لماذا اختارت إسرائيل التَصعِيد؟
يبدو أن هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الفائت أفقدَ إسرائيل الثقة بالنفس وبقوة الردع التي تميّزت بها، ويبدو أيضًا أنَّ الاغتيالات الخطرة التي تقوم بها هي محاولة يائسة لاستعادة هذا الردع الذي لن تستعيده بهذه السهولة.
داليا داسا كاي*
الحربُ، التي اندلعت منذُ عشرة أشهر بين إسرائيل و”حماس” في قطاع غزة، خرجت من عقالها ومن جغرافيتها المحلّية، ما أدّى إلى تصعيدٍ عسكري خطير في جميع أنحاء الشرق الأوسط –اشتباكاتٌ مُميتة على الحدود الإسرائيلية-اللبنانية، وهجماتٌ للحوثيين في البحر الأحمر وعلى تل أبيب، وهجماتٌ من قبل الميليشيات المُتحالفة مع إيران ضد القوات الأميركية في العراق وسوريا، وحتى اشتباكات مباشرة بين إسرائيل وإيران. ثم، في غضون 24 ساعة في الأسبوع الفائت، أعلنت إسرائيل مسؤوليتها عن اغتيال فؤاد شكر، أحد كبار قادة “حزب الله”، في بيروت ردًّا على هجومٍ صاروخي مزعوم ل”حزب الله” في مرتفعات الجولان، ويُفترَضُ أنَّ إسرائيل كانت وراء مقتل إسماعيل هنية، الزعيم السياسي ل”حماس”، في طهران. إنَّ هذه الضربة المزدوجة جعلت العديد من المراقبين يخشون اندلاعَ حربٍ إقليمية أكثر كارثية.
لكن لماذا تُصَعِّدُ إسرائيل الآن على هذا النحو الخطير؟ من المؤكَّد أنَّ هجماتها الأخيرة ليست غير مسبوقة في حَدِّ ذاتها. فلدى إسرائيل سجلٌّ طويل في اغتيال القادة الفلسطينيين، كما قتلت مئات من عناصر “حزب الله” في لبنان وسوريا. وأظهرت إسرائيل أيضًا منذ فترة طويلة قدرات استخباراتية تسمح لها بالتغلغل في عُمقِ إيران. ولم تؤدِّ جولات التصعيد السابقة على مدى الأشهر العشرة الماضية إلى حربٍ إقليمية شاملة. لكن خفضَ التصعيد والاحتواء في نهايةِ المطاف ليسا مَضمونَين أبدًا؛ إذ قد تتغلّبُ الأحداثُ على الأرض فجأة على الحسابات العقلانية لأيِّ دولةٍ تُفضّلُ ضبطَ النفس، ما يؤدّي إلى سوءِ التقدير أو حتى القرارات الاستراتيجية المتعمَّدة لاستفزازِ صراعٍ أوسع نطاقًا. الواقع أنَّ وتيرةَ وطبيعة الضربات الإسرائيلية الأخيرة تَزيدُ بشكلٍ كبير من التصعيد الأكثر خطورة. ولا شكَّ أنَّ زعماءَ إسرائيل يُدرِكونَ أنَّ اغتيالَ شكر وهنية المتتاليين ــ وحقيقة أنَّ أساليبَ القتل أدّت إلى تعظيم إذلال إيران ــ من المرجح أن تدفعَ طهران، وربما الجماعات المسلحة الأخرى التي تدعمها، إلى الردّ. إنَّ التقاريرَ التي تبثُّها وسائل الإعلام الغربية عن الاغتيالات التي وقعت الأسبوع الفائت تَميلُ إلى تسليطِ الضوءِ على قدراتِ إسرائيل على شنِّ هجماتٍ عسكرية وتكنولوجية مُتَطوِّرة في عمق أراضي العدو. وبعد الحرج الذي لحق بها في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، ربما تُعطي هذه الصور الانطباع بأنَّ الجيش الإسرائيلي أصبح مرة أخرى لا يُقهَر. لكن هذا التفسير يُسيءُ فَهمَ الحقائق الصعبة التي تواجهها إسرائيل. ربما تحاول الدولة العبرية تجاوز حدودها في تحرّكاتها الإقليمية ليس لأنها تشعر بالقوة، بل لأنها تشعر بالضعف. من الناحية الأساسية، لا تستعين إسرائيل بحساباتٍ استراتيجية طويلة الأجل في اتخاذ قراراتها. فقد وَجَّهَ هجوم “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) ضربةً مدمِّرة لموقفها الردعي. والآن، ومع استعدادها لتحمُّلِ مخاطر أعظم وتحمُّل تكاليف أعلى، تسعى إسرائيل إلى تحقيق مزايا تكتيكية كلّما سنحت لها الفرصة في محاولةٍ محمومةٍ لاستعادةِ الردع.
عامل الخوف
لكي نفهم الحسابات الإسرائيلية الحالية، فمن الأهمّية بمكان أن نُدرِكَ كيفَ تغيَّرت نفسية البلاد منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر). فقبل هجوم “حماس”، كانت ثقة إسرائيل قد بلغت ذروتها. فقد أصبحت تعتقد أنَّ الدول العربية سوف تقبلها حتى لو لم تحل صراعها مع الفلسطينيين، وأنها قادرة على ضرب إيران وحلفائها من دون عواقب أو تعريض الدعم الذي تتمتّع به من الولايات المتحدة للخطر. ثم، بين عَشيةٍ وضُحاها تقريبًا، تحوّلت هذه الثقة إلى شعورٍ عميقٍ بالضعف. وفي زيارةٍ قمتُ بها إلى تل أبيب في أواخر حزيران (يونيو)، أخبرني خبراء أمن ومسؤولو دفاع واستخبارات سابقون مرارًا وتكرارًا أنَّ السابع من تشرين الأول (أكتوبر) قلبَ العديدَ من المُعتقدات الإسرائيلية السابقة حول قوتها. فقد حطّمَ هجومُ “حماس” الافتراضات الأساسية لدى الإسرائيليين: وهي أنَّ تفوّقهم العسكري والتكنولوجي قادرٌ على ردع خصومهم، وأنهم قادرون على العيش بأمان خلف الجدران والحدود المُحَصَّنة، وأنهم قادرون على الازدهار اقتصاديًا من دون تحقيقِ تقدُّمٍ كبيرٍ نحو السلام مع الفلسطينيين. والآن، بدأ كثيرون في المؤسّسة الأمنية يُدركون أنَّ “إسرائيل ليست قوية إلى هذا الحد”، كما أخبرني أحد مسؤولي الأمن القومي السابقين بصراحة.
إنَّ الكثيرينَ من الإسرائيليين الذين يدرسون أو يعملون في مجال الأمن القومي غاضبون من حكومتهم بسبب إخفاقاتها الأمنية الهائلة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) وما بعده؛ كما إنّهم غاضبون لأنَّ القادة الذين فشلوا في الحفاظ على أمن البلاد لم تتم محاسبتهم. إنَّ انعدامَ الثقة في الحكومة مُنتَشِرٌ على نطاقٍ واسع. ربما تلقى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو تصفيقًا حارًا عندما ألقى خطابه أمام الكونغرس الأميركي في تموز (يوليو)، لكن مستشاره للأمن القومي، تساحي هنغبي، لم يتمكّن من قول كلمة واحدة عندما تحدّث في مؤتمرٍ أمني إسرائيلي في هرتسليا قبل أسابيع. لقد قاطعه الحاضرون واتّهَموا الحكومة بإهمال سلامة إسرائيل وفشلها في إنقاذ الرهائن الذين ما زالوا يُعانون في غزة. وحتى داخل إسرائيل، هناك تصوُّرٌ واسعُ النطاق بأنَّ نتنياهو ربما يُطيلُ أمدَ الحرب من أجل بقائه السياسي.
إنَّ هذا القلق والغضب يعكسان تحدّياتٍ محلّية ملموسة للأمن القومي الإسرائيلي. إنَّ القوات العسكرية الإسرائيلية مُنهَكة على جبهاتٍ مُتعدِّدة، من غزة إلى الضفة الغربية إلى شمال إسرائيل وما ورائها. لقد خلقت محاولة نتنياهو لإصلاح القضاء في البلاد في النصف الأول من العام 2023 بالفعل انقساماتٍ خطيرة بين القادة المدنيين وكبار القادة العسكريين؛ وردًّا على الضغط الذي قام به ائتلاف نتنياهو، هدّدَ الآلاف من جنود الاحتياط الإسرائيليين بعدم الذهاب إلى الخدمة. إنَّ الجيش يواجهُ تهديداتٍ غير مسبوقة من المُتَطرِّفين المحلّيين، بما في ذلك من داخل صفوفه وصفوف الحكومة. في الأسبوع الماضي فقط، اقتحمَ ناشطون وسياسيون من اليمين المتطرف إحدى قواعد الجيش الإسرائيلي للاحتجاج على احتجاز جنودٍ احتياطيين مُتَّهَمين بإساءة معاملة السجناء الفلسطينيين. يبدو أنَّ إسرائيل تفقدُ الدعم الدولي بسبب العدد الهائل من القتلى والدمار في غزة، وفي المنتديات القانونية في لاهاي، تواجه تدقيقًا متزايدًا لسلوكها في الحرب واحتلالها المستمر للضفة الغربية.
كذبة نيسان (أبريل)
إنَّ التأثيرَ الذي خلّفه الهجوم الإيراني في نيسان (أبريل) الفائت على إسرائيل لم يحظَ بالتقدير الكافي خارج البلاد. فمن الواضح أنَّ إسرائيل أخطأت في حساباتها عندما استهدفت أفرادًا من الحرس الثوري الإسلامي في منشأة في دمشق اعتبرها الإيرانيون موقعًا ديبلوماسيًا. ولم تكن إسرائيل تتوقّعُ مثل هذا الرد غير المسبوق والضخم والمباشر الذي تضمّنَ مئات الطائرات المُسيَّرة والصواريخ التي أُطلِقت من الأراضي الإيرانية على إسرائيل.
ورُغمَ إعجاب الإسرائيليين بالدفاع المُتَطَوِّر والمُنَسَّق الذي قادته الولايات المتحدة والذي صدّ الهجوم، إلّا أنه خرَقَ أيضًا صورتهم المُعتَمِدة على الذات. فقد طغى على أيِّ شعورٍ بالانتصار الانزعاج من أنَّ إيران حاولت شنَّ مثل هذا الهجوم الخطير في المقام الأول ــ والقلق من أنَّ الهجومَ التالي من هذا القبيل قد لا يكون من السهل صدّهُ. وكان المُحَلِّلون الإسرائيليون سُعداء لأنَّ الردَّ الإسرائيلي ــهجوم جوي محدود على قاعدة عسكرية إيرانية في أصفهان استهدف الدفاعات الجوية الإيرانيةــ أظهر قدرة إسرائيل على ضَربِ أهدافٍ بدقّة داخل إيران، بما في ذلك المواقع القريبة من المنشآت النووية الإيرانية.
لكن المسؤولين الدفاعيين الإسرائيليين لا يشعرون بالضرورة بالارتياح في الاعتماد على الرَدعِ بالإنكار ـ أي إقناع الخصوم بأنَّ الهجمات لن تنجح ـ كما تفضل الولايات المتحدة. في نظر هؤلاء المسؤولين فإنَّ دفاعَ إسرائيل في نيسان (إبريل) لم يكن نجاحًا كاملًا، وذلك لأنَّ التحالف الدفاعي لم يمنع الهجوم في نهاية المطاف؛ بل إنه حدَّ من الأضرار فحسب. ويُفَضّلُ مُخطِّطو الدفاع الإسرائيليون الردع بالعقاب ـ إظهار الخصوم أنّ الهجمات سوف تستفزُّ عواقب شديدة. ويشعرُ العديدُ من المُحَلِّلين الأمنيين الإسرائيليين بالقلق إزاء تآكل موقف إسرائيل الإقليمي؛ وهم يخشون أن تكتسبَ إيران وحلفاؤها المزيد من القوة، وأن تكتسب طهران المزيد من الحوافز لتسليح قدراتها النووية إذا اعتقدت أنها غير قادرة بالقدر الكافي على ردع إسرائيل بالوسائل التقليدية. وهم يعتقدون أنَّ البلاد تتدهور إلى مرتبةٍ ثانوية مع محاولة إيران الوصول إلى “دوري الأبطال”، كما قال أحد المسؤولين السابقين في الأمن القومي. وقال لي مسؤول دفاعي سابق آخر إنَّ إسرائيل تفقد الردع “إلى حد لم نشهده من قبل”. ومع ذلك فإنَّ القيادة السياسية في إسرائيل تُواصِلُ إخبارَ شعبها بأن البلاد تنتصر. لقد أدى الهجوم الإيراني في نيسان (إبريل) إلى تعميقِ تصوّرِ الإسرائيليين للتغيير الجذري في “روح” الشرق الأوسط. ويعتقدون أنَّ خصومَ إسرائيل قد يعتقدون الآن أنَّ تدميرَ البلاد هو في الواقع هدفٌ واقعي. قد يكون هذا القلق مُبالَغًا فيه – فإسرائيل تحتفظ بأكثر القدرات العسكرية تقدُّمًا في المنطقة وتستمر في الحصول على الدعم القوي من الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى في حربها ضد إيران. لكنَّ المُحلِّلين الإسرائيليين الرصينين يُعَبِّرون الآن عن شعورٍ بالتهديد الوجودي الذي يصفونه بأنه مختلفٌ عن أيِّ شعورٍ شعروا به منذ استقلال البلاد في العام 1948. ولكن على عَكسِ العام 1948، لاحظَ أحد كبار المسؤولين السابقين، أنَّ إسرائيل لا تنتبه إلى دروس رئيس وزرائها المؤسس ديفيد بن غوريون. لقد نصح بن غوريون بأنَّ أفضلَ السُبُلِ للتعويض عن الضعف هو تعزيز التماسك الاجتماعي وتعميق العلاقات الديبلوماسية والسعي إلى السلام. لكن إسرائيل تتحرّك في الاتجاهِ المُعاكِس على جميع الجبهات.
صعودًا على الطريق المُتَصَلِّب
في أثناء زيارتي، أخبرني أحد المسؤولين الحكوميين السابقين أنَّ “الأرضَ تتغيّرُ تحتَ أقدامنا”. وهذا صحيحٌ من بعض النواحي؛ ومن نواحٍ أُخرى، إنهُ تصوُّرٌ، أو صورةٌ مُعاكِسة لصورةِ الذات المُفرِطة الثقة التي كان الإسرائيليون يحملونها قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر). لكن نظرًا للتصوُّرِ والواقعِ المُتمثّلِ في تزايد الضعف ــوثقة الإسرائيليين في أنهم سيحتفظون بدعم الولايات المتحدةــ فمن المُرجَّح أن تُحافظَ إسرائيل على موقف عدواني في المنطقة حتى ولو أدّى ذلك إلى زيادةِ خطر اندلاعِ حربٍ إقليمية أوسع نطاقًا. بعد صدمةِ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، ربما يكون قبول الجمهور الإسرائيلي للمخاطرة وشهيته للأعمال الهجومية أعلى أيضًا. وكما أخبرني أحد المحللين الإسرائيليين، “كلُّ شيءٍ يُمكن تصوُّرهُ الآن”.
لكن إسرائيل تُخاطر ببقائها من دون أيِّ استراتيجيةٍ سياسية. ومن غير المرجح أن يؤدّي وضع الثقة في القوة العسكرية الغاشمة لاستعادة الردع ومضاعفة المواجهة مع إيران وحلفائها من دون خطّةٍ سياسية أو استراتيجية إلى تغييرِ الديناميكيات الإقليمية الناشئة التي تُقلِقُ المُخطّطين العسكريين الإسرائيليين إلى حدٍّ كبير. ولكن من غير المرجح أن يردع ذلك أعضاء “محور المقاومة”، الذين قد يضاعفون جهودهم بطرُقٍ غير مُتَوَقَّعة ويفاجئون إسرائيل مرة أخرى.
من المؤكّد أن إنهاء الحرب في غزة من شأنه أن يساعد على الحد من التهديدات الهائلة التي تواجهها إسرائيل الآن، على الرُغم من أنَّ جولةَ التصعيد الحالية من غير المرجح أن تؤدّي إلى اتفاق وقف إطلاق النار أو إطلاق سراح الرهائن الإسرائيليين المتبقين. ولكن حتى إنهاء الصراع في غزة لن يحلَّ في نهاية المطاف المعضلة الاستراتيجية الأكبر التي تواجهها إسرائيل. وإذا كانت إسرائيل لا تزال تعتقد أن دمج نفسها بشكلٍ أكثر اكتمالًا في الشرق الأوسط من خلال إبرام صفقات التطبيع مع جيرانها العرب من شأنه أن يُهمِّشَ الجماعات المتطرفة المدعومة من إيران ويُقلّل من العداء تجاه البلاد، فيجب عليها أن تتصالحَ مع حقيقةٍ مفادها أنَّ صراعَها مع الفلسطينيين يشكل التهديد الوجودي الأكثر جوهرية بالنسبة إليها. قد تُعطي العمليات العسكرية التكتيكية المُثيرة للإعجاب وَهمَ النصر، ولكنَّ السلامَ الدائم مع الفلسطينيين فقط هو الذي يمكن أن يجلب الأمن الحقيقي.
- داليا داسا كاي هي زميلة بارزة في مركز بيركل للعلاقات الدولية التابع لجامعة كاليفورنيا في لوس أنجلوس.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.