم الصريحة لترامب وكبار المُعَيَّنين السياسيين حتى عندما تكون هذه النصيحة غير مرغوبة. إذا فعلوا ذلك، فيمكنهم مساعدته في أن يكون أفضل قائد أعلى قادر على أن يكون. إذا لم يفعلوا ذلك، فقد لا يهم سواء تم تطهيرهم أو الاحتفاظ بهم في مناصبهم، لأنهم لن يكونوا فعّالين في أيِّ حالٍ من الأحوال.
الحلفاء والأعداء
لقد اختار الناخبون الأميركيون ترامب، والآن سوف تتكيَّف آلة الحكم في واشنطن معه بطريقة أو بأخرى. ولكن ماذا عن بقية العالم؟ لقد نظر أغلب حلفاء الولايات المتحدة إلى فوز ترامب بخوف شديد، معتقدين أنه سيكون بمثابة المسمار الحاسم في نعش الزعامة العالمية التقليدية لأميركا. وهناك الكثير مما يُمكن انتقاده بشأن السياسة الخارجية الأميركية منذ الحرب العالمية الثانية، ولم يتعب حلفاء الولايات المتحدة قط من التعبير عن شكواهم. لكنهم أدركوا أيضًا أن حقبة ما بعد الحرب كانت أفضل كثيرًا بالنسبة إليهم من الحقبة التي سبقتها، والتي تَنَصَّلَت خلالها واشنطن من مسؤولياتها ــ ودفع الملايين الثمن في نهاية المطاف نتيجةً لذلك.
عندما اختار الناخبون الأميركيون ترامب للمرة الأولى، رَدَّ حلفاء الولايات المتحدة بمجموعةٍ مُتنوِّعة من استراتيجيات التحوُّط. وهذه المرة، أصبحوا في موقف أضعف كثيرًا بسبب التحديات الداخلية التي يواجهونها والتهديدات التي يفرضها فلاديمير بوتين والزعيم الصيني شي جين بينغ. سوف يحاول حلفاء الولايات المتحدة إرضاء ترامب واسترضائه، وبالقدر الذي تسمح به قوانينهم، سوف يعرضون عليه الإغراءات والمكافآت التي أثبتت أنها أفضل طريقة للحصول على شروط مواتية خلال ولاية ترامب الأولى. ومن المرجح أن ينتج نهج ترامب القائم على المعاملات القصيرة الأجل صورة معكوسة بين الحلفاء، الذين سوف يسعون إلى الحصول على ما يمكنهم وتجنُّب إعطاء أي شيء في المقابل ــ وهو شكلٌ من أشكال الديبلوماسية التي تنتج في أفضل الأحوال تعاونًا زائفًا وفي أسوَإِ الأحوال تسمحُ للمشاكل بالتفاقم.
على النقيض من ذلك، فإنَّ عودةَ ترامب ستُقدّم فرصًا وفيرة بين خصوم الولايات المتحدة. فقد وعد ترامب بمحاولةِ إجبار أوكرانيا على التنازل عن أراضٍ لصالح روسيا، وتعزيز مكاسب بوتين من الغزو. وعلى النقيض من العديد من وعود الحملة الانتخابية، فإن هذا الوعد قابلٌ للتصديق، لأنَّ ترامب أحاط نفسه بمستشارين مُناهضين لأوكرانيا ومؤيّدين لبوتين. ومن المرجح أيضًا أن يتمَّ تنفيذ خطته لأوكرانيا لأنها تقع بالكامل ضمن نطاق صلاحيات الرئيس. والسؤال الوحيد هو ما إذا كان بوتين سيقبل الاستسلام الجُزئي مع فهم أنه يمكنه دائما الاستيلاء على بقية أراضي أوكرانيا بمجرد أن ينجح ترامب في فرض “الحياد” على كييف أو ما إذا كان بوتين سيكشف خدعة ترامب ويطالب بالاستسلام الكامل على الفور.
إنَّ الفوائد بالنسبة إلى الصين أقل وضوحًا، لأنَّ العديد من مستشاري ترامب الرئيسيين ينغمسون في الواقعية السحرية المتمثّلة في التفكير في أنَّ الولايات المتحدة يمكن أن تضحّي بمصالحها في أوروبا بينما تعمل بطريقة أو بأخرى على تعزيز الردع ضد الافتراس الصيني في شرق آسيا. وقد تبدو الخطوات الأولية التي تتخذها إدارة ترامب الجديدة في آسيا مُتَشدّدة للوهلة الأولى. على سبيل المثال، إذا تمكن ترامب من فرض الرسوم الجمركية الضخمة التي اقترح فرضها على السلع الصينية، فقد يعاني اقتصاد الصين من بعض الألم، على الرُغم من أنَّ الألم الذي سيلحق بالمستهلكين الأميركيين سيكون أعظم وأكثر إلحاحًا. ومن المرجح أن يبحث ترامب عن طريقةٍ لاستعراض القوة العسكرية الأميركية في آسيا للإشارة إلى الانفصال عمّا وصفه بضعف بايدن.
لكن من المشكوك فيه أن الرسوم الجمركية ستُغيّرُ سياسات الصين بشكلٍ ملموس أو أنَّ التشدُّدَ المُفرط سيُترجَم إلى تعزيزٍ عسكري مُستدام في آسيا. فمن ناحية، فرض ترامب شروطًا مُعَيَّنة للدفاع عن تايوان، مُطالبًا تايبيه بمضاعفة إنفاقها الدفاعي أربع مرات حتى تتأهّل للحصول على دعمٍ أميركي أقوى. وقد تنهار هذه الاستراتيجية الخيالية بسبب تناقضاتها الخاصة، ومن الممكن أن تتعزّز الشراكة الصينية-الروسية مع احتمالات تراجعٍ أميركي في كلا المسرحين الرئيسيين.
خلال الحملة الإنتخابية، صَوَّرَ ترامب وفانس نفسيهما كرجُلَي سلام بينما سخرا من خصمتهما، نائبة الرئيس كامالا هاريس، وحلفائها باعتبارهم من دعاة الحرب. قدم ستيفن ميلر، أحد أكثر مستشاري ترامب ولاءً، صورةً حيّة للاختيار المزعوم. نشر على منصة التواصل الاجتماعي (X): “هذا ليس معقدًا. إذا صَوَّتَ لصالح كامالا، تصبح ليز تشايني وزيرة للدفاع. نغزو عشرات البلدان. يتم تجنيد الشباب في ميشيغان لمحاربة أبناء الشرق الأوسط. يموت الملايين. نغزو روسيا. نغزو دولًا في آسيا. الحرب العالمية الثالثة. الشتاء النووي “.
إنَّ هذه الصورة الضمنية لترامب باعتباره حمامة حذرة لا بُدَّ وأن تكونَ مُزعجة لأيِّ شخصٍ يتذكّر تهديداته في ولايته الأولى بإطلاق “النار والغضب” على كوريا الشمالية أو اغتياله المحفوف بالمخاطر لجنرال إيراني كبير. وقد تُثبِتُ الانعزالية المطلقة في رسائل حملته الإنتخابية أنها قيدٌ يشلُّ السياسة الخارجية لإدارة ترامب في وقت حرج. لكن ترامب يتخلص من مثل هذه القيود ويقاوم أن يتم تقييده. وكما يصف ماكماستر في مذكراته، فإنَّ مساعدي ترامب الأكثر ذكاءً سوف يستخدمون هذا لصالحهم، ويصوّرون أي شيء يريدونه أن يفعله على أنه الشيء الذي قال أعداؤه إنه لا يستطيع فعله. وقد تنجح هذه الحيلة بطرق محدودة لفترة قصيرة، ولكن في مرحلة ما، سوف يتحرك ترامب حتمًا في اتجاه مختلف تمامًا. وهذه المرة، قد ينتهي الأمر بهذا الاندفاع إلى إحباط الفصائل الأكثر تطرفًا في فريقه، بدلاً من تمكينها.
لقد فاز ترامب بفرصةِ جديدة لتحديدِ سياسة الأمن القومي للولايات المتحدة وسوف يُمارس القوة المثيرة للإعجاب المُتجسّدة في الرجال والنساء الذين ينتظرون الآن العمل معه. إنَّ فريق ترامب لديه ما يكفي من الثقة. وسوف يتعلّم العالم قريبًا ما إذا كان لديه أيضًا ما يكفي من الحكمة.
- بيتر فيفر هو أستاذ العلوم السياسية والسياسة العامة في جامعة ديوك ومؤلف كتاب “شكرًا لخدمتك: أسباب وعواقب الثقة العامة في الجيش الأميركي”. من العام 2005 إلى العام 2007، شغل منصب المستشار الخاص للتخطيط الاستراتيجي والإصلاح المؤسسي في طاقم مجلس الأمن القومي.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورِن أفِّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.