الجانِبُ المُظلِمُ من طفرةِ الفوسفات في تونس
مع محاولة حكومة قيس سعيد الاستفادة من الطلب الكبير على الفوسفات، المعدن البالغ الأهمية في عصر البطاريات الحديثة، تُعاني البيئة في البلاد وتُكافِح مع سكان وادي قفصة من تداعياته.
أريانا بوليتي وسفيان فيليب ناصر*
في وادي قفصة في تونس، تَتَّخِذُ الصحراءُ مَظهرًا مختلفًا. فبدلًا من الكثبان الرملية الخلّابة التي يرتادها السياح في الجنوب، تَحمُلُ الأرضُ ندوبَ المناظر الطبيعية المُتَدَهوِرة التي تمَّ استغلالها بلا هوادة. في أواخر القرن التاسع عشر، عَثَرَ الضابطُ العسكري والجيولوجي الفرنسي فيليب توماس على احتياطات الفوسفات في قفصة، الأمرُ الذي مَثّلَ بدايةَ التحوُّلِ في جنوب غرب تونس.
في سلسلةِ الجبال التي ترسُمُ الحدودَ بين تونس والجزائر، تُمثّلُ صخورُ الفوسفات من احتياطي وادي قفصة ــالتي كانت تديرها فرنسا في السابق، وتديرها اليوم “شركة فُسفاط قفصة” العامةــ 15% من إجمالي الصادرات التونسية، ما أدّى إلى تحوُّلِ “شركة فُسفاط قفصة” إلى “دولةٍ داخل الدولة”، كما يُسَمّيها السكّان المحلّيون.
“هذا الغبارُ الأسود في كلِّ مكان”، يقول عبد الباسط بن حميدة، أحد سكان مدينة الرديف المنجمية. وحتى في الأيام الأكثر حرارة، تظلُّ نوافذ منزله مُغلَقة. يُعاني ابنه مُؤيِّد من الربو المُزمِن الشديد منذ الطفولة. ويتّفقُ الأطباء على أنَّ الطريقة الوحيدة لتحسين صحة مؤيِّد هي مغادرة قفصة إلى الساحل، حيث الهواء أنظف. ويشكو عبد الباسط قائلًا: “لكني سأفقد وظيفتي”، وهو يعرض عشرات الوصفات الطبية وفواتير المستشفى من سنوات من العلاج غير الفعّال لابنه. ويقع أقرب مستشفى على بُعدِ 72 كيلومترًا.
في ظلِّ الحماية الفرنسية، توافدَ عُمّال المناجم إلى مدينة الرديف من أوروبا والدول المجاورة، مثل الجزائر والمغرب، بحثًا عن عمل. ولكن اليوم تشهدُ المدينةُ هجرةٌ ثابتة لشبابها. فلدى كلِّ أسرةٍ قريبٌ يُقيمُ في إيطاليا أو فرنسا. وتُجَسِّدُ ولاية قفصة مُفارَقة: إذ إنَّ تُربتها غنيةٌ بالموارد ذات القيمة المضافة العالية ــيساهم الفوسفات بنحو 3 إلى 4 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي للبلادــ ومع ذلك يظل معدل البطالة فيها من بين أعلى المعدلات في تونس (حوالي 25 في المئة وفقًا لأرقام العام 2022 من مكتب تنمية الجنوب).
يعملُ عبد الباسط في الخدمة المدنية. إنَّ تَركَ وظيفته يُشَكِّلُ مُجازَفة لا يستطيع تَحَمُّلَها: بعدما كانت تُوَظِّفُ جُزءًا كبيرًا من السكان، أصبحت “شركة فُسفاط قفصة” توظّف عددًا أقل وأقل من العمال المحلّيين بسبب الديون والاحتجاجات والانخفاض في الإنتاج، وكل هذا في حين تشترط المؤسسات المالية الدولية خفض الأجور العامة كشرط لإقراض الحكومة التونسية.
تاريخيًا، كانت الاحتجاجات أو الثورات الشعبية في تونس مُرتَبطةً غالبًا بسلسلةِ إنتاج الغذاء والزراعة.
في السابع عشر من كانون الأول (ديسمبر) 2010، أحرق محمد البوعزيزي، بائع الفاكهة والخضروات من بلدة سيدي بوزيد، نفسه بعد أن جرّدَ مستثمرٌ كبير في الأعمال الزراعية أسرته من أرضها، ولم يبقَ له سوى كشكه لبيع الفاكهة والخضروات في الشارع. كانَ البوعزيزي يكسبُ رزقه من بيع الفاكهة والخضروات في سوق المدينة، حيث تعرّضَ للاستهداف والمُضايقة من قِبَل الشرطة المحلية قبل وقتٍ قصيرٍ من إحراق نفسه. وأشعلت وفاته على الفور ثورةً وطنية. خرج التونسيون الغاضبون والساخطون إلى الشوارع، وكانَ العديدُ منهم يُلَوِّحون بالخبز، مُطالبين برحيل الرئيس زين العابدين بن علي الذي حَكم البلاد لوقت طويل؛ والذي غادر البلاد في كانون الثاني (يناير) 2011.
لكن ما لا يعرفه الكثيرون هو أن مقدمة “الربيع العربي” حدثت في قفصة، حيث اندلعت سلسلة من الاحتجاجات في العام 2008 للمُطالبة بالعدالة الاجتماعية، والعقود العامة الشفافة، والتنمية الإقليمية، والتوظيف في قطاع الفوسفات. وقد قمع نظام بن علي أعمال الشغب هذه بعنف.
“لم يتغيَّر الكثير اليوم، لكنَّ التلوُّثَ زاد بشكلٍ كبير”، كما يقول بوبكر عكرمي، وهو وجه معروف للمجتمع المدني في البرج، على بُعدِ أميال قليلة من المظيلة، المدينة التي تقوم فيها المجموعة الكيماوية التونسية بتكرير الفوسفات وتحويله إلى أكثر أنواع الأسمدة استخدامًا. وقد سُجِنَ عكرمي، نجل عامل منجم يعمل الآن في منجم مزندا، على بُعدِ أميال قليلة من المظيلة، في العام 2008 لتنظيمه اعتصامًا عند أبواب المدينة للمُطالبة بحقه في وظيفة.
وبعدَ أكثر من 15 عامًا، أصبحت هذه المنطقة الجافة والمضطربة مرةً أخرى في قلب حروب الأسعار العالمية. تُعَدُّ دول شمال أفريقيا من بين أكبر منتجي الفوسفات في العالم، حيث تقترب المغرب ومصر من قمة الترتيب العالمي. وفي أعقاب غزو أوكرانيا في العام 2022، انخفضت صادرات الفوسفات من روسيا -وهي منتجٌ رئيس آخر، إلى جانب الصين- مما تسبّب في ارتفاع الأسعار في السوق العالمية، حيث بلغت ذروتها عند 350 دولارًا للطن في العام 2023.
لقد فتح هذا الوضعُ فُرصةً أمام تونس، الغارقة في أزمةٍ ماليةٍ واقتصاديةٍ حادة، التي تتمتّع برابع أكبر احتياطي للفوسفات في العالم. لكن تلك الأزمة الاقتصادية، والتفاوتات الداخلية، والفساد كانت أيضًا الحجج الرئيسة التي استخدمها الرئيس قيس سعَيِّد لتركيز السلطة بين يديه وتفكيك المؤسّسات الديموقراطية في العام 2021.
وبينما أدرجَ الاتحاد الأوروبي بالفعل الفوسفات في قائمة المواد الخام الحيوية، فإنَّ العديدَ من البلدان الأخرى، بما فيها الولايات المتحدة، تفكر في القيام بالشيء نفسه. وبما أنَّ الفوسفات أصبح مادةً رئيسة في بطاريات “الليثيوم- أيون” المُستَخدَمة في المركبات الكهربائية والتطبيقات الصناعية، والتي تتميّزُ بسُمِّيةٍ أقل ودوراتِ حياةٍ أطول مُقارنةً بالبطاريات الأخرى، فقد كانَ استخراجُ المعدن قضيةً رئيسة في المفاوضات الطويلة حول ما يُسمّى بآلية الخسارة والتلف التي تمَّ الترويجُ لها في قمّة المناخ التابعة للأمم المتحدة التي عقدت في دبي في العام 2023، والمعروفة ب”كوب 28″ (COP28).
في مؤتمر الأطراف الثامن والعشرين، ناقش أعضاء “مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية”، وهي منظمة تهدف إلى وضعِ معيارٍ مُشتَرَك للشفافية والمُساءلة في قطاعات التعدين، سلاسل توريد المواد التي تُعتَبَرُ حاسمة للتحوُّل إلى الطاقة الخضراء.
في العام 2015، أعلنت الحكومة التونسية أنها تُريدُ أن تكونَ جُزءًا من “مبادرة الشفافية في الصناعات الاستخراجية”، وهو ما يعني الالتزام بقواعد السلوك وضمانات أكبر للشفافية، كما أشارت عبير يحياوي، الخبيرة في “معهد حَوكَمة الموارد الطبيعية” في تونس، في مقابلة صحافية. ثم أقالَ سعيِّد وزيرة الصناعة والمناجم والطاقة، نائلة نويرة القنجي، بعد أن أدلت بتعليقٍ حول أسعار الغاز – وهي الخطوة التي قالت يحياوي إنها “أعادت تونس إلى المربع الأول”. كانت القنجي تعمل على نظامِ دعمٍ بديل لتلبية المعايير المطلوبة للإقراض في المستقبل من قبل صندوق النقد الدولي.
مع ذلك، فإنَّ استخراجَ الفوسفات يأتي بتكاليف بيئية كبيرة: في حين تجعل الأسمدة الحقول الغربية خضراء، فإنَّ تعدين الفوسفات يُجفّف التربة التونسية الجنوبية. يُترَكُ المزارعون بدون ماء، حيث تُحَوَّلُ الآبار المملوكة لشركة مصفاة البترول في جبال قفصة مصادر المياه إلى مغاسل الفوسفات، حيث يتم غسل الخام بالمواد الكيميائية قبل تكريره إلى سماد، وهو استخدامه الرئيسي.
يقول صبحي، وهو مزارعٌ محلّي يُكافحُ من أجل ريِّ قطعةِ أرضه الصغيرة: “كان بإمكاننا أن نُصبحَ المنطقة الزراعية الرائدة في البلاد لو لم نقوم بتصدير كل هذه المياه”. ومثله كمثل معظم المصادر التي تَحَدّثنا إليها، طلب عدم الكشف عن اسمه الكامل خوفًا من الانتقام.
بالإضافة إلى ذلك، تتدفّقُ تياراتٌ من الطين الرمادي المُلوَّثة بعملية الغسيل من الجبال إلى الواحات ــ وهي أنظمة بيئية صحراوية هشّة تُستَخدَم في المقام الأول للإنتاج الزراعي الذي يُشكّلُ أيضًا نقطةَ جَذبٍ للسياح. ويروي لطفي، وهو مزارع يُربّي ويرعى الجمال في أوائل الخمسينيات من عمره، كيف كان أحد حيواناته يرعى بالقرب من سدٍّ طيني كان من المفترض أن يجمع مياه الصرف الصحي، لكنه فاض وانتشر بحرية في البرية.
وأوضح: “انتهى الأمر بالجمل إلى المرض”.
وقضية لطفي ليست نادرة. فقد تقدّمَ المجلس البلدي للحامة، وهي بلدة صغيرة تقع على حدود ولايتَي قفصة وتوزر وتقع بجوار نهر الطين، بشكوى بالفعل ضد شركة الصرف الصحي بسبب العديد من الشكاوى من مزارعي ومُربّي الماشية في المنطقة.
في الوقت نفسه، قررت عائلة بن حميدة في الرديف التعاون مع منظمّتَين من منظمات المجتمع المدني –“المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية” ومنظمة “محامون بلا حدود”– لرَفعِ قضية ابنهم مُؤيِّد أمام المحكمة. وفي مكتبه في قلب مدينة قفصة، يُدركُ محاميهم رستم بن جبرا حساسية القضية. فمن الممكن أن “تثبت لأول مرة وجود علاقة مباشرة بين التلوّث الناجم عن الفوسفات والحالة الصحّية لمؤيِّد”.
وبناءً على الحُكم، قد تُشَكّلُ هذه القضية سابقةً قوية يبدو أن “شركة فسفاط قفصة” غير مستعدة لها وغير راغبة في قبولها. ففي تشرين الأول (أكتوبر) 2023، أُبلِغَت الأسرة بأنَّ محكمة قفصة الابتدائية رفضت القضية، وهي الآن تنتظرُ معلومات حول أسباب هذا القرار قبل تقديم استئناف. ولكن النتيجة ليست مضمونة: فعلى الرُغمِ من أنَّ الدستورَ التونسي -الذي عدّله سعَيِّد من خلال استفتاءٍ في العام 2022- لا يزال يضمن الحق في بيئةٍ صحّية، إلّا أنَّ البلاد لا تزال تفتقر إلى محكمةٍ دستورية.
في حين تُمثّلُ “شركة فسفاط قفصة” لعنةً على بن حميدة، فإنَّ الرمزَ الأزرق المُثلَّث للشركة المملوكة للدولة يُمثّلُ أيضًا أحد الآمال الوحيدة للعمل في وادي قفصة، الذي تُهيمن عليه بالكامل تقريبًا هذه الشركة وحيدة. ولا تزال “شركة فسفاط قفصة” تدير بعض الخدمات العامة بشكلٍ مباشر أو من خلال الإعانات، بما في ذلك النقل وإدارة النفايات. وكما أكد المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهي منظمة مجتمع مدني لها أحد مكاتبها المحلية في الرديف، فإنَّ “شركة فسفاط قفصة كانت تقدم في السابق خدمات المياه والكهرباء في المناطق المنجمية. وفي ثمانينيات القرن العشرين، ورثت الشركتان المملوكتان للدولة، “الشركة الوطنية للإستغلال وتوزيع المياه” (SONEDE) و”الشركة التونسية للكهراباء والغاز” (STEG)، الشبكة من شركة فسفاط قفصة”.
“الفوسفات هو ماضينا وحاضرنا ومستقبلنا”، يقول توفيق عيد، وهو مدرّس متقاعد من مدرسة العمال في مولاريس ولا يزال ناشطًا في المجتمع المدني كعضو في “شبكة الشفافية في صناعة الطاقة والتعدين”.
بعد سنواتٍ من المفاوضات الصعبة مع صندوق النقد الدولي في أعقاب اتفاقيةِ قرضٍ في العام 2016 بين المنظمة الدولية وتونس، رفض سعَيِّد علنًا في نيسان (أبريل) 2023 “إملاءات” صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الدولية الأخرى، والتي غالبًا ما تشترطُ إصلاحاتٍ غير شعبية، مثل إنهاء الدعم الحكومي، كشرطٍ لتقديم اتفاقيات قروض جديدة.
لقد غيَّرَ سعَيِّد، الذي قاد ما يعتبره الكثيرون انقلابًا دستوريًا في 25 تموز (يوليو) 2021، أولوياته منذ ذلك الحين للتركيز على زيادة عائدات الصناعات التصديرية المحلية – بما في ذلك الفوسفات على وجه الخصوص.
“نحنُ نجلسُ على ذهب في خضم أزمة مالية، ونحن لا نستغله”، أعلن الرئيس التوننسي في اجتماعٍ لمجلس الأمن القومي حول إنتاج الفوسفات في نيسان (أبريل) 2023، قبل زيارة حوض تعدين وادي قفصة في حزيران (يونيو).
في بعضِ مناطق وادي قفصة، انخرطَ عاطلون من العمل ونشطاء في جهودٍ لمَنعِ مواقع إنتاج الفوسفات منذ احتجاجات العام 2008، مما أدّى إلى تأجيج رواية في تونس الساحلية الأفضل حالًا التي تلقي باللوم على مثل هذا النشاط في التسبّب في المشاكل الاقتصادية في البلاد حيث انزلقت تونس من المركز الخامس إلى المركز الحادي عشر بين منتجي الفوسفات العالميين على مدى العقد الماضي.
على سبيل المثال، تم إغلاق موقع غسيل الفوسفات في الرديف فعليًا منذ العام 2021 بسبب اعتصامٍ للمواطنين العاطلين من العمل للمطالبة بوظائف. وقد ساهم هذا الحصار بشكلٍ مُتناقِضٍ في تلوّثِ الهواء في بلدة التعدين النائمة، حيث يوجد مخزونٌ ضخم من الفوسفات في الهواء الطلق في وسط المدينة منذ ذلك الحين.
من بين الشباب العاطلين من العمل، ينجحُ البعضُ في العمل في السوق السوداء للسلع المهربة من الجزائر المجاورة، بينما يحلم آخرون، مثل محمد البالغ من العمر 30 عامًا، بأوروبا.
بعد أن أعاده خفر السواحل مرّتين أثناء محاولته الوصول إلى جزيرة لامبيدوزا الإيطالية، يجلس هذا الجيولوجي الذي علّمَ نفسه بنفسه والمُعجَب المتحمس بجبال قفصة أمامَ مدخلِ منجمٍ مهجور تحت الأرض ويوافق: “ثراء التربة هو ما تبقّى لنا”.
- أريانا بوليتي هي صحافية مستقلة إيطالية مقيمة في تونس متخصصة في القضايا البيئية والاجتماعية وما بعد الاستعمارية في البحر الأبيض المتوسط.
- سفيان فيليب ناصر هو صحافي مستقل مقيم في تونس، ويعمل بدوامٍ جُزئي في مكتب “مؤسسة روزا لوكسمبورغ” في شمال أفريقيا. وهو يغطي مصر والجزائر وتونس بالإضافة إلى قضايا الهجرة والحدود لصالح وسائل إعلام مختلفة في أوروبا وشمال أفريقيا.
- (تم دعم هذا التحقيق من قبل صندوق الصحافة في أوروبا).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.