“بل أَنت يا أُستاذ تجهل التاريخ”

هنري زغيب*

جرت هذه الحادثة في مدرسة ثانوية، يومَ أَراد مدرِّسُ مادَّةِ الجغرافيا أَن يمتحنَ درسًا كان لقَّنَهُ تلامذتَه، فوضعَ لهم في امتحان كتابي سؤَال: “أَين يقَع لبنان؟”، راميًا بذلك أَن يجيبوا عن موقع لبنان جغرافيًّا بين محيطه الواسع في الشرق الأَوسط. وحين صحَّح المسابقات وجَد أَنهم حفِظوا درسه، إِلَّا تلميذًا لم يُجب كرفاقه عن سؤَال “أَين يقَع لبنان”، بل كتَبَ ثلاثَ كلمات هي: “لبنان لا يقَع”. وحين وقَف في الصف يُعيدُ المسابقات إِلى أَصحابها، تَوقَّف عند مسابقة هذا التلميذ، قرَأَ جوابَه على سائر الصف، وسأَلَهُ أَن يقِف قائلًا: “ما هذا الجواب؟ لم تحفَظ الدرس، ويبدو أَنكَ تَجهَل الجغرافيا”. فأَجاب التلميذ بصوتٍ واثق: “أَنا حفِظتُ الدرس يا أُستاذ ولا أَجهلُ الجغرافيا، إِنما يبدو أَنكَ تَجهَل التاريخ”.

غضِبَ المدرِّس من هذا الجواب وطرَدَ التلميذَ من الصف طالبًا منه أَن يَذهب إِلى مكتب المدير. وهناكَ سأَلَه المدير عن سبَب هذا التهَكُّم على المدرِّس، فأَجاب التلميذ: “أَنا لا أَتَهَكَّم يا حضرة المدير. أَنا أَجبْتُ كما أَسمعُ دائمًا من أَحاديث أَبي”. سأَلَ المدير: “وما عمَلُ أَبيك”؟ أَجاب التلميذ: “أَبي كاتبٌ ومؤَلِّفٌ ومُحاضِر، وأَسمعًه يُحدِّث زوَّارَه كثيرًا عن لبنان”.

وعلى عادة المسؤُولين التربويين أَن يَستَدْعوا الأَهلَ عند بعض المواقف، استَدعى المديرُ والدَ التلميذ، حتى إِذا جاءَ المديرَ في اليوم التالي وأَصغى إِلى شكْواهُ، قال الوالد: “حضرةَ المدير، جوابُ ابني في محلِّه. لبنانُ لم يقَع. ولا يقَع. ولن يقَع، لأَنه وطنٌ قويٌّ”. قال المدير: “لكنَّ المدرِّس يسأَل عن حدود الوطن لا عن قوَّته”. أَجاب الوالد: “كان يجب أَن يَسأَل عن حدودِ دولة لبنان ومحيطِها في الشرق”. وراح الوالد يَشرَح للمدير أَنَّ دولة لبنان لها حدودٌ جغرافية، لكنَّ الوطن اللبناني لا حدودَ له لأَنه ليس يَنحصر في أَرضه فقط بل يتخطَّاها إِلى وسْع العالم بمهاجريه المبْدعين في كلِّ حقل، ونجاحاتِهِم في الدُوَل حيث يَعيشون ويَعملون. الوطنُ غيرُ الدولة يا حضرةَ المدير. الدولةُ كيانٌ معنويٌّ دستوريٌّ محدَّدٌ تُديرهُ سُلطةٌ ماديةٌ مُحَدَّدةٌ تَسُوس شعبًا ذا عددٍ مُحَدَّدٍ على أَرض الدولة المحَدَّدَة. أَمَّا الوطنُ فأَوسعُ من الدول وأَكبرُ من السُلطة. الوطنُ مُشْرقٌ في جميع دول العالم. وفي أَقصى الدُوَل وأَدناها، شرقًا وغربًا، لبنانيون ناجحون يَلْفِتون إِليهم إِعجابَ الدول التي يَسكُنون فيها ويَعملُون. من هنا أَنَّ لبنانَ لا يقَع لأَنَّ أَبناءَه، كأَغصان أَرزِهِ، متجذِّرون في أَرضه وممتَدُّون منها إِلى الوساعة التي لا إِلى حدود. هذا هو لبنانُ جغرافيًّا. أَمَّا جوابُ ولَدي أَنَّ المدَرِّسَ يَجهل التاريخ، فَمِمَّا يَسمعُ مني أَروي تاريخ لبنان، قديمَه ووسيطَه والحديث، منذ شهاداته على صخور نهر الكلْب، إِلى تَخَلُّصه من المحتَلِّ العثماني ولو بعد أَربعة قُرون ومن المنتدِب الفرنسي وسائر من احتَلُّوه، لأَنه قويٌّ في رُسُوخه بأَرضه، قويٌّ في إِيمان شعبه به، قويٌّ في تاريخه الذي يَشْهد على اطِّلابه دومًا فضاءَ حريةٍ يَبذُلُ لأَجلها دماءَ شهداء غالين، حتى يظَلَّ علَمُه عاليًا مَزهوًّا بأَرزته الخضراء في قلبه. وَدِدْتُ يا حضرةَ المدير أَن يكون لديكَ مُدرِّسٌ يَشْرح جغرافيا لبنان بأَقلَّ من ساعة، ويَشْرح تاريخَ لبنان بأَطْوَلَ من أَشْهُر العام الدراسي. عندئذٍ يَفْهم مُدَرِّسُكَ مادَّةَ التاريخ والجغرافيا، وتَفْهم أَنتَ مادَّة الإِدارة، ويَفْهم سواكما أَن لبنان، كأَرزِهِ المبارَك على قمَمِه المباركة، لا تَلْويه عاصفةٌ ولا يُغيِّر في قوَّته إِعصار”.

وعندما صافح الوالدُ المديرَ وخرَج، كان يمشي إِلى جانبه ابنُه، على شفتَيْه ابتسامةُ غبطةٍ لا يَتَّسع لها درسُ جغرافيا ولا يحدُّها درسُ تاريخ.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى