التعافي الاقتصادي العالمي: هدوءٌ على السَطحِ واضطرابٌ تحتهُ

مع تراجُعِ التضخُّم واستقرار النمو، تُتاحُ لصنّاع السياسات في جميع أنحاء العالم الفرصة لمُعالجة العقبات الأكثر تجذّرًا التي تَحولُ دونَ النموِّ بقوة.

الإقتصاد الأميركي: عاد إلى طبيعته ليقود العالم.

إسوار براساد وكارولين سميلتنيكس*

يبدو الاقتصادُ العالمي هادئًا، مع انخفاضِ التضخُّمِ ونموٍّ مُتجدّد بشكلٍ متواضع، لكن تحت السطح هناك الكثير من الاضطرابات والعديد من المخاوف المتصاعدة. يُظهر آخر تحديث لمؤشرات “بروكينغز-أف تي تايغر” (Brookings-FT Tiger) أنَّ النموَّ العالمي يكتسبُ زخمًا، إلّا أنَّ هذا النمو لا يزالُ ضعيفًا ومُتقطّعًا ومدفوعًا بشكلٍ أساس بالأداءِ القوي المستمر للاقتصاد الأميركي. ثقةُ الشركات والمُستَهلِكين تبدو هشّة في جميع أنحاء العالم، الأمرُ الذي يعكسُ آفاقًا اقتصادية هشّة وعدمَ يقينٍ سياسي في العديد من البلدان، فضلًا عن عدمِ استقرارٍ جيوسياسي مُتفاقم في العديد من النقاط الساخنة.

يتعلّقُ أحدُ أوجه الخلل أو الإنفصال في الاقتصاد العالمي بالتفاوتات الواسعة في زخم النموِّ وآفاقه. الاقتصادان الأميركي والهندي في حالة جيدة للغاية. لكنَّ غالبيةَ الاقتصاداتِ المُتقدّمة الأخرى والعديد من اقتصادات الأسواق الناشئة، بما في ذلك الصين، غارقةٌ في الركود وما زالت مُقيَّدةً بأعباءِ الديون المُتزايدة وصُنعِ السياساتِ غير المدروس. ومن بين أوجُهِ الخَلَل الأخرى أنَّ الظروفَ المالية تحسّنت وأداءَ أسواقِ الأسهُم كان طَيِّبًا حتى في بعضِ البلدان الذي يُعاني من ضعفِ آفاقِ النمو في حين تراجعت ثقة القطاع الخاص على نطاقٍ واسع. وقد يكونُ هذا الخلل نتيجةً للسياسة النقدية المُتساهِلة في حين بقيت الإصلاحات العميقة الجذور بعيدةَ المنال.

إنَّ الهبوطَ الناعم للإقتصاد في الولايات المتحدة أصبح واضحًا الآن، حيث يتراجعُ التضخُّمُ تدريجًا حتى مع بقاءِ الطلبِ المحلّي وسوق العمل قويين. كما إنَّ الزياداتَ القوية في التوظيفِ والأجور، وارتفاعَ سوق الأوراق المالية الذي يُنبئُ بأرباحٍ صحّية للشركات، يُبشّران بالخير للنموِّ المُستدام. ويتمتّع بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي بمساحةٍ للمُناوَرة وهو في طريقه إلى الحفاظ على مسارٍ تدريجي مُعتَدِل لخَفضِ أسعارِ الفائدة. ومن اللافت أنَّ ثقةَ المُستهلك تدهورت على الرُغم من كلِّ هذه الأخبار الإيجابية، مما يشيرُ إلى عدم الرضا عن حالةِ الاقتصاد حيث أصبح هذا الواقع قضيةً رئيسة للانتخابات المقبلة. إنَّ ارتفاعَ نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهي المشكلة التي لن تؤدّي برامج الانتخابات التي ينتهجها كلٌّ من الحزبين السياسيين إلّا إلى تفاقمها بدلًا من السيطرة عليها، يُشكّلُ خطرًا متزايدًا على استقرارِ الاقتصاد الأميركي الكُلّي.

أما اقتصاداتُ منطقة اليورو الأساسية، وخصوصًا ألمانيا وفرنسا، فهي في حالةِ ركودٍ في حين كان أداءُ بُلدانٍ في جنوب أوروبا، مثل إسبانيا واليونان، أفضل. لقد أصبح الاقتصاد الألماني عالقًا في وَضعٍ مُحايد، حيث غرقَ في تكاليف الطاقة المُرتفعة، والبُنية الأساسية الصناعية المُتهالكة، والإنتاجية الراكدة، والمُنافسة التصديرية المتزايدة من الصين. وتواجه فرنسا مشاكلَ مالية حادة تُنذرُ بمزيدٍ من عدم الاستقرار الاقتصادي والسياسي. فقد أجبرَ النموُّ الضعيف وانخفاضُ التضخُّم في مؤشّر أسعار المستهلك البنك المركزي الأوروبي على خفض أسعار الفائدة، على الرُغم من أنَّ التضخّمَ في قطاعِ الخدمات ونموَّ الأجور ظلّا مُرتفعَين على نحوٍ ثابت.

على الرُغم من تراجع الاستثمار التجاري وضُعف نموِّ الإنتاجية، يبدو أنَّ اقتصادَ المملكة المتحدة اكتسبَ بعضَ الزخم، بدعمٍ من السياسة النقدية الأكثر مرونة وعلى الرُغم من المشاكل المالية التي تلوحُ في الأفق. وفي قطيعةٍ مع نظرائه، رَفعَ بنك اليابان أسعار الفائدة لدعمِ الين الياباني وكبحِ جماحِ التضخُّم المتزايد، ولكن هذا قد لا يفعل الكثير لتشجيعِ الاستهلاك الأُسَري.

من جهته، تلقّى الاقتصادُ المُتعثّر في الصين، كما أسواق العقارات والأسهم فيها، دفعةً من التحفيز النقدي والمالي، بالإضافة إلى التدابير الرامية إلى دَعمِ أسعار العقارات والموازنات العمومية للبنوك الصينية. مع ذلك، من غير المرجح أن تكونَ هذه التدابير كافيةً للتغلُّبِ على الضغوطِ الانكماشية الناشئة عن ضُعفِ الطلب المحلي. ويظلُّ استهلاكُ الأُسَر والاستثمار التجاري الخاص فاترًا، حيث تلقّت ثقة القطاع الخاص ضربةً قوية بسبب الافتقار إلى اتجاهٍ سياسي واضح من الحكومة. إنَّ الجمعَ بين تدابير السياسة المالية الإضافية المُستَهدفة بشكلٍ جيد –بما في ذلك دعم الدخل للأُسَر، وخفض الضرائب، وإعادة هيكلة العلاقات المالية بين المركز والمقاطعات- جنبًا إلى جنب مع الإصلاحات الأكثر جوهرية لإحياءِ نموِّ الإنتاجية واستعادة ثقة الأعمال التجارية الخاصة، أمرٌ ضروري لإعادة الاقتصاد إلى المسارِ الصحيح.

في الهند، كان النموُّ مُثيرًا للإعجاب، بدعمٍ من الاستثمار في البنية الأساسية العامة والنموّ القوي في قطاعَي التصنيع والخدمات عاليَي القيمة. كما عوَّضت زيادةُ الإنفاق الاستهلاكي والموازنات العمومية السليمة للبنوك الرياحَ المُعاكِسة الناجمة عن ارتفاعِ التضخّم وأداءِ القطاع الزراعي الضعيف. وظلّت السياسة النقدية والمالية مُنضبطة، مما عزّزَ الأسواق المالية. ومن المرجح أن تستفيدَ الهند من انخفاضِ أسعار الفائدة العالمية، وهو ما قد يُحفّز المزيد من تدفّقات رأس المال، والتيارات الجيوسياسية التي عزّزت اندماجها في سلاسل التوريد العالمية كبديلٍ من الصين.

وتستمرُّ إندونيسيا، بدعمٍ من إطارٍ سياسي قوي يجذبِ المستثمرين الأجانب، في تحقيقِ أداءٍ ثابت. كما إنَّ اقتصاد روسيا وأسواقها المالية قد صمدا بشكلٍ جيد على الرُغم من العقوبات الغربية الناجمة عن غزوها لأوكرانيا، على الرُغم من أنَّ الحربَ من شأنها أن تُقلّلَ من إمكانات النموِّ الاقتصادي في الأمد البعيد. ويبدو أن البرازيل والمكسيك على المسار الصحيح لتسجيل نموٍّ صحّي. ويظلُّ العديدُ من الاقتصادات الأخرى في أميركا اللاتينية مُقَيَّدًا بعجزٍ كبير في الموازنة، وأعباءِ ديونٍ غير مستدامة، وتقلُّبِ أسعارِ الصرف، والتباطؤ في الصين، وهي وجهةٌ رئيسة للصادرات من المنطقة.

مع تراجُعِ التضخُّم واستقرار النمو، تُتاحُ لصنّاع السياسات في جميع أنحاء العالم الفرصة لمُعالجة العقبات الأكثر تجذّرًا التي تَحولُ دونَ النموِّ بقوة. وتحتاج الحكومات إلى وَضعِ المالية العامة تحت السيطرة مع اتخاذِ خطواتٍ لتجديدِ ثقة الأُسر والشركات. وتُشكّلُ الأُطُر السياسية الواضحة لتعزيزِ نموِّ الإنتاجية والدفعة الأولى في شكلِ خطواتٍ ملموسة لتحسينِ أداءِ أسواقِ العمل والمُنتجات والأسواق المالية أمرًا ضروريًا لتنشيط وإعادة التوازن إلى النموِّ في جميع أنحاء العالم.

  • إِسوار براساد هو أستاذ أول في سياسة التجارة وأستاذ الاقتصاد في جامعة كورنيل. وهو أيضًا زميل أول في مؤسسة بروكينغز، حيث يشغل كرسي القرن الجديد في التجارة الدولية والاقتصاد، وباحث مشارك في المكتب الوطني للبحوث الاقتصادية. وهو رئيس سابق لقسم الصين في صندوق النقد الدولي.
  • كارولين سميلتنيكس طالبة جامعية في الاقتصاد في جامعة كورنيل.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى