الصدمةُ الجيوسياسِيّةُ الآتية
كابي طبراني*
مع هَيمَنةِ المذابح التي تتكشّفُ على ساحات المعارك في أوكرانيا وغزّة ولبنان على عناوين الأخبارِ العالمية، فإنَّ الانخفاضَ الأخير في أسعار الطاقة الذي قد يَقلُبُ العالمَ رأسًا على عقب لم يُلاحَظ إلّا بالكاد خارج الصناعات المَعنية. لكن نظرًا للدورِ الذي تلعبه غالبًا أسعارُ الطاقة كعاملٍ أساس في تشكيلِ الأزمات العالمية، فإذا تبيّنَ أنَّ انخفاضَ أسعار النفط والغاز الطبيعي على مدى الأشهر القليلة الماضية كان اتجاهًا دائمًا وليس مُجَرَّدَ خللٍ مؤقت، فقد يكونُ العالمُ على أعتابِ صدمةٍ جيوسياسية سيكون تأثيرُها أعظمَ من أيِّ تطوُّراتٍ في ساحات المعارك.
على مدارِ العامِ الفائت، ساهمَت مجموعةٌ من العوامل، بما فيها تخفيضاتُ أسعار الفائدة من قبل بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي وعلاماتُ الضيق في اقتصادِ الصين والمخاوفُ بشأن النمو الاقتصادي في أوروبا، في انخفاضِ أسعارِ النفط تدريجًا إلى 73 دولارًا للبرميل هذا الشهر، نزولًا من أعلى مستوياتها البالغ 120 دولارًا للبرميل بعد غزو روسيا لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022. لكنَّ المستثمرين والمُحلّلين لا يزالون غَيرَ مُتأكِّدين مِمّا إذا كانَ هذا الاتجاهُ هو اتجاهًا طويلَ الأجل أم لا. بالإضافةِ إلى حالةِ عدم اليقين المُستَمِرّة بشأنِ مدى رَدِّ فعلِ الدول الأعضاء في منظمة “أوبك”، وخصوصًا المملكة العربية السعودية، على انخفاضِ الأسعار، فضلًا عن الدور الغامض الذي تلعبه روسيا في محاولتها التحايُل على عقوباتِ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على قطاعِ الطاقة لديها، فإنَّ العديدَ من العوامل الأخرى يُمكِنُ أن تُوَلِّدَ المزيدَ من التحوُّلاتِ الكبيرة في أسواقِ الطاقةِ العالمية.
لعلَّ التغييرَ الأكثر أهمّية، وإن كانَ غَيرَ مُقَدَّرٍ في كثيرٍ من الأحيان، في تلك الأسواق أخيرًا هو تحوُّلُ الولايات المتحدة في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين من مُستَورِدٍ صافٍ للطاقة إلى مُصَدِّرٍ صافٍ للنفط ومُصدّرٍ رئيس للغاز. وما زالَ من غَيرِ الواضحِ ما إذا كانَ الاكتفاءُ الذاتي في مجالِ الطاقة في أميركا سيمنحُ واشنطن مجالًا أكبر لتغييرِ الاتجاه عندما يتعلّقُ الأمرُ بأسعارِ الطاقة العالمية. لكنَّ السيناريو الذي يسمح للولايات المتحدة بإعادةِ تشكيلِ اتجاهاتِ سوق الطاقة بما يَخدُمُ مصالحها الاستراتيجية قد يُضعِفُ قدرةَ المملكة العربية السعودية ودول “أوبك” الأخرى على القيام بذلك لصالحها.
إذا تَبيَّنَ أنَّ الانخفاضَ الحالي في أسعارِ الطاقة دائمٌ، فسيكونُ له تأثيرٌ هائلٌ في كل منطقةٍ في العالم. لكن، بالإضافةِ إلى ذلك، ستكونُ له آثارٌ سلبيةٌ على ثلاثِ ديناميكيات رئيسة تُشَكّلُ جوهرَ العديد من الأزمات الجيوسياسية اليوم وكذلك التغيير السياسي العالمي على نطاقٍ أوسع: الأنظمة غير الديموقراطية والاستبدادية التي تسعى إلى حروبِ التوسُّع، والدول الهشّة التي مزّقتها الصراعات الأهلية، وإعادة الهيكلة التكنولوجية التي تدفع التحوُّلَ إلى الطاقةِ الخضراء في الديموقراطيات الصناعية. إنَّ الانخفاضاتَ المُتسارِعة في أسعار النفط والغاز من شأنها أن تؤدّي إلى اختلالِ الحسابات الاستراتيجية التي هي وراء الاتجاهات الثلاثة.
إنَّ التأثيرَ الأكثر فُجائيةً للانحدارِ الدائمِ في أسعارِ الطاقة سوفَ تشعر به الأنظمة غير الديموقراطية والاستبدادية المُصدّرة للنفط والتي تسعى إلى بذلِ جهودٍ عدوانيةٍ ومُكلِفةٍ للغاية لتوسيعِ نفوذها وفي بعضِ الحالاتِ أراضيها، مع كونِ روسيا أوضح مثالٍ على ذلك. لقد أصبح نظام الرئيس فلاديمير بوتين مُعتمدًا على عائداتِ تصدير الطاقة لشنِّ حربه ضد أوكرانيا في حين يُحاولُ الحفاظَ على مستوياتِ الرخاءِ الاقتصادي في أيام السلم، في وقتٍ حيث تُقدَّرُ قيمةُ التعادُلِ لإنتاجِ النفط الروسي بأكثر من 94 دولارًا للبرميل. ورُغمَ أنَّ المُنتِجين الروس يلعبونَ دورًا مُهمًّا في أسواق السلع الأساسية الأخرى، فإنَّ الانخفاضَ الطويل الأجل في أسعار النفط من شأنه أن يُعقّدَ إلى حدٍّ كبيرٍ جهودَ الدولة الروسية لموازنة الارتفاع الحالي في الإنتاج العسكري مع الارتفاعِ المُتزامِن في الإنفاق المُصَمَّم والمُوَجَّه لحماية السكان الروس من التأثير الاجتماعي للحرب التي لا تبدو نهايتها قريبة.
وكما وَضَعَ انخفاضُ أسعارِ النفط خلال ثمانينيات القرن العشرين الاتحاد السوفياتي تحتَ ضغوطٍ اقتصادية هائلة، فإنَّ نظام بوتين سيواجهُ خياراتٍ استراتيجيةٍ قاسيةٍ ساعدته أسعار النفط المُرتَفعة على تجنُّبها. وفي حين من غيرِ المُرجَّحِ أنَّ تُوقِفَ مثل هذه الديناميكية جهودَ بوتين الهَوَسية لتدمير أوكرانيا، فإنَّ الضغوطَ التي ستفرُضُها على اقتصادِ روسيا قد تُعوِّقُ قدرته على متابعة حرب الاستنزاف التي لا هوادة فيها والتي ُتشكّلُ حاليًا أساسَ الاستراتيجية العسكرية الروسية. ورُغمَ أنَّ العواملَ الاجتماعية والاقتصادية الأخرى حاسمةٌ أيضًا للقوة الحكومية الروسية، فإنَّ الاتجاهاتَ في أسواقِ الطاقة هي مُتَغَيِّرٌ يجب أن يأخذه أيُّ تحليلٍ للمسارِ المُحتَمَلِ لروسيا في الاعتبار.
إنَّ ديناميكية أسعار الطاقة التي تتجه نحو الانخفاضِ خارج سيطرة “أوبك” من شأنها أيضًا أن تُخَلِّفَ آثارًا مُزعزعةً للاستقرارِ على الدول غير الديموقراطية الطموحة الأخرى. وفي بيئةٍ تتقلّبُ فيها أسعارُ النفط بين 50 و60 دولارًا للبرميل، من الصعب أن نرى كيف يُمكِنُ للمملكة العربية السعودية أن تُواصِلَ برنامجَ بناءِ المدن والتحوُّل الاقتصادي الطموح للغاية الذي يُشكّلُ قلبَ جهود ولي العهد الأمير محمد بن سلمان لإضفاء الشرعية على قبضته على السلطة. وعلى نحوٍ مُماثل، فإنَّ انخفاضَ أسعارِ النفط من شأنه أن يجعلَ من الصعبِ على النظام لثيوقراطي (الديني) الحاكم في إيران، الذي يُعاني ويُكافحُ أصلًا تحتَ وطأةِ العقوبات الأميركية على صناعته النفطية، أن يمنعَ من أن يؤدّي الخللُ الاقتصادي إلى تأجيجِ الاضطرابات في الداخل، في حين يَفرضُ أيضًا قيودًا أكبر على قدرته على تمويل الميليشيات بالوكالة التي تُشَكّلُ ضرورةً أساسية لمحاولته الهَيمنة الإقليمية في الشرق الأوسط.
في حين أنَّ انخفاضَ أسعار النفط يُمكِنُ أن يضعَ الأنظمة الاستبدادية العدوانية تحت ضغطٍ شديد، فإنه من شأنه أيضًا أن يُزعزِعَ استقرارَ الدول المُنتِجة للطاقة التي أضعفتها الصراعات الأهلية والفساد. في ليبيا، من شأنِ انهيارِ الأسعار أن يؤدّي إلى تفاقُمِ معركة السيطرة على البُنية الأساسية للنفط والغاز بين الفصائل المسلحة المتنافسة التي تعتمد هياكل السلطة فيها على عائداتِ قطاع الطاقة. ومع قلّةِ الأموالِ المُتاحة، فإنَّ الضغوطَ للاستيلاءِ على حقولِ النفط والغاز التي تُسَيطِرُ عليها الجماعات المتنافسة من أجلِ الحفاظِ على التدفُّقِ النقدي اللازم لمُكافأةِ المُؤيِّدين وشراءِ الأسلحة من المُرَجَّح أن تؤدّي إلى عودةِ الحربِ الأهلية الشاملة على جبهاتٍ مُتعَددة في جميعِ أنحاءِ الجماهيرية السابقة.
على الرُغمِ من أنَّ ليبيا تُعتَبَرُ حالةً فريدةً من جوانب عدة، فإنَّ الضغوطَ الناجمة عن انخفاضِ أسعارِ النفط يُمكِنُ أن تُخلِّفَ تأثيراتٍ مُزَعزِعة للاستقرار على الدول التي تُواجِهُ أصلًا أزماتٍ اقتصادية تفاقَمت بسبب حركات التمرُّد المستمرة، مثل نيجيريا وجنوب السودان. بالنسبة إلى الحكومة النيجيرية التي تُكافِحُ من أجلِ تنفيذِ الإصلاحات ومحاربة المتمرّدين، فإنَّ المزيدَ من الانخفاضِ في الإيرادات يُمكِنُ أن يشُلَّ قدرة الدولة على الحفاظِ على النظام في معظم أنحاء البلاد. ومع انتشارِ التمرّدات الجهادية المُتفشّية بسرعة في مختلف أنحاء غرب أفريقيا ومنطقة الساحل، فإنَّ آثارَ المزيد من تدهورِ الأوضاعِ في ليبيا ونيجيريا سوف تكون محسوسةً على نطاقٍ واسع في مختلف أنحاء أفريقيا وأوروبا والشرق الأوسط.
إنَّ تأثيرَ الانخفاضات المُستمرّة في أسعارِ الطاقة سوفَ تشعرُ به بشكلٍ أسرع الدولِ المُنتجة للنفط، ولكن مثل هذا التحوُّل الجوهري في الاقتصاد العالمي من شأنه أيضًا أن يُخَلِّفَ آثارًا عميقة في الاقتصادات المُستهلِكة للنفط أيضًا. ورُغمَ أنَّ الآثارَ الطويلة الأجل لا تزالُ غير واضحة، فمن الصعبِ أن نرى كيفَ يُمكِنُ ألّا يتأّثرُ التحوُّلُ نحو اقتصادٍ مُحايدٍ للكربون (صفر كربون) بأسعارِ النفط والغاز التي أصبحت أقل بكثير مما توقّعه صنّاع السياسات. وسواءَ كان الأمرُ يتعلّقُ بتبنّي السيارات الكهربائية أو توسيع مصادر الطاقة المُتجدّدة، فإنَّ الحسابات القائمة على تكلفةِ مثل هذا التحوّل عندما يكون سعر النفط أعلى من 100 دولار للبرميل قد يتعيّنُ إعادة النظر فيها في عالمٍ تتجه فيه الأسعار نحو 50 دولارًا للبرميل.
ومع انخفاضِ سعر البنزين للسائق العادي عن المُستوى المُتَوَقَّع في البداية، فسوف يتعيَّنُ على صنّاع السياسات إيجاد حوافز جديدة لتشجيع التبنّي الجماعي للسيارات الكهربائية، التي تدعمُ العديد من الأهداف الاستراتيجية الرئيسة عندما يتعلّقُ الأمرُ باستراتيجيات التحوُّل الأخضر. كما إنَّ التغييرات الأوسع نطاقًا في سلوكِ المُستهلك اللازمة لتحقيقِ تحوُّلٍ اقتصاديٍّ أعمق سوف تتطلّبُ أيضًا تدخُّلًا أكثر نشاطًا من جانب الدولة في أوروبا وأميركا الشمالية في عالمٍ حيثُ أسعار الطاقة أقل كثيرًا. ورُغمَ وجودِ العديد من المُتغيِّرات التي تلعبُ دورًا في عملياتِ التحوُّلِ هذه في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وحتى الصين، فمنَ المُرَجّح أنَّ العديدَ من المبادرات السياسية المُصَمَّمة لتشجيعِ الاقتصاد الخالي من الكربون لن ينجو من مثلِ هذا التغييرِ الهائلٍ في ضغوطِ التكلفة في شكلها الحالي.
لكن حتى مع وجودِ جُزءٍ أساسي من النظام الاقتصادي العالمي مثل أسعار الطاقة، فإنَّ أيَّ شخصٍ يَدرُسُ التغييرَ الجيوسياسي يجب أن يتجنّبَ مُغالَطةَ “هذا الشيء الواحد الكبير يُفسِّرُ كلَّ شيء”، والتي أدّت إلى العديدِ من السياسات الفاشلة في الماضي. عندما يتعلّقُ الأمرُ بمصيرِ الأنظمة غير الديموقراطية والاستبدادية، أو المجتمعات المُتَعثِّرة أو الانتقال إلى سلاسل توريد خالية من الكربون، فهناكَ العديدُ من المُتغيّرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية الأخرى التي تلعبُ دورًا مُهمًا بالقدر عينه. إنَّ انهيارَ أسعار النفط والغاز لن يُؤدّي فجأةً إلى إيقافِ جهودِ نظامِ بوتين لغزو أوكرانيا، أو ضمانِ نصرٍ حاسمٍ لأحد الجانبين في ليبيا أو إيقافِ الانتقالِ إلى اقتصادٍ خالٍ من الكربون تمامًا.
مع ذلك، هناكَ عددٌ قليل من العوامل البُنيَوية الأخرى التي تؤثّرُ في العديدِ من الدول والاتجاهات والأزمات المختلفة في الوقت نفسه الذي يؤثّر فيه مسار أسعار النفط والغاز. وبما أنَّ استراتيجياتَ كلِّ قوةٍ عُظمى عُرضةٌ للاتجاهاتِ في أسواق الطاقة، فإنَّ التحوُّلاتَ المُفاجِئة في أسعار النفط لديها القدرة على تحويلِ نظامٍ أو مبادرةٍ سياسية قوية في ظاهرها إلى بيتٍ من وَرَقٍ هَشّ. وإذا استمرَّ الاتجاهُ الهبوطي الحالي في أسعار الطاقة لفترةٍ طويلة، فإنَّ الرجال الأقوياء الذين بدوا في يومٍ من الأيام لا يُقهَرون سوف ينهارون ويواجهون أزمةً عميقة مع فشلِ خططهم المُعَقَّدة بفعلِ قوانينِ العَرضِ والطَلَب.
- كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @GabyTabarani