“حزبُ الله” المُنهَك يخوضُ حربًا لم يَكُن يُرِيدُها أبدًا
خلف أخيرًا الشيخ نعيم قاسم السيد حسن نصرالله كأمينٍ عام ل”حزب الله” بعد أكثر من شهر على اغتياله، حيث تنتظر الزعيم الجديد مهمة صعبة وتداعيات حربٍ لم ينتظرها الحزب ولم يكن يريدها.
نيكولاس بلانفورد*
في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، بينما كانت إسرائيل تستيقظ وتتعافى من صدمة الهجمات القاتلة التي شنّتها حركة “حماس” في اليوم السابق، أطلق “حزب الله” قذائف هاون على مواقع إسرائيلية في منطقة مزارع شبعا الجبلية المحتلة على طول الحدود الجنوبية الشرقية للبنان. وأعلنَ بيانٌ ل”حزب الله” في حينه أنَّ الهجومَ كان بمثابةِ لَفتةِ دعمٍ وإسنادٍ لحليفته الفلسطينية “حماس”. وكان ذلك البداية لما أصبحَ جُهدًا مُستدامًا لمحاولةِ تخفيفِ الضغوطِ على “حماس” بينما تُواصِلُ إسرائيل حربها في غزة.
لكن بعد مرور عام، تورَّطَ “حزب الله” في حربٍ مُنهِكةٍ شهدت قيامَ إسرائيل بقطع رأس قيادته السياسية والعسكرية العليا، بينما خلّفت أكثر من 2,000 قتيل لبناني وتضرّرت بلدات وقرى كثيرة على طول الحدود بشكل كبير لدرجةٍ أنها أصبحت غير صالحة للسكن.
بغضِّ النظر عن كيفيةِ انتهاءِ الحرب الحالية، فإنَّ القرارَ المشؤوم الذي اتّخذه “حزب الله” ــإلى جانبِ قرارِ داعِمته إيران ــ بفَتحِ ما أسماه “جبهة إسناد” ل”حماس” في تشرين الأول (أكتوبر) 2023 سوف يبقى محفورًا في الذاكرة باعتباره أعظم خطَإٍ استراتيجي ارتكبها الحزب منذ وجوده قبل 42 عامًا.
عندما أطلقَ “حزب الله” قذائف الهاون الأولى، ربما توقّعت قيادته أن تنتهي الحرب في غزة في غضونِ أسابيع، كما حدث في الصراعات السابقة بين إسرائيل و”حماس”، أو في غضونِ شهرٍ أو شهرين على الأكثر. لم تَكُن ل”حزب الله” وإيران أيُّ مصلحةٍ في الانخراط في حربٍ شاملة مع إسرائيل كانت “حماس” تأمل في استفزازها وإشعالها. مع ذلك، فإنَّ الهجمات اليومية الصغيرة النطاق ضد مواقع الجيش الإسرائيلي على طولِ الحدودِ من شأنها أن تسمحَ ل”حزب الله” تلميعَ أوراقِ اعتماده ك”مقاومة” وإظهار نجاح نموذج “وحدة الساحات” الذي يربط المنظمة الشيعية بمجموعاتٍ مُسلّحة أخرى مدعومة من إيران في سوريا والعراق واليمن.
علاوةً، ربما حَسَبَ “حزب الله” واعتقدَ أنَّ الرَدعَ المُتبادَل الذي نشأ بين المجموعة وإسرائيل بعد حربهما في العام 2006، والذي سمح بسبعة عشر عامًا من الهدوء على طول الحدود اللبنانية-الإسرائيلية، من المُرجّح أن يصمد، مما يضمنُ عدم ردِّ فعلٍ مُفرط من إسرائيل على الضربات اليومية التي تشنّها المجموعة. ربما هذا الشعور بالثقة، الذي كان في غير محلّه، هو الذي شجّعَ قيادةَ الحزب على رَبطِ مصيرِ “جبهة الإسناد” بمصير الحرب في غزة، والإعلان أنه طالما استمرّت الحربُ في غزة، فإنَّ الضربات على طول الحدود اللبنانية-الإسرائيلية سوف تستمرُّ أيضًا. وبمجرّدِ انتهاء تلك الحرب، فإنَّ “حزب الله” سوف يوافق أيضًا على وقف إطلاق النار.
لقد كان ذلك خطأً فادحًا في التقدير، ومع مرور الأسابيع ثم الأشهر، أصبح “حزب الله” بلا وسيلةٍ لإنقاذِ ماءِ وجهه لإنهاء الأعمال العدائية المُتصاعدة على طول الحدود.
الإحباطُ في الصفوف
بحلول أوائل العام 2024، كان القتالُ امتدَّ بالفعل إلى ما هو أبعد من الخط الأزرق، وهو الاسم الذي أطلقته الأمم المتحدة على الحدود الجنوبية للبنان حيث تم نشر بعثة حفظ سلام أممية (يونيفيل) منذ العام 1978. كانت الطائرات الإسرائيلية تضرُبُ أهدافًا ل”حزب الله” في جميع أنحاء لبنان، حتى مع تَوَغُّلِ صواريخ الحزب في عُمق إسرائيل مع مرور كل أسبوع. فرَّ حوالي 90 ألفًا من سكان قرى الحدود في جنوب لبنان من العنف، كما فَرَّ أكثر من 60 ألف إسرائيلي من منازلهم في منطقة الجليل الشمالية.
ومن المُثيرِ للقلق بالنسبة إلى “حزب الله” أنَّ إسرائيل وجدت على ما يبدو طريقةً لتَعَقُّبِ وقتل كبار قادته الميدانيين. فقد قُتِلَ أحدهم، وسام الطويل، وهو قائد كبير في كتيبة النخبة “الرضوان” التابعة ل”حزب الله”، في 8 كانون الثاني (يناير)، عندما انفجرت قنبلة على جانبِ الطريق بجانب السيارة التي كان يستقلّها بالقرب من قريته “خربة سلم” في جنوب لبنان. وفي اليوم التالي، قُتِلَ قائدٌ ميداني كبير آخر وهو في طريقه لحضور جنازة الطويل.
في أوائل نيسان (أبريل) الفائت، أعربَ لي أحد أعضاء “حزب الله” المُخضرمين وصديق طويل عن إحباطه إزاء ما أسماه “حربًا عبثية”. وقال إنَّ الإسرائيليين يقتلون مقاتلي “حزب الله” ويُلحِقون أضرارًا جسيمة بالقرى الحدودية. في المقابل، كان “حزب الله” يُطلِقُ صواريخ قديمة غير مُوَجَّهة قصيرة المدى نسبيًا على إسرائيل والتي بالكاد كانت تترك أثرًا. وكان غضبهُ مُوَجَّهًا في المقام الأول إلى إيران. وقال: “لدينا أنظمة أسلحة قادرة على إلحاق الأذى الحقيقي بالعدو، لكنَّ الإيرانيين لم يسمحوا لنا باستخدامها”. وكان يشيرُ إلى ترسانةِ المجموعة من الصواريخ المُوَجَّهة بدقّة، والتي يبلغُ مدى بعضها ما يكفي لتغطية كامل أراضي إسرائيل، والتي تتمتع بالقوة اللازمة لحمل رؤوس حربية تزن 500 كيلوغرام، والدقة في ضرب أهدافها على بُعد 10 إلى 50 مترًا.
لم يَكُن من الصعبِ فَهم سبب اعتراض طهران. لم تكن إيران تُواجهُ أيَّ مشكلة، على الأقل في البداية، في فتح “حزب الله” “جبهة إسناد”. لكنها لم تكن ترغب في رؤيةِ أصولها الثمينة و”درّة تاجها” مُتورّطة في حربٍ كبرى مع إسرائيل. وباعتبارها عامل ردعٍ ل”حزب الله” وإيران ضد إسرائيل، كانت الصواريخ المُوَجَّهة الدقيقة أيضًا أسلحة الملاذ الأخير. لهذا السبب ظلّت مُحتَجَزة في ترسانات “حزب الله” العميقة تحت الأرض.
كان الشعورُ بالإحباط إزاءَ كيفية سير الصراع محسوسًا على نطاقٍ واسع بين أعضاء الحزب العاديين وأنصاره، وربما شعرت به قيادة الحزب أيضًا. فبدءًا من منتصف نيسان (أبريل)، صَعّدَ “حزب الله” من عمليّاته، فنفّذَ المزيد من الهجمات اليومية، وضرب أهدافًا عسكرية في عمق إسرائيل، واستخدم طائراته المُسَيَّرة الانتحارية على نحوٍ أكبر، والتي تمكّنت من التهرُّب من أنظمة الدفاع الصاروخي الإسرائيلية بشكلٍ أكثر فعالية.
لكن في السابع والعشرين من تموز (يوليو)، وخلال هجومٍ شنّه “حزب الله” على قاعدةٍ للجيش الإسرائيلي في مرتفعات الجولان الشمالية، سقط صاروخٌ برأسٍ حربي يزن 50 كيلوغرامًا على ملعبٍ لكرة القدم في قرية مجدل شمس الدرزية، ما أسفر عن مقتل 12 طفلًا ومُراهقًا وإصابة 19 آخرين. ونفى “حزب الله” إطلاق الصاروخ، رُغم أنه اعترف بالهجوم على القاعدة العسكرية القريبة. ومن المرجح أن يكونَ ذلك خطأ في الاستهداف. مع ذلك، حذّرت إسرائيل من أنَّ “حزب الله” “سيدفعُ ثمنًا باهظًا، وهو ثمنٌ لم يدفعه من قبل”.
في الثلاثين من تموز (يوليو)، جاءَ ردُّ إسرائيل باغتيال فؤاد شكر، القائد العسكري الأعلى ل”حزب الله”، في ضربةٍ صاروخية على مبنى في الضاحية الجنوبية لبيروت. وخلال خطابٍ ألقاه في جنازة شكر في الأول من آب (أغسطس)، تعهّدَ زعيم “حزب الله” آنذاك السيد حسن نصر الله “بردٍّ حقيقي ومدروس بالكامل” على قتل القائد. مع ذلك، استغرقَ الأمرُ أكثر من ثلاثةِ أسابيع حتى ردَّ “حزب الله”. وشهد الهجوم، عندما وقع في الخامس والعشرين من أب (أغسطس)، إطلاقَ 340 صاروخ غراد عيار 122 ملم وعدد غير محدد من الطائرات المُسَيَّرة على قواعد عسكرية في شمال إسرائيل. وزعمت إسرائيل أنها أسقطت جميع الطائرات المُسَيَّرة ولم تبلغ عن وقوع إصابات، فيما اعتبره العديد من أنصار “حزب الله” ردًّا مُخَيِّبًا للآمال على اغتيال مثل هذا العضو المُهم في المجموعة.
ضربةٌ تلوَ الأخرى
في هذه اللحظة، ربما كانت الحكومة الإسرائيلية قد استنتجت أنَّ إيران و”حزب الله” كانا يائسَين حقًّا لتجنُّبِ حربٍ كبرى وأن تردّدهما أتاحَ الفرصة لتصعيدِ العمليات في لبنان لإضعاف المنظّمة الشيعية بشكلٍ أكبر. وعلى مدى الأسابيع الثلاثة التالية، زادت إسرائيل من عدد وشدة الضربات الجوية في جنوب لبنان، فضربت أهدافًا مُتعدّدة في طلعاتٍ واحدة. ثم في فترة ما بعد الظهر من يوم 16 أيلول (سبتمبر)، انفجرت آلاف أجهزة “النداء” (Pager) التي يستخدمها أعضاء “حزب الله” ـ لتجنُّبِ الهواتف المحمولة التي يُسهِل تعقّبهاـ مما أسفر عن مقتل 12 شخصًا وإصابة نحو 3,000 آخرين. وفي اليوم التالي، وقعت موجةٌ ثانية من الانفجارات، استهدفت هذه المرة أجهزة الاتصال اللاسلكي التي تستخدمها الجماعة، مما أسفر عن مقتل 20 شخصًا وإصابة 450 آخرين. وكان الهجومان نتيجةً لعملياتٍ إسرائيلية مُتَطوّرة لتفخيخ الأجهزة.
وفي 20 أيلول (سبتمبر)، استغلّت إسرائيل الفوضى بين صفوف “حزب الله”، فقصفت مبنى في الضاحية الجنوبية لبيروت، والذي أسفر عن مقتل القائد المخضرم إبراهيم عقل، قائد كتيبة “الرضوان” ورئيس عمليات “حزب الله”، فضلًا عن 11 ضابطًا كبيرًا آخرين من الحزب. وبعد ثلاثة أيام، شنّت إسرائيل عملية “السهم الشمالي”، وهي سلسلةٌ ضخمة من الضربات الجوية ضدّ أهداف “حزب الله” في جميع أنحاء جنوب لبنان ووادي البقاع، حيث أفادت التقارير بضرب 1,600 هدف في اليوم الأول. وقُتل ما يقرب من 500 شخص في لبنان في أول 24 ساعة من الغارات، وهي أكبر خسارة في الأرواح في البلاد في يومٍ واحد منذ الحرب الأهلية التي دارت رحاها بين العامين 1975 و1990.
لكنَّ الضربات استمرّت. ففي مساء يوم 27 أيلول (سبتمبر)، ألقت إسرائيل 80 قنبلة خارقة للتحصينات على ما قالت إنه مقر قيادة “حزب الله” تحت الأرض، مما أسفر عن مقتل نصر الله ومسؤولين كبار آخرين كانوا يعقدون اجتماعًا هناك. وفي اليوم التالي، قُتل الشيخ نبيل قاووق، نائب رئيس المجلس التنفيذي للحزب، في غارة جوية أخرى. وفي الرابع من تشرين الأول (أكتوبر)، قصفت إسرائيل ما قالت إنه مقر استخبارات “حزب الله” في جنوب بيروت. وكان هدف الهجوم السيد هاشم صفي الدين، وهو مسؤولٌ كبير في “حزب الله” كان من المتوقع أن يكون خليفة نصر الله. وفي الأسبوع الفائت فقط، أكّدَ “حزب الله” أنَّ صفي الدين قد قُتل بالفعل في الضربة.
لكنَّ الضربات الإسرائيلية لم تَعُد تقتصرُ على الجو. ففي الأول من تشرين الأول (أكتوبر)، عبرت القوات البرية الإسرائيلية إلى لبنان لأول مرة منذ 18 عامًا لشنِّ سلسلةٍ من الغارات المستهدفة ضد البنية التحتية العسكرية ل”حزب الله” على طول الحدود اللبنانية-الإسرائيلية. والهدفُ المُعلَن لإسرائيل هو السماح لستين ألف نازح إسرائيلي تمَّ إجلاؤهم من الشمال بالعودة إلى ديارهم. ولتحقيق هذه الغاية، تُريدُ إسرائيل تدمير المخابئ والأنفاق ومستودعات الأسلحة والبنية الأساسية الأخرى التي يمكن ل”حزب الله” استخدامها لشنِّ هجماتٍ صاروخية، وشَنِّ توغُّلٍ في شمال إسرائيل على غرار هجوم “حماس” في تشرين الأول (أكتوبر) 2023 واختطاف جنديين إسرائيليين عبر الحدود والذي أشعل فتيل حرب 2006. كما وردت تقاريرٌ عن تفجيرِ أحياءٍ بأكملها في بلدات وقرى حدودية في ما يبدو أنه خطةٌ لإنشاء شريط خالٍ من السكان من الأراضي اللبنانية التي ستُعاملها إسرائيل كمنطقةِ إطلاقِ نارٍ حرّة.
إنَّ مقاتلي “حزب الله” على الأرض يواجهون الآن القوات الإسرائيلية من خلال الكمائن القريبة واستخدام الذخائر البعيدة مثل قذائف الهاون والصواريخ المضادة للدبابات. ومنذ دخول الإسرائيليين إلى لبنان، زاد “حزب الله” أيضًا من معدل الهجمات الصاروخية على إسرائيل وبدأ استخدامَ بعض صواريخه الموجهة بدقة، وإن كان بأعدادٍ صغيرة، لاستهداف القواعد العسكرية حتى مشارف تل أبيب.
الاختراق الاستخباراتي
من أهمِّ النتائج التي يُمكنُ استخلاصها في هذه المرحلة من الصراع أنه من الواضح الآن أنَّ “حزب الله” قد تمَّ اختراقه تمامًا من قبل الاستخبارات الإسرائيلية. في وقتٍ سابق من هذا العام، في محادثاتٍ مع أعضاء “حزب الله” وأنصاره، كان هناك شعورٌ بالقلق يقترب من “البارانويا” بشأن كيفية تَمَكُّنِ الإسرائيليين من تعقُّبِ وقتلِ كبار القادة الميدانيين، بمَن فيهم قائدين من التشكيلات القتالية الرئيسة للمجموعة. إنَّ تفجيرَ أجهزة النداء واللاسلكي الذي أعقبته موجة الاغتيالات في نهاية أيلول (سبتمبر) والتي قطعت رؤوس القيادة السياسية والعسكرية أمرٌ غير مسبوق منذ وجود “حزب الله”.
ولعلَّ السبب الرئيس وراء قدرة الاستخبارات الإسرائيلية على شقِّ طريقها داخل “حزب الله” هو أنَّ المنظمة الشيعية نمت بشكلٍ كبير وسريع للغاية بعد حرب 2006، وهو ما لم يكن في صالحها. ففي تسعينيات القرن العشرين، أثناء احتلال إسرائيل لجنوب لبنان، كان “حزب الله” منيعًا تقريبًا أمام الاستخبارات الإسرائيلية. وكان حجمُ المنظّمة أصغر كثيرًا في تلك الأيام، إذ لم يتجاوز عدد مقاتليها بدوامٍ جُزئي وكامل ثلاثة آلاف إلى خمسة آلاف مقاتل، وكان هناكَ شعورٌ عميق بالأمن الداخلي بين جميع كوادرها.
ظلَّ “حزب الله” على القوة نفسها حتى حرب 2006، وبعدها قام بحملةِ تجنيدٍ مفاجئة وواسعة النطاق، فرفع عدده إلى عشرات الآلاف. وفي خطابٍ ألقاه في العام 2023، تَفاخَرَ نصر الله بأنَّ القوة القتالية ل”حزب الله” وصلت إلى 100 ألف مقاتل. وربما كان هذ االادعاء حسب بعض المتابعين مُبالغًا فيه، ولكن الرقم يمكن أن يصل واقعيًا إلى 60 ألف أو 70 ألف مقاتل.
كان هناك سببان رئيسان لحملة التجنيد. الأول هو تعزيز “حزب الله” تحسُّبًا لجولةٍ ثانية من القتال عالي الكثافة مع إسرائيل، نظرًا للنتائج غير الحاسمة لحرب 2006. والثاني يتعلّقُ بالديناميكيات السياسية السائدة في لبنان في ذلك الوقت. كانت البلاد مُنقَسمة بين كتلتين برلمانيتين، واحدة يدعمها الغرب والأخرى يقودها “حزب الله” وتدعمها سوريا وإيران. ساعدَ تجنيدُ عشرات الآلاف من المقاتلين في صفوف “حزب الله” على تعزيز موقفه السياسي المحلي من خلال ربط المزيد من الناس -وعائلاتهم- بالحزب. ولم يكن “حزب الله” في حاجةٍ إلى ستين ألف مقاتل لخوضِ حربٍ مع إسرائيل، ولا حتى لتدخّله في سوريا بعد العام 2012 لإنقاذِ نظام الرئيس بشار الأسد. ففي العام 2006، عندما كان حجمه أصغر كثيرًا، لم يكن يقاتل على الخطوط الأمامية في جنوب لبنان سوى بضع مئات من المقاتلين.
علاوةً على ذلك، تمَّ تخفيضُ المعايير العالية التقليدية لعملية التجنيد والتوجيه في الحزب بعد العام 2006. وكان هذا هو الحال بشكلٍ خاص بالنسبة إلى المتطوّعين للقتال في سوريا، حيث انجذب العديد منهم إلى المجموعة بسبب الرواتب التي تُقدّمها وليس بسبب أيِّ تقاربٍ إيديولوجي. تمَّ إعطاءُ هؤلاء المجنّدين شهرًا من التدريب الأساسي في معسكراتٍ في وادي البقاع قبل نشرهم في ساحات المعارك الدموية في سوريا. وبمجرّد وصولهم إلى هناك، خضعَ كلُّ مقاتلٍ لعمليةِ اختيار داروينية حيث قُتِلَ غير المحظوظين وغير الأكفاء، في حين نجا المحظوظون والأكثر مهارةً وتعلّموا.
أدّى هذا المزيج من التوسّع السريع في الأعداد والتحقّق الأقل صرامةً من المجنّدين إلى ظهورِ شقوقٍ في أمن الحزب المُحكَم سابقًا. وإضافةً إلى المشكلة، بدأ الفساد يتجذّر وينخر في “حزب الله” منذ حوالي العام 2008، مما وَفّرَ نقطةَ دخولٍ أخرى لأجهزة الاستخبارات المُعادية للتسلُّل إلى الحزب. علاوةً على ذلك، أضاف الانهيار الاقتصادي في لبنان في العام 2019، والذي خسر فيه كثيرٌ من الناس مدّخرات حياتهم، حافزًا ماليًا آخر للتعاون مع الإسرائيليين. إنَّ قدرةَ الإسرائيليين على العثور وقتل ليس فقط كبار القادة الميدانيين، ولكن كبار قادة “حزب الله”، فضلًا عن استهداف وتدمير مرافق تخزين الأسلحة التابعة له في جميع أنحاء لبنان، تشيرُ إلى أنَّ الاختراقَ الاستخباراتي وصلَ إلى مستوياتٍ عُليا داخل الحزب ويعملُ بقدرةٍ في الوقت الفعلي. وبصرفِ النظر عن مدى كفاءة ونجاح “حزب الله” في مواجهة إسرائيل في الصراع الحالي، فإنَّ الاختراقَ الاستخباراتي لصفوف الحزب يُشكّلُ ثغرةً خطيرة سيكون من الصعب عكسها.
التطلُّع إلى المستقبل
في هذه المرحلة المُبكرة من الصراع، لم تبدأ المفاوضات لإنهاء الحرب على نحوٍ جدّيٍ بعد. والحكومة الإسرائيلية في مزاجٍ انتصاري وتواصل قصف أهداف “حزب الله” في مختلف أنحاء لبنان وتُعلن أنها في صدد تدمير عدوها القديم. لكن “حزب الله” هو منظّمة مرنة ومنظَّمة لا تعتمد على شخصيةٍ واحدة أو مجموعةٍ صغيرة من القادة. ويبدو أنها تعمل بطريقةٍ متماسكة في ساحات المعارك في جنوب لبنان، وتُحافظ على تدفُّقٍ ثابت من الصواريخ التي تطلقها على إسرائيل كل يوم وتشتبك مع القوات الإسرائيلية على الأرض. وتظل الروح المعنوية للمقاتلين مرتفعة، إلى الحد الذي يجعل بعضهم يرفض الاستجابة للأوامر بالانسحاب من القرى الواقعة على الخطوط الأمامية حيث يعيش، ويفضل البقاء والقتال حتى الموت.
ربما تكون استراتيجية “حزب الله” مماثلة لاستراتيجية حرب 2006: اللعب على الوقت وحرمان الحكومة الإسرائيلية من هدفها المتمثّل في إعادة النازحين إلى الشمال من خلال الاستمرار في إطلاق الصواريخ عبر الحدود. لقد تسببت الضربات التي تَعرَّض لها “حزب الله” في الأسابيع الستة الماضية وفقدانه للكثير من قياداته في دفع البعض إلى الاعتقاد بأنَّ هذه اللحظة مناسبة للبدء في التصدي لنفوذ الحزب المتغلغل في لبنان. وفي حين يميل اللبنانيون إلى التوحُّد أثناء أوقات الحرب مع إسرائيل، أو على الأقل يكتمون انتقاداتهم، فإنَّ يومَ الحساب قد يأتي بمجرّد انتهاء الصراع.
في العام 2006، كان الدمارُ الذي ألحقته إسرائيل بالبلاد شديدًا إلى الحدِّ الذي دفع نصر الله إلى الاعتذار للأمة، بل وذهب إلى حد التصريح بأنه لو كان يعلم مُسبَقًا إلى أيِّ مدى ستذهب إسرائيل في ردها، لما نفذ “حزب الله” الغارة عبر الحدود التي أشعلت فتيل الصراع. ولن يجد أيُّ اعتذار آخر هذه المرة آذانًا صاغية. ولن يشكرَ سوى قِلة من اللبنانيين “حزب الله” على إشعال فتيل الصراع الذي ألحق أضرارًا مادية جسيمة بالبلاد، التي تعاني أصلًا من أزمة اقتصادية مُنهِكة. لكن من غير المرجح أن تؤدي الحرب إلى إضعاف “حزب الله” إلى الحد الذي يجعله عُرضةً لخطر خصومه المحليين.
إنَّ “حزب الله” إذا شعر بأنَّ خصومه السياسيين يحشدون ضده، فقد يتفاعل بالعنف كما فعل في الماضي. ومن المؤكّد أنَّ هذا من شأنه أيضًا أن يؤدّي إلى تفاقُم التوتّرات الطائفية بسبب الاعتقاد بأنَّ الطائفة الشيعية هي التي تتعرّض للهجوم، وليس “حزب الله” وحده. وسوف يعتمد الكثير على نتائج الحرب، التي لا تزال لديها القدرة على التحوّل إلى حريقٍ إقليمي يجتذب إيران. ومن المرجح أن ينجو “حزب الله”، ولكن في حالةٍ من الضعف سوف تُخلّفُ عواقب مهمة، وإن كانت غير مؤكدة، على لبنان.
- نيكولاس بلانفورد هو مستشار أمني مقيم في بيروت وزميل غير مقيم كبير في برامج الشرق الأوسط في المجلس الأطلسي. وهو مؤلف كتاب “محاربو الله: داخل صراع حزب الله الذي دام ثلاثين عاماً ضد إسرائيل” (2011) و”قتل سيد لبنان: اغتيال رفيق الحريري وتأثيره على الشرق الأوسط” (2006). وهو يعيش في بيروت منذ العام 1994.
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.