لبنان أمامَ احتمالاتٍ صعبةٍ وخَطِرة

الدكتور سعود المولى*

منذ فجر الأول من تشرين الأول (أكتوبر) 2024 بدأ الهجوم الإسرائيلي البرّي على لبنان، مُترافقًا مع استمرار غارات التدمير والقتل والاغتيالات في الضاحية الجنوبية وبيروت وفي الجنوب والبقاع وصولًا إلى جبل لبنان والشمال والمخيمات الفلسطينية. واستمرَّ الصمتُ العربي والدولي على ما يجري في لبنان، ناهيك عن الإبادة الجماعية في غزة . وأعلنت أميركا (ومعظم أوروبا إلى حد كبير) عن معارضة توسيع الحرب في لبنان، مع الموافقة على ضرب “حزب الله” وإنهاء وجوده.

ويعمل نتياهو وفريقه على خلقِ أمرٍ واقعٍ جديد يفرض من خلاله شروطه التي تدرجت من المطالبة بتنفيذ القرار 1701 وانسحاب “حزب الله” إلى شمال نهر اليطاني، إلى المطالبة بالانسحاب إلى ما وراء نهر الأولي (منطقة صيدا)، وصولًا إلى الكلام عن القضاء على الحزب تمامًا وتغيير خارطة الشرق الأوسط.

في المقابل ظهرت قدرة “حزب الله” في التصدّي للاجتياح، على الرُغم من كلِّ الضربات والنكسات التي أصابته. وفي الوقت نفسه لا تزال احتمالاتُ قيام إسرائيل بضربةٍ عسكرية ضد إيران قائمة وتتأرجح في أروقة القرار الصهيوني، في حين يبدو أنَّ أميركا وأوروبا لا تعارضانها بل تُشجّعان على ضرب المنشآت العسكرية والاقتصادية الحيوية فحسب، والخلاف هو حول ضرب البرنامج النووي وتحديد معنى المنشآت الحيوية. لا بل أنَّ مسؤولًا إسرائيليًا رفيعًا أعلن أنَّ الفجوات بين الولايات المتحدة وإسرائيل بشأن طبيعة ونطاق الهجوم قد تقلّصت. كما قالت وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) إنها تناقش مع الإسرائيليين خطواتهم المقبلة…

والحال أنَّ المبادرة هي اليوم في يد نتنياهو… الذي يستفيدُ من ضعفِ الإدارة الأميركية الحالية وعجزها عن القيام بأيِّ خطوة قبيل الانتخابات الرئاسية، ناهيك عن دعم الوزير أنتوني بلينكن وجماعته له ، وموقف دونالد ترامب المؤيّد أصلًا للحرب وللانتهاء من إيران وحلفائها.

وأميركا هي  الطرف الذي يملك أكثر الأوراق الضاغطة لوقف إطلاق النار، لو أرادت ذلك، من وقف الإمداد بالمال والأسلحة إلى عدم استخدام حق النقض في مجلس الأمن. لا بل أنَّ بعضَ الرسائل التي وردت إلى لبنان من واشنطن ينقلُ أنَّ ما كان معروضًا على صعيد الحل الديبلوماسي قد انتهى، وأنَّ الحاصلَ الآن وقائع جديدة على الأرض لا بد من انتظار مفاعيلها ونتائجها.

وقد كشفَ مسؤولون أميركيون وعرب مُطَّلعون، بحسب ما ذكرت صحيفة “وول ستريت جورنال” في عدد 10 تشرين الأول (أكتوبر) 2024، أنَّ إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن تدفع نحو استخدام هجوم إسرائيل على “حزب الله” كفرصةٍ لإنهاءِ “هيمنته” التي استمرّت لفترة طويلة. وقالت الصحيفة إنَّ المبعوث الخاص آموس هوكستين أبلغ مسؤولين عربًا أن إضعاف “حزب الله” جرّاء الهجمات الإسرائيلية يجب أن يُنظَرَ إليه على أنه فرصةٌ لكسرِ الجمود السياسي في لبنان. ولفتت “وول ستريت جورنال” إلى أن مسؤولين مصريين وقطريين أبلغوا مسؤولين أميركيين بأنهم يعتبرون هذه الخطة الأميركية غير واقعية بل وخطيرة. كما رَؤوا أنَّ إسرائيل لن تنجح أبدًا في تدمير “حزب الله” بشكلٍ تام، لافتين إلى أنه لا بدَّ للحزب أن يكون جُزءًا من أيِّ تسويةٍ سياسية للصراع.

هذا الوضعُ أعادَ تسليط الأضواء على النداء الذي صدر عن الاجتماع الثلاثي في عين التينة (الرئيسان نبيه برّي ونجيب ميقاتي، ووليد جنبلاط)، الذي يمكن اعتباره محاولة داخلية جدية لإيجادِ نقطة ارتكاز لوفاقٍ وطني يمنع العدو من استغلال الوضع العسكري لإحداثِ انقلابٍ سياسي قد يؤدي إلى عودة النزاعات المسلحة والحرب الأهلية.

لقد ساد اعتقادٌ بعد البيان الثلاثي أنَّ الرئيس بري سيمضي في تنفيذ الرؤية التي توافق عليها الزعماء والتي تلقى قبولًا وطنيًا ومسيحيًا عامًا ناهيك عن الترحيب الدولي. وهذا التوقع عززه الاتصال الهاتفي بين الرئيس بري والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ، والاتصال بينه وبين وزير الخارجية الأمريكي بلينكن.  وقد تعزّز الموقف اللبناني المُوَحَّد في سلسلةٍ من المواقف صدرت عن الرئيس فؤاد السنيورة  وعن الحزب التقدمي الاشتراكي و”القوات اللبنانية” وحزب “الكتائب” و”التيار الوطني الحر”، وبلغت منتهاها في البيان الصادر عن القمة الروحية الجامعة التي انعقدت في بكركي يوم الأربعاء في 16 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري، وقد أجمعت كل هذه المواقف على ضرورة وقف إطلاق النار فورًا لتمكين الجيش والحكومة من تطبيق القرار 1701.

كما إن رئيس مجلس النواب نبيه بري أعاد التأكيد على تفويض “حزب الله” له في المفاوضات السياسية، وعلى التمسّك اللبناني بالثوابت التي أُقِرّت خلال اللقاء الثلاثي. ولخّص بري المواقف الدولية من مساعي وقف الحرب قائلًا: “الفرنسيون ما زالوا معنا في الموقف، وكذلك البريطانيون. أما الأميركيون فيقولون إنهم معنا، لكنهم لا يفعلون شيئًا لوقف العدوان”.  وقد اعتبر المراقبون أنَّ النقاش العربي والدولي يتمحور حول إجراءات تطبيق القرار رقم 1701، وترتيبات انتخاب رئيس “توافقي” للجمهورية… خصوصًا مع صدور قرار دولي جديد عن مجلس الأمن دعا “إلى التنفيذ الكامل لقراره رقم 1701″، وأكد على “الحاجة إلى اتخاذ المزيد من التدابير العملية لتحقيق هذه النتيجة”. لكن زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي ثم رئيس البرلمان محمد باقر قاليباف إلى لبنان وتصريحاتهما باستمرار الدعم ل”حزب الله”، وأنه لا فصلَ لجبهة الجنوب عن غزة، أشارتا إلى تردد الإيرانيين أو تمهلهم في تظهير موقفهم النهائي. عزز من هذا التردد والتمهل تأخر الضربة الإسرائيلية المتوقعة ضد إيران ، ونجاح “حزب الله” في ضربات قاسية في حيفا وتل أبيب، وصمود مقاومته على الحدود. وبالتالي فقد ظهر أنَّ الإيرانيين يضبطون حركتهم وحركة حلفائهم بدقة وصبر، خصوصًا على أبواب الانتخابات الأميركية، فلا يفرِطون في استعجال التسوية ولا يفرّطون بأوراقهم؛ خصوصًا أنَّ إسرائيل لا تخفي نيتها الفعلية في سحق “حماس” و”حزب الله” نهائيًا في غزة ولبنان على السواء، وضرب إيران بقوة.

غير أنَّ ما يمنع أو يؤجّل الضربة الإسرائيلية ضد إيران هو خوف أميركا وأوروبا من أن يؤدي ذلك إلى حربٍ طويلة غير معروفة النتائج، ويمكن أن تتأثر بها دولٌ حليفة، ناهيك عن أنها تُهدّد الاقتصاد العالمي وأسعار النفط وممرات التجارة العالمية. والرئيس بايدن ونائبته كامالا هاريس (المرشحة الرئاسية عن الحزب الديموقراطي) وفريقهما يخشون من أن تؤدّي الضربة الإسرائيلية إلى الإضرار بحملتهم الانتخابية خصوصًا في الولايات التي يؤثر فيها الصوت العربي والإسلامي مثل ميشيغان.

وهكذا يجد اللبنانيون أنفسهم اليوم أمامَ خيارٍ من إثنين: الاجتياح البري الموسّع، في مشهدٍ يشبه مشهد الغزو الإسرائيلي للبنان في العام 1982، وبالأقل استكمال عمليات التدمير والتهجير والاغتيال تمهيدًا لإنشاء حزام أمني شبيه بحزام ما قبل العام 2000؛ أو التسليم الرسمي والشعبي بالشروط الدولية المفروضة، والتي تدعو إلى تطبيق القرار 1559 وليس مجرد تطبيق القرار 1701.  يفترض هذا إنهاك “حزب الله” في منطقة الليطاني ونزع سلاحه وإبعاده إن لم يمكن القضاء عليه تمامًا. وقد فتحت شهية نتنياهو لهذ الحل بعد الضعف الذي أصاب الحزب نتيجة الضربات القاتلة لجسمه القيادي العسكري والسياسي، ولغياب الطرف السوري تمامًا عن الصورة، وتمهل إيران حتى اليوم في كشف نواياها وخططها.

بالمقابل تعمل قطر ومصر على الوصول إلى تسويةٍ شاملةٍ توقف إطلاق النار على كل الجبهات، لأنَّ غير ذلك هو حربٌ طويلة مدمّرة لن تقف عند حدود لبنان وغزة ، وإنما ستمتد في حال ضُرِبت إيران بهدف تحجيمها وإنهاء نفوذها، ما يهدد باشتعال كل المنطقة. وقد أعلن نتنياهو أنَّ بلاده تعملُ على “تغيير الشرق الأوسط” ولو اقتضى ذلك تغيير أنظمة أو إسقاطها. وردد هذا الكلام نفتالي بينيت، الذي غرّدَ في الثاني من تشرين الأول (أكتوبر): “لدى إسرائيل الآن أعظم فرصة لها منذ خمسين عامًا لتغيير وجه الشرق الأوسط… ولا ينبغي تفويت هذه الفرصة”.

اليوم يزداد إصرار الإسرائيليين (ومعهم أميركا ومعظم أوروبا) على مواصلة الحرب لتغيير الوقائع العسكرية وإعادة فرض القرار 1559، ما يعني أيضًا إنهاء حالة “حزب الله” العسكرية، وإنهاء المقاومتين الفلسطينية واللبنانية. وهذا يعني بالطبع تغيير موازين القوى السياسية الداخلية في لبنان، وموازين القوى الإقليمية.

  • الدكتور سعود المولى هو باحث وكاتب ومترجم وأستاذ جامعي متقاعد. وهو زميل أول زائر في مجلس الشرق األوسط للشؤون الدولية في قطر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى