يَمَنٌ على صورَتِهم
من خلالِ حملةِ قمعٍ واعتقالات واسعة، يمضي الحوثيون في اليمن قُدُمًا في تقديم برنامج “التغيير الجذري” في البلاد.
إبراهيم جلال*منذُ أيار (مايو) الفائت، انخرطت جماعة “أنصار الله”، التي يشار إليها عادة باسم “الحوثيين”، في حملةِ قمعٍ كبيرة في اليمن، حيث اعتقلت أكثر من 72 عاملًا محلّيًا في المجال الإنساني والتنمية يعملون لدى الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية والبعثات الديبلوماسية الأجنبية، بما في ذلك مكتب المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن.
صاحبَ حملةُ الاعتقالات التي شنّها الحوثيون غيابَ الإجراءات القانونية الواجبة أو توجيه الاتهامات الرسمية، حيث كانَ الاتِّهامُ الرئيس هو أنَّ المُعتقلين مُتَوَرِّطون في “التجسّس” لصالح “شبكةِ تجسّسٍ أميركية-إسرائيلية”. وسعى الحوثيون إلى إسكاتِ المُعارَضة، ومُلاحَقة ما أسموه “مرحلة التغيير الجذري” في اليمن، والتي تمَّ تجميدُها حتى تموز (يوليو) من هذا العام، وتشديد سيطرتهم على المجتمع. لقد استخدموا المُعتَقَلين كورقةِ مُساوَمةٍ مع المنظمات الدولية في وقتٍ يشعرُ الحوثيون بثقةٍ متزايدة، نظرًا لمشاركتهم في الصراع ضد إسرائيل بسبب حرب غزة.
على الصعيدِ المحلّي، غَرَسَ الحوثيون الخوفَ في المجتمع، وخصوصًا بين قادة المجتمع المدني. إنَّ اتهاماتَ “الخيانة” و”التجسّس”، التي تمَّ تأطيرُها على أنها “إنجازٌ أمني”، مُصَمَّمةٌ لشَيطَنةِ المُتَّهَمين، ومَنعِ التضامُن معهم، وإغلاقِ الحَيِّزِ المدني، ووَصمِ العمل لصالح المنظمات الدولية. ونظرًا لسوءِ إدارةِ الحوثيين للحُكم، فقد سعوا أيضًا إلى تحويلِ اللومِ عن أوجُهِ القصور لديهم قبل الذكرى الثانية والستين لتأسيس الجمهورية اليمنية في 26 أيلول (سبتمبر)، والتي أزالت الإمامة الزيدية التي يرغب الحوثيون في إعادة فرضها.
لقد أدّى إحياءُ ذكرى الثورة الجمهورية في العام الماضي، والذي سمح للجمهور بالتعبير عن استيائه من ممارسات الحوثيين، إلى تأخير “التغييرات الجذرية” التي يريدها هؤلاء. وتشملُ التدابيرُ المُتَوَقَّعة، والتي تمَّ تحديدها في البداية في أواخر العام 2023، إنشاءَ مؤسّساتٍ جديدة، ودمجَ أو حلَّ مؤسّسات أخرى، وتغييرَ العمليات الحكومية، وإدخالَ تعديلاتٍ قضائية لتقويض استقلال القضاء وفصل السلطات، وتشكيلَ حكومةٍ أخرى بحُكم الأمر الواقع بما يتّفقُ مع “الهوية الدينية”. وقد فعلَ الحوثيون ذلك، جُزئيًا، من خلال الاستفادة من مكاسبهم السمعية وسط حرب غزة والخطاب المُناهِض للغرب الذي تُحرّكهُ نظرية المؤامرة، نظرًا لمواجهتهم العسكرية المستمرة مع الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وإسرائيل. في جوهرها، تعكس التغييرات التي يتطلعون إلى إدخالها رؤية الحوثيين للنظام السياسي والدستور في اليمن.
خارجيًا، يهدفُ الحوثيون إلى مُمارَسةِ الضغطِ على المجتمع الدولي، وخصوصًا وكالات الأمم المتحدة، لمَنعِ انتقالها إلى عدن، وتأمينِ المزيدِ من التنازلات منها، وفرضِ قواعد تقييدية جديدة. على سبيل المثال، طالبَ المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي، الذي أنشأه الحوثيون في تموز (يوليو) الفائت، المنظّمات الدولية العاملة في اليمن بالتشاور معه والسعي إلى الحصول على موافقته بالنسبة إلى توظيف الموظفين الوطنيين والدوليين، ومشاركة الهياكل التنظيمية الداخلية. وكان الهدفُ الأساسي هو التأثير على تعيين الموظفين في هذه المؤسّسات والسيطرة عليها، وخصوصًا المسؤولين عن الوظائف الحيوية، حتى يتمكّن الموالون من خدمة الحوثيين من خلال تبادل المعلومات وتشكيل الأولويات.
من خلالِ مُداهَمةِ المكاتب واعتقال المُتخصّصين في تكنولوجيا المعلومات ومصادرة الممتلكات الخاصة ــأجهزة الكمبيوتر المحمولة والوثائق والبيانات ـ يُريدُ الحوثيون أيضًا توسيعَ نطاق السيطرة المعلوماتية من خلال تعزيز رسالة الخوف، وهي أنَّ المنظّمات الدولية وموظفيها لا يمكنهم العمل بأمان من دون موافقتهم. وكانت مداهمة الحوثيين لمكتب المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان في 3 آب (أغسطس)، فضلًا عن مصادرة ممتلكات الوكالة، انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي. كما أدّى ذلك إلى تقويضِ التزامات اليمن بحماية البعثات الأجنبية، مما أدّى في الواقع إلى احتجازِ وكالات الأمم المتحدة رهينةً لأهدافِ الحوثيين، وهذا الوضع يجعلها أكثر استعدادًا للعب وفقًا لقواعد الحوثيين في مقابل الحفاظ على وجودها في البلاد.
مع ذلك، فإنَّ مثلَ هذه المطالب قد تؤدّي إلى الإزالة التدريجية للكوادر المؤهّلة، وسوف تقوّض الإدارة المهنية للعمليات الإنسانية والتنموية. كما إنها سوف تُضعِفُ المجتمعَ المدني بشكلٍ أكبر. ويُشكّلُ النطاقُ المُتوسّع لحملة الحوثيين تحدّيًا صارخًا للتقدُّم الذي أحرزته اليمن على مدى العقود الماضية، وخصوصًا في ما يتصل بالمشاركة المدنية والسياسية والوظائف القائمة على الجدارة في المنظمات الدولية.
للسيطرة على جميع عمليات المساعدات، عزّزَ المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي منذ إنشائه تضييق الحدود والقيود البيروقراطية والتدخّلات في تنفيذ وتقييم العمليات الإنسانية. وعلى وجه الخصوص، كان اعتقال وحكم الإعدام الصادر بحق عدنان الحرازي، الرئيس التنفيذي لشركة “بروديجي سيستمز” (Prodigy Systems)، وهي شركة تقوم بتقييمات الرصد والتقييم للوكالات الرئيسة للأمم المتحدة، يهدفُ إلى عرقلةِ جهودِ الشفافية والمُساءلة والرقابة لعَكسِ مسارِ الاستيلاء على المساعدات من قبل الحوثيين. وقد سعى الحوثيون إلى تحويل المساعدات، وخصوصًا إلى مقاتليهم، واستخدموها أيضًا للحفاظ على نفوذهم على السكان. كما توفر المساعدات تدفُّقًا قَيِّمًا للدخل، بما في ذلك لقادة الحوثيين الذين يتلقون أيضًا رواتب من وكالات الأمم المتحدة.
وفي اجتماعٍ عُقِدَ في آب (أغسطس) مع ممثلي المنظمات الإنسانية، أكد الأمين العام للمجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي، إبراهيم الحملي، على “أهمية التحقّق من مصادر المعلومات وتجنّب الوقوع في فخ التجسُّس”، كما جاءَ على موقع المجلس الإلكتروني. وأشارت هذه الخطوة إلى أنَّ احتياجاتَ وتقييماتَ المنظّمات الدولية، فضلًا عن تدفّقات المعلومات، سوف تخضعُ لتدقيقٍ أكبر من قبل الحوثيين.
كانت ردودُ الفعل الدولية على حملةِ الحوثيين الأخيرة خجولةً وغير مُنَسَّقة إلى حدٍّ كبير. وفي ظلِّ محدوديةِ وسائلِ الضغط وغيابِ استراتيجيةٍ شاملة لليمن، قَلَّصت الأمم المتحدة عملياتها في المناطق التي يُسيطرُ عليها الحوثيون للحَدِّ من المخاطر التي يتعرّضُ لها موظفوها. كما جَمّدَ العديدُ من المانحين عملياتهم أو نقلوا مكاتبهم إلى عدن. ومع ذلك، أرادَ مسؤولٌ كبير في الأمم المتحدة مُقيمٌ في صنعاء الضغط من أجل استعادة العلاقات التجارية، بغضِّ النظر عن إطلاق سراح المعتقلين تعسّفيًا. مع ذلك، كانَ هناك شخصٌ رَدَّ بقوةٍ أكبر، وهو المفوض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة فولكر تورك، الذي لم يُطالب بالإفراج عن المعتقلين فحسب، بل دافع أيضًا عن الموظفين من خلال “رفض مزاعم [الحوثيين] المُشينة بشكلٍ قاطع”. كما أدانت وزارة الخارجية الأميركية “جهود الحوثيين لنشرِ معلوماتٍ مُضلّلة حول دور موظفي البعثة الأميركية الحاليين والسابقين المعتقلين من خلال “اعترافاتٍ” زائفة ومُجبَرة مُتلفزة”.
وفي حين أنَّ نطاقَ حملة القمع التي يشنُّها الحوثيون غير مسبوق وقد صدَمَ العديد من الناس داخل اليمن وخارجها، فلا يمكنُ استبعاد المزيد من القيود والحملات التي تستهدف المنظمات المحلية والدولية. إنَّ تكتيكات الحوثيين لا تُبشّرُ بالخير لعملية السلام اليمنية المستدامة، وتُثبتُ سعيهم إلى تعزيز سلطتهم بطريقة تتفق مع رؤيتهم للنظام السياسي.
- إبراهيم جلال هو باحثٌ غير مُقيم في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط. تستكشفُ أبحاثه عمليات السلام التي تقودها أطرافٌ ثالثة؛ والأمن البحري في البحر الأحمر وخليج عدن؛ وانتشار الجهات الفاعلة غير الحكومية وتداعياتها على تنفيذ اتفاقيات السلام، وأوامر الأمن بعد الحرب، وجهود تحقيق الاستقرار.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.