مُستَقبَلُ مصر يَمُرُّ بشكلٍ مُتَزايِدٍ عبرَ القرنِ الأفريقي

يبدو أنَّ تعميقَ التدخُّل العسكري المصري في القرن الأفريقي قد يساعد على تأجيج التوترات في المنطقة بدون السماح للقاهرة بالضرورة بتأمين مصالحها.

زعيم إقليم أرض الصومال موسى بيهي عبدي: ولّدَ قلقًا كبيرًا في القرن الأفريقي بعد توقيعه إتفاقية مع آبي أحمد.

فرانشيسكو سيرانو*

على الرُغمِ من تصاعُد الصراعِ الإقليمي على عتبةِ بابها في غزة المجاورة، فقد أصبح مستقبل مصر مُرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بالأحداث التي تقع بعيدًا إلى الجنوب من حدودها.

مع تحوُّلِ سدّ النهضة الإثيوبي الكبير على النيل الأزرق إلى أمرٍ واقع، أخذت مصر تشعر فعليًا بالحاجة إلى تكثيف وجودها في القرن الأفريقي. لكنَّ الحاجةَ إلى ممارسة النفوذ في المنطقة أصبحت أكثر إلحاحًا بعد هجوم حركة “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) على إسرائيل في العام الفائت والهجوم الإسرائيلي الذي أعقب ذلك على غزة.

في محاولةٍ مُعلَنة لدعم “حماس”، هاجمت ميليشيا الحوثي المُتمَركزة في اليمن بانتظام الشحنَ التجاري على البحر الأحمر. وقد أدى هذا إلى تقليل العبور عبر الممر البحري المؤدّي إلى قناة السويس، الأمر الذي أنتجَ خفضًا في عبور القناة بنسبة 66 في المئة وتوجيه ضربة مالية شديدة للاقتصاد المصري.

ومع اعتماد مواردها المائية وإيرادات قناة السويس على الأحداث في المنطقة، أصبحت منطقة القرن الأفريقي بمثابة محورٍ استراتيجي للقاهرة، التي تحاول الآن بقلق تعزيز حضورها هناك.

خلال الصيف، أبرمت مصر اتفاقيةَ دفاعٍ وتعاوُنٍ مع الصومال. وتنصُّ الاتفاقية، التي تمَّ توقيعها خلال زيارة الرئيس الصومالي حسن شيخ محمود إلى القاهرة في آب (أغسطس)، على تعزيز العلاقات الاقتصادية والديبلوماسية والدفاعية. ومنذ ذلك الحين، أرسلت مصر شحنتين على الأقل من الأسلحة إلى مقديشو.

والأهم من ذلك، أنَّ الاتفاقية تتضمَّن نشرَ ما يصل إلى 10 آلاف جندي مصري في الصومال خلال الأشهر المقبلة. وسيعمل ما يصل إلى 5 آلاف منهم ضمن بعثة حفظ السلام التابعة للاتحاد الأفريقي في الصومال، والتي تساعد الحكومة على محاربة مسلّحي حركة “الشباب” المتطرّفة. لكن الاتفاقية تنصُّ على إرسال القاهرة 5 آلاف جندي إضافي، مع تفويضٍ لا يزالُ غير واضح.

وقال نائل شاما، وهو باحثٌ مقيم في القاهرة مُتخصّص في العلاقات الدولية في الشرق الأوسط، لكاتب هذا المقال: “إذا تمّ نشرهم على طول الحدود بين الصومال وإثيوبيا، على سبيل المثال، فهناك خطر توترات عسكرية بين إثيوبيا ومصر، واحتمال اشتعال المناوشات بين الجانبين”. وأضاف شاما: “إن إرسال قوات إلى الصومال يشير إلى أنَّ مصر تريد وجودًا عسكريًا هناك. لكن في الوقت الحالي، ليس من الواضح كيف قد يؤثر هذا النشر في المفاوضات مع إثيوبيا بشأن سدّ النهضة”.

على مدى سنوات، حاول المسؤولون المصريون تأمين اتفاق مع إثيوبيا لضمان تدفُّقٍ ثابت للمياه إلى نهر النيل، والذي يأتي 80 في المئة منه من النيل الأزرق في المنبع.

في العام 2015، وقعت مصر والسودان وإثيوبيا إعلان مبادئ كان من المفترض أن يؤدّي إلى اتفاقٍ رسمي برعاية الاتحاد الأفريقي حول كيفية تقاسم موارد مياه النهر. لكن ذلك لم يتحقق قط.

بدأت إثيوبيا إنتاجَ الكهرباء من السد، الذي بلغت تكلفته 4.2 مليارات دولار، في أوائل العام 2022. وعندما أعلنت أديس أبابا في أيلول (سبتمبر) 2023 أنها ملأت السد، وصفت القاهرة الإجراء بأنه “غير قانوني”، لأنه لم يتم التوصُّلُ إلى اتفاقٍ نهائي بين دول حوض النيل -وأبرزها السودان- التي ستتأثر بالسد.

يُوَفّر النيل حوالي 90 في المئة من إمدادات المياه العذبة في مصر. وزعمت السلطات المصرية أنَّ خسارة 2 في المئة فقط من تدفُّق مياه النيل من شأنها أن تقضي على 200 ألف فدان من الأراضي المروية في مصر، مما يُعرّضُ القطاعَ الزراعي والاقتصاد الكلّي للخطر. ولكن مع اكتمال سد النهضة الآن، تتمتع القاهرة بقدرٍ ضئيلٍ من النفوذ لتأمين كميات المياه التي تحتاجها.

وعلى هذا النحو، رأت مصر فرصةً في التوتّرات بين الصومال وإثيوبيا، حيث أثار استعدادُ أديس أبابا الواضح للاعتراف بجمهورية أرض الصومال الانفصالية غضب مقديشو بشكلٍ خاص.

في كانون الثاني (يناير)، وَقَّعَ رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد وزعيم إقليم أرض الصومال موسى بيهي عبدي مذكّرة تفاهُمٍ تُمهّدُ الطريق أمام إثيوبيا غير الساحلية لتأمين عقدِ إيجارٍ لمدة 50 عامًا على امتداد 13 ميلًا من ساحل أرض الصومال، حيث ستبني قاعدة بحرية. وفي المقابل، ستكون إثيوبيا، التي فقدت الوصول إلى البحر عندما انفصلت عنها إريتريا في العام 1991، أول دولة تعترف باستقلال جمهورية أرض الصومال المُعلَن ذاتيًا.

الواقع أنَّ الوجودَ الإثيوبي على البحر الأحمر من شأنه أن يتحدّى وزن ونفوذ القاهرة في المنطقة.

يقول شاما: “تاريخيًا، كانت مصر تعتبر البحر الأحمر بمثابة حديقتها الخلفية”. وأوضح شاما أنه عندما بدأت القوى الجديدة زيادة نفوذها في المنطقة على مدى العقد الماضي، لم يكن ذلك بالضرورة مشكلة، لأنها كانت حليفة لمصر إلى حد كبير. “ولكن إذا حصلت إثيوبيا على قاعدة بحرية على البحر الأحمر، فستواجه القاهرة قوة مُعادية تسيطر على تدفّق مياه النيل الأزرق ويمكنها التأثير على طرق التجارة في البحر الأحمر”.

إنَّ المزيدَ من الشدائد في البحر الأحمر لن يؤدّي إلّا إلى تفاُقم الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها مصر. وكما أشرنا، فإنَّ هجمات الحوثيين على الشحن التجاري أدّت إلى تقليص إيرادات قناة السويس المصرية، حيث اختارت شركات الشحن الآن إعادة توجيه حركة المرور حول “كيب هورن” في جنوب أفريقيا لتجنُّب البحر الأحمر. قبل الأزمة، كانت حوالي 70-80 سفينة تمرُّ عبر المعبر الاستراتيجي يوميًا. وقد انخفض هذا العدد إلى حوالي 20 سفينة اليوم.

في أيلول (سبتمبر) الفائت، صرّحَ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بأنَّ مصر خسرت نحو 6 مليارات دولار من عائدات قناة السويس، أو نحو 50-60%، منذ بدأ الحوثيون استهداف الشحن في البحر الأحمر. وفي الخطاب نفسه، تابع السيسي قائلًا إنه إذا استمرَّ الوضعُ على هذا النحو، فسوف تكون هناك عواقب وخيمة “في منطقتنا وربما في جميع أنحاء العالم”.

لكن لسوءِ حظِّ مصر، يبدو أنَّ شركات الشحن الكبرى مستعدّة الآن لتحمُّل تكاليف وحقائق التشغيل المُترتّبة على إعادة توجيه حركة المرور البحري حول أفريقيا لنقل البضائع بين آسيا وأوروبا في المستقبل المنظور.

وتستمرُّ السفن الأكبر حجمًا التي تحمل شحنات قيمة في تجنب البحر الأحمر، ويرجع ذلك أساسًا إلى أنَّ التكلفة الإجمالية للتأمين الأكثر تكلفة ورسوم قناة السويس تظلُّ أعلى بشكلٍ عام مما تدفعه شركات الشحن في شكل وقود إضافي للتنقل حول أفريقيا، وفقًا لبحثٍ أجرته شركة أزور الاستشارية.

وعلى الرُغم من العمليات التي تُنفّذها القوات البحرية الغربية في البحر الأحمر وقصف أهداف الحوثيين في اليمن من قبل الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل، فإنَّ حرية الملاحة ــوخصوصًا في مضيق باب المندب الاستراتيجي ــ لا تزال بعيدة المنال. ويبدو أنَّ رغبةَ الدول الغربية في تخصيصِ أصولٍ عسكرية إضافية للمنطقة لتأمين طرق التجارة ضئيلة، وبخاصة في وقتٍ حيث من المرجح أن يتمَّ النظر في خطط عسكرية طارئة أخرى للصراع المُتصاعِد في المنطقة. وهذا يعني أنَّ الشحنَ التجاري من غير المرجح أن يعودَ إلى أنماطه الطبيعية في الأمد القريب.

على الصعيد الاقتصادي، فإنَّ مصر هي الخاسر الأكبر من هذا الوضع الطبيعي الجديد في البحر الأحمر، ولكن القاهرة تظلُّ عاجزة عن التأثير في الأحداث في المنطقة بمفردها.

وباعتبارها منطقة ذات أهمية استراتيجية للتجارة العالمية والأمن الإقليمي، فإنَّ منطقة القرن الأفريقي هي واحدة من الساحات الرئيسة التي تشهد صعود عالم متعدد الأقطاب. وبصرف النظر عن الموارد التي يمكنها توجيهها نحو تعزيز مكانتها هناك، فإن مصر تصل متأخّرة نسبيًا مُقارنةً بالقوى الخارجية الأخرى، وتحت وطأة ضغوط جيوسياسية واقتصادية. ومن غير المرجح أن يؤدي هذا إلى إثارة التفكير الواضح والتخطيط الاستراتيجي في القاهرة.

لسنوات، كانت الولايات المتحدة والصين وروسيا تهدف إلى توسيع وجودها في القرن الأفريقي. ولكن دول الخليج -وخصوصًا الإمارات العربية المتحدة، ولكن أيضًا المملكة العربية السعودية وحتى إيران- هي التي نجحت في تأمين الولاءات السياسية لتعزيز قبضتها على الموارد والأصول التجارية والمواقع العسكرية في المنطقة. كما تعمل تركيا على توسيع نفوذها العسكري والاقتصادي هناك.

وبدلًا من أن تتمكّنَ مصر من الاعتماد كليًا على جيشها في تشكيل الأحداث في منطقة القرن الأفريقي، فإنها سوف تضطر إلى التنقل عبر شبكاتٍ معقّدة من التحالفات الإقليمية المعاملاتية والمتناقضة في كثير من الأحيان، في وقت لا تملك سوى القليل من الأدوات الاقتصادية تحت تصرّفها بسبب أزماتها المالية والاقتصادية الخاصة.

تسعى القاهرة إلى تأمين النفوذ، لكن التأثير الذي قد يحدثه النفوذ العسكري المصري في منطقة القرن الأفريقي لا يزال غير مؤكد. والأمر الأكثر أهمية هو أن تعميق التدخل العسكري المصري في المنطقة قد يساعد على تأجيج التوترات بدون السماح للقاهرة بالضرورة بتأمين مصالحها.

  • فرانسيسكو سيرانو هو صحافي وكاتب ومحلل سياسي برتغالي. نَشر في العام 2022 أحدث كتبه بعنوان “أنقاض العقد” (As Ruínas da Década)، عن الشرق الأوسط في العقد الذي أعقب الثورات الشعبية في العام 2011.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى