العِراقِيُّ الغامِض

قراءَةٌ مُتَأَخِّرة في عقلِ صدّام حسين

الملك غازي بن فيصل الهاشمي: كان أول من طالب بضمِّ الكويت إلى العراق.

(11)

الغازي

سليمان الفرزلي*

سَوَّى الجنرال بيرسي زكريا كوكس، المُقيم السياسي البريطاني في الخليج، من وَضعِ نظّارتهُ على أرنبةِ أنفِهِ، مَسَحَ بعَينَيهِ خارطةً كبيرة رُسِمَت بدقّة لمنطقة الخليج، ضغطَ بأصابعه على قلمٍ حبرُه أحمر قانٍ، رفعهُ مرَّات الى الخارطة، وتردَّد مرَّات، فهو كان في قرارة نفسه يعرفُ أنه بشحطةٍ من القلم المحبوس بينَ إصبعَيه، سيُقرِّرُ مصيرَ أُمَمٍ، ودولٍ، وما سيأتيه قد يكون ذريعةً لصراعاتٍ ظاهرها “الحدود”، و”جوهرها” الوجود.

في نجد، كان سلطانها، عبد العزيز بن عبد الرحمن آل سعود، يرهصُ مُتَهَيِّئًا لقرار بيرسي كوكس في تركيب حدود المنطقة، وهو ظنَّ أن الجنرال الإنكليزي سيُنصفه، ويعطيه ما تمنَّاه، ويراه حقّهُ… خصوصًا أنّهُ كان يثقُ بصديقه النقيب وليام إيرفن شكسبير، الذي قدَّمهُ إلى الجنرال كوكس، فجلس مرَّات إلى الحديثِ معه. وكان النقيب شكسبير أتاه سنة 1914 من محميةِ الكويت إلى “الخفسة”، قاطعًا 33 ميلًا في الصحراء على مدى 19 يومًا، ليعقد معه اتفاقًا وثَّق العلاقات بين بريطانيا والسلطان السعودي، فلازمه، وخاضَ إلى جانبه معاركَه كلَّها، إلى أن قضى في معركة “الجرب”، التي كتب عنها أمين الريحاني في “ملوك العرب”، واصفًا كَرّ وفَرّ النقيب شكسبير فيها.

في طريقهما إلى الأمير السعودي، قال النقيب شكسبير للجنرال كوكس: “إنَّ الرجلَ الذي سنقابله هو زعيمٌ بدوي، داهية، من المُمكن أن يُصَعِّبَ علينا تحقيق مأربنا في المنطقة، وبسط سيطرتنا على قبائل الجزيرة”.

إلّاَ أنَّ الجنرال كوكس كان يرى مصلحة بريطانيا وحدها، وكلُّ ما يُعزّزُ بسطَ هيمنتها وسيطرتها على المنطقة بعد ترتيبها ورسم الحدود بين دولها، لم يكن في تصوُّره أنَّ أحدًا يستطيعُ مواجهة وتحدّي سلطة بريطانيا العظمى، أو يتجرّأُ على ذلك.

في “ميناء العقير”، يوم الثاني من كانون الأول (ديسمبر) سنة 1922، مدَّ الجنرال كوكس يده على الخارطة أمام أسياد الملأ الخليجي، وبشحطةٍ من قلمه الأحمر، رَتَّبَ الحدود المُتنازَع عليها بين “نجد”، والعراق، والكويت، فوقّعوا على البروتوكولات التي وضعها الجنرال كوكس.

وقفَ الملك عبد العزيز أمام تلك الخارطة، وإلى جانبه الأديب اللبناني أمين الريحاني، (فيلسوف الفريكة، كما كان يُدعى)، مشى بعينيه على الخط الأحمر، وبكى من الخيبة والغضب، حتى اخضلَّت لحيته، التفت إلى الجنرال بيرسي، الذي لم يُظهر أي تأثُّر، وقال له: .”لقد أعطيتَ نصف مملكتي إلى آل الصباح”.

روى هذا المشهد الكولونيل هارولد ديكسون، الضابط الإداري البريطاني في الكويت والخليج، في كتابه القَيِّم “الكويت وجاراتها” (وَضَعتُ نصَّه العربي في العام 1963 بتكليفٍ من الصديقِ الراحل الدكتور بشير الداعوق مؤسس “دار الطليعة” للنشر).

***

أقامَ الخطُّ الأحمر، الذي رسمه الجنرال كوكس، منطقتَين مُحايدتَين: واحدة بين سلطنة نجد ومحمية الكويت، وأخرى بين العراق وسلطنة نجد. وقتها، لم يكن لشيوخ آل الصباح أيُّ رأيٍ في مسألةِ الحدود، فقد كان الضابط البريطاني جون مور هو صوت الكويت المسموع.

وهذا الخط الأحمر “اللعين”، كما سمّاه سلطان نجد، رسَّخ البغضاء والعداوة بين سلطنة نجد ومحمية الكويت، كما توسَّعَ التنازع والتخاصم، فطاول العراق والكويت.

في ثلاثينيات القرن الماضي، احتدم النزال الدامي بين “الإخوة” في السعودية وفي الكويت. واشتدَّ القتالُ في “الجهرة”، وكانت الغلبة لمقاتلي الملك السعودي، الذين جندلوا في الميدان ما يزيد على ألفي مقاتل كويتي.

إلاًّ أنَّ الملك عبد العزيز لم يكتفِ بذلك، فضربَ حصارًا على الكويت استمرَّ من سنة 1923 الى سنة 1937.

أما العراق، فقد غَبَنَ الجنرال كوكس حقَّه، والأغلب على الظن أنه كان عن عَمَد، فحرَمَ بلاد الرافدين من المياه العميقة في بحر الخليج، وظلَّ العراق، على تعاقُب السنوات، والعهود، والحُكّام، وصولًا إلى صدّام حسين، يبحثُ عن منفذٍ باتجاهِ البحر يسمحُ له إقامة مرافئ بحرية تجارية كبرى.

والأهمُّ من ذلك كله، أنَّ خطَّ الجنرال كوكس الأحمر حَرَمَ بغداد من إنشاءِ قاعدةٍ عسكرية بحرية لمواجهةِ الأخطار الآتية من البحر.

***

إنَّ الصراعَ الأوَّل والأكبر في الخليج سبقَ “بروتوكولات العقير” وخطّها الأحمر واستمر بعدها. وكانَ بين السعوديين والآخرين، ومنهم العراق.

العداءُ السعودي القديم للكويت وشيوخها، كان في الواقع جُزءًا من الغزوات العشائرية و”الإخوانية” النجدية على الحواضر العراقية. فكما تعرّضت الكويت لتلك الغزوات، تعرَّضت لها أيضًا كربلاء والنجف وسامراء وغيرها من المناطق الحدودية مع نجد. بل يُمكِنُ القول إنَّ الهجمات “الإخوانية” السعودية من نجد على الكويت جَرَت باعتبارها جُزءًا من “الحالة العراقية”.

الغزواتُ النجدية تلك، في الكويت والعراق، كانت في غالبيتها غزواتٍ عشائرية شبه توسُّعية، بحثًا عن المراعي والمياه، لكن مفاوضات “العقير” تُشيرُ بغَيرِ لُبسٍ إلى أنَّ عبد العزيز آل سعود طالبَ من البداية بأن يجري رسم الحدود على “الخطوط العشائرية” المُتعارَف عليها قبل تحديدها بالخطِّ الأحمر. لكنَّ المفوَّض الجنرال كوكس رفضَ ذلك، وجعله غير قابل للتفاوض.

فالمسألة الكويتية، في الحساب السعودي القديم، تدخُلُ في بابِ “التوسُّع”، أما بالنسبة إلى العراق والعراقيين، فإنها تدخلُ في باب “الحقوق الوطنية”. لهذا، فإنَّ معظم الحكومات المتعاقبة في بغداد منذ عشرينيات القرن الماضي، دأبت على المُطالبة والمُناداة بضمِّ الكويت إلى العراق، استنادًا إلى ما كان عليه الأمر في الزمن العثماني، قبل مجيء الإنكليز إلى سواحل الجزيرة العربية، باعتبار أنها ضرورة أمنية للمصالح البريطانية في شبه القارة الهندية. وتبعًا لذلك، كانت تلك المناطق في الجزيرة العربية تابعةً إلى “حكومة الهند” وليس إلى” حكومة لندن”. ولم تكن نظرةُ الحكومتَين إلى تقرير الأمور هناك، نظرةً واحدةً متطابقة في بعض الأحيان، فلم يكن بالضرورة أن تسري الأمور هناك كما تُقرّرها لندن!

كانت حركة الملك غازي بن فيصل الهاشمي في بغداد، أولى المساعي الجدية لتوحيد الأقطار العربية، ومنها ضمّ الكويت والمناطق الشرقية من نجد إلى العراق. وقد تأثر غازي بأفكارِ جده الشريف حسين، شريف مكة، الداعية إلى توحيد العرب الخارجين من الإمبراطورية العثمانية في دولةٍ واحدة، واستعادة الخلافة الإسلامية إلى أصلها العربي.

سنة 1936 أنشأ الملك غازي في دارٍ مُلاصِقٍ لقصر “الزهور”، مقر إقامته في بغداد، إذاعةً تجريبية كاحتياطٍ لإذاعة بغداد الرئيسة، وحوَّلها إلى منبرٍ لنصرةِ القضايا العربية، وتوحيد أقطارها، و”صوتًا لليقظة القومية والحماسة العربية ووسيلة لتنوير الأذهان وإثارة العزائم”، (من مقال “ديموقراطية الملك” – جريدة “الاستقلال” 2/4/ 1939)، وعيَّنَ غازي عليها فريقًا من الأحرار. وبعدما أخذت تتجمّع في عهد الملك الهاشمي الشاب الأسباب التي أدّت الى توتُّرِ العلاقات مع الكويت، بدأت الصحف العراقية، وأبرزها جريدة “الاستقلال” و”الإخاء الوطني” و”الكرخ الأسبوعية”…  تُطالبُ بالتدخُّلِ لانتشالِ أوضاعِ الكويت الثقافية والاجتماعية، وبدأت تلك الصحف تتحدّثُ عن الروابط التاريخية، التي كانت سائدة بين البلدين، على اعتبار أنَّ إمارة الكويت كانت امتدادًا للعراق من النواحي السياسية والاجتماعية والجغرافية.

أدَّت إذاعةُ “قصر الزهور” دورًا في تأليبِ الرأي العام الكويتي على شيوخِ آل الصباح، وعمَّت التظاهرات في الكويت التي ترفُضُ الحماية البريطانية، وتناشدُ الجيش العراقي لإنقاذها. في كانون الأول (ديسمبر) سنة 1938، صوَّتَ عشرةُ أعضاء، من مجموع أربعة عشر عضوًا في المجلس التأسيسي الكويتي، للانضمام إلى العراق، فما كانَ من أمير الكويت إلّاَ أن حلَّ المجلس، وأصدر حكمًا بالإعدام على بعض المُعارضين.

راحَ تفكيرُ الملك غازي، بعد ذلك، يتَّجه نحو ضرورةِ التدخُّل العسكري في الكويت بدفعِ قطعاتٍ من الجيش نحوها، وأراد أن يعتمدَ عُنصرَ المُباغَتة وفرض الأمر الواقع في تنفيذ هذه الخطة، فقرَّر عدم مفاتحة الحكومة، وأن تتم العملية بأوامر مباشرة منه فقط، فأبلغ علي محمود الشيخ علي، “مُتصرّف البصرة”، أن يتهيَّأ لضمِّ الكويت إلى العراق، وفي الوقت نفسه أوعزَ إلى الفريق حسين فوزي، رئيس أركان الجيش بدفع قطعات وألوية عسكرية بُغية احتلال الكويت.

لم يشاطر السياسيون الملك الهاشمي الشاب في خطّته، واعتبروها مغامرة كبيرة لأنها ستُهدّدُ مصالح الانكليز البترولية في الامارة الكويتية، مما قد يُعرّضُ العراق إلى الخطر، خصوصًا بعد التحذير الذي صدر عن الحكومة البريطانية من أنَّ أيَّ محاولةٍ لضمِّ الكويت بالقوة، سيحمل الحكومة البريطانية على التدخُّلِ بأسرع ما تستطيع وبالقوة العسكرية المطلوبة”.

لكن حكم الملك غازي في العراق لم يدم طويلًا، فقد لقي حتفه في حادث سيارة بعد اعتلائه عرش أبيه بست سنوات وأسبوعين (من 21 آذار/مارس 1933 إلى 4 نيسان/أبريل 1939). ويعتقد كثيرون من العراقيين أنَّ الحادثَ كان مُفتَعَلًا، بسبب مواقفه السياسية الاستقلالية، ومنها المطالبة بإنهاء الوصاية البريطانية على الكويت وضمّها إلى العراق.

كان الملك غازي في السياسة العراقية الداخلية يميلُ إلى القوى الوطنية والقومية، خصوصًا في صفوف الجيش. وقد عيَّن أحد كبار السياسيين الوطنيين في بغداد، رشيد عالي الكيلاني باشا، مديرًا لديوانه، ويُشاعُ أنه هو الذي حرَّضه ضدّ الإنكليز، وفتح له قنوات اتصال مع ألمانيا الهتلرية. والمعروف أنَّ الكيلاني بعد سنتين من مصرع العاهل العراقي، ترأس الحكومة التي تشكَّلت في العام 1941 فور الانقلاب الذي قام به نفرٌ من الضباط الوطنيين في الجيش العراقي. وقد قمع الإنكليز ذلك الانقلاب بالقوة، وأعدموا بعض قادته من ضباط الجيش، بتهمة أنهم مدفوعون من الألمان، الذين كانوا يطمحون إلى السيطرة على النفط العراقي، وإحياء المشروع المُقترَح قبيل الحرب العالمية الأولى، بإنشاءِ خطٍّ للسكك الحديد بين بغداد وبرلين!

تلك كانت أول محاولة عراقية جديَّة لاسترجاع الكويت إلى “حضن الوطن الأم”، حسب التعبير العراقي السائد في تلك الأيام.

***

سنة 1961، بعد أسبوع واحد من إعلان استقلال ما سموه “دولة الكويت”، عقد عبد الكريم قاسم مؤتمرًا صحافيًا، طالبَ فيه بتلك الإمارة، مُهدِّدًا باستخدام القوة، مُعتَبرًا أن الإمارة الصباحية كانت جُزءًا لا يتجزّأ من العراق، وتمَّ اقتطاعُ هذا الجُزء من قبل “الإمبريالية الغربية”، حسب تعبيره، فهزَّ العالم العربي، ثم أجرى مناورة عسكرية كان الهدفُ منها إضفاءَ طابع الجديَّة على المُطالبة بالكويت.

قامت قيامة “جامعة الدول العربية”، وطالبت بالتدخّل لمواجهة تهديدات عبد الكريم قاسم، الذي لقي معارضة شديدة، من طرفَين نقيضين: الرئيس المصري جمال عبد الناصر، والعاهل السعودي الملك سعود بن عبد العزيز، ولكلِّ منهما سببه الخاص:

جمال عبد الناصر كان يعتبر عبد الكريم قاسم خصمه الأول في المشرق العربي منذُ ابتعاد الثورة العراقية بقيادته عن الحركة التوحيدية التي أطلقها الرئيس المصري باتجاه سوريا، ونتج عنها قيام “الجمهورية العربية المتحدة” بين الإقليمين السوري والمصري. وقد تدخلت أجهزة عبد الناصر السورية تدخّلًا فعّالًا في الشأن العراقي خلال حُكم عبد الكريم قاسم، الأمر الذي تسبّب بوقوع حوادث دامية في شمال العراق، وكادت تشمل كامل الخريطة العراقية، لولا الحسم، والشدة التي ضرب بها قاسم “القوى الناصرية”، بدعم مكشوف من الشيوعيين. وكان لا بدَّ بعد ذلك كله أن يرسل الرئيس المصري فرقةً من جيشه إلى الكويت، لحمايتها من أيِّ “غزوٍ” عسكري عراقي ينوي عبد الكريم قاسم القيام به.

أما السعودية فقد كانت تعتبر الكويت جُزءًا من منطقة نفوذها في الخليج (مع أن الكويتيين كانوا يمقتون ذلك).

تلك المرحلة كانت محفوفةً بالغموض على الصعيد الدولي، ولم تتكشَّف غوامضها إلّاَ بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وفتح الأرشيف السري، بما ينبئ عن تناقضاتٍ جوهرية بين ما هو مُعلَن وبين ما هو مستور. ففي الوقت الذي كان عبد الناصر يُنكّلُ بالشيوعيين في مصر وسوريا، وبينما كانت موسكو تُعارضُ بشدة قيام “الجمهورية العربية المتحدة”، نَسَجَ مدير الاستخبارات السوفياتية في ذلك الوقت، ألكساندر شيليبين (وهو من قدامى الستالينيين)، خطةً أقنع بها رئيس الحكومة نيكيتا خروتشوف، قضت بحمل عبد الناصر على التدخّل إلى جانب التمرُّد الكردي في شمال العراق بهدفِ زعزعةِ المصالح النفطية الغربية في المنطقة، لقاء وعدَين خطيرَين يتناقضان مع السياسات السوفياتية المُعلنة: الأول، يقضي بتسليح الجيشين، الأول والثاني في “الجمهورية العربية المتحدة” بأحدث الأسلحة السوفياتية، أما الوعد الثاني، وربما الأهم، فقد كان  تأييد الاتحاد السوفياتي لضمِّ الجُزءِ غير الكردي من العراق إلى الوحدة السورية-المصرية!

لسببٍ من الأسباب، لم تتحقق تلك الخطة، ويمكن أن يُستَدَلَّ من تصريحاتِ الزعيم السوفياتي نيكيتا خروتشوف، خلال وجوده في مصر لتدشين المرحلة الأولى من السد العالي في أسوان مطلع العام 1964، أنه ربما كانت للكويت علاقةٌ بذلك. فقد أحرج خروتشوف مضيفه عبد الناصر، عندما أطلق بحضوره حملة تشهير بدولة الكويت، وأميرها، بقوله: “إنه أسهل على المرء أن يأكلَ الملح من أن يصافح شيخ الكويت”، مطلقاً عليه نعتًا قذرًا!

ربما كان ذلك من باب النقد العلني للرئيس المصري بسبب نصرته للكويت عندما طالب بها عبد الكريم قاسم، خصوصًا أنَّ للزعيم السوفياتي سوابق من هذا النوع، ومع عبد الناصر بالذات، عندما عاتبه مُحتَجًّا على قتل أجهزته في سوريا للمناضل الشيوعي اللبناني فرج الله الحلو.

***

صدّام حسين تميَّزَ عن سابقيه في حُكم العراق بأنهُ أقرَنَ القولَ بالفعل عندما أقدم على غزوِ كامل دولة الكويت، وأعلن ضمّها رسميًا إلى العراق يوم الثاني من آب (أغسطس) 1990. بل هو تعدّى الأراضي الكويتية التي سيطر عليها إلى منطقة “الخفجي” السعودية (التي كانت جُزءًا من المنطقة المُحايدة بين سلطنة نجد والكويت، كما رسمها بالخط الأحمر السير بيرسي كوكس)، وبوجودِ كامل قوات التحالف الدولي التي تجمّعت هناك لانتزاع الكويت من القوات العراقية!

كان صدّام حسين، بعد سنة من توقُّف الحرب مع إيران، قد عقد مع العاهل السعودي الملك فهد بن عبد العزيز “معاهدة عدم اعتداء” بين بلديهما، ولذلك فإنَّ اقتحامَ القوات العراقية في الكويت لمنطقة “الخفجي” السعودية الغنية بالنفط كان ملفتًا ومُستغرَبًا ومُنافيًا لما جاء في تلك المعاهدة. لكن القول الساري في الأوساط الديبلوماسية، في حينه، يشيرُ إلى أنَّ المقصودَ الضمني من المعاهدة المذكورة هو “اقتسام الكويت بين العراق والسعودية”، وأنَّ صدّام عندما رأى أنَّ الملك فهد نكث بالمعاهدة، (التي ينكر السعوديون وجودها)، قرّرَ اقتحامَ منطقة الخفجي، في محاولةٍ رمزية لإعادتها إلى الكويت “المُستعادة” إلى الحضن العراقي ولو بالغصب!

أخذها صدام حسين غصبًا، ولأسبابٍ ليست مؤكّدة إلى اليوم، على الرُغم من وجودِ عددٍ من الشواهد والقرائن تشير إليها. وليس خافيًا أنَّ الرئيس العراقي الراحل كان يمقتُ حكّام الكويت، ويصفهم بنعوتٍ أشدّ استعلائية وتحقيرًا من تصريح خروتشوف في حضرة عبد الناصر. بل هو كان أشد قساوة ووضوحًا بحقّهم وهو في المعتقل الأميركي يواجه المحاكمة في محكمة الاحتلال!

إنَّ المعروفَ والسائد من حكاية مغامرة صدام حسين بغزو الكويت، هو في غالبيته من جانبٍ واحد بسبب الهيمنة الغربية على الإعلام العالمي، الذي كان دأبه بعدَ توقُّفِ الحرب العراقية مع إيران في العام 1988 “شيطنة” صدّام حسين، ومحاولة تهميشه، وإبقاء العراق ضعيفًا، فقيرًا، متسوِّلًا، يلعقُ جراحه وهو سائر في طريق الموت البطيء!

بعد غزوة صدام للكويت، لم يُسمَع صوتٌ، ولو همسًا، عن الأسباب الموجبة التي “حشرته”، وأخرجته عن طوره، بحيث تعامى عن كلِّ نصحٍ، وأسكت كلَّ صوتٍ دعاه الى التعقُّل.

في 15 تموز (يوليو) 1990 أرسل طارق عزيز، وكان وزيرًا للخارجية، رسالةً الى الشاذلي القليبي، الأمين العام لجامعة الدول العربية، تتضمّنُ إشارةً واضحة “بأنَّ حكومتَي الكويت والامارات قامتا بعدوانٍ مباشر على العراق والأمة العربية، وأنَّ العراق يُسجّلُ أمامَ الجامعة العربية حقَّه في استعادة المبالغ المسروقة من ثروته النفطية…”( قدرها صدام حسين في خطاب في 16 تموز/يوليو 1990 بما يزيد على 14 مليار دولار).

وما قالته جريدة ” القادسية”، لسان حال الجيش العراقي، تعليقًا على رسالة طارق عزيز إلى الشاذلي القليبي، يُضيءُ على جانب من أسباب الغزوة الغاصبة: “إننا نعلمُ ومعنا كل العالم، (تكتب “القادسية”)، بأنَّ الكويت والامارات ليستا بحاجةٍ الى أموال أو رؤوس اموال حتى تقوما بزيادةِ إنتاج النفط أو تخفيض أسعاره. فالتحصيل الحاصل، وهو تدبير مؤامرة جديدة ضد العراق، أو خنق اقتصاده، ومورده الرئيسي، الذي هو النفط، وصولًا إلى تحقيقِ الهدف المرسوم لهم، وهو تركيع العراق اقتصاديًا، وعرقلة دوره القومي وهذا ما يسعى له أعداء الأمة العربية…”.

أبلغني المصرفي العراقي الراحل صبيح محمود شكري، أنه رتَّبَ زيارةً لرئيس الحكومة البريطانية الأسبق إدوارد هيث إلى بغداد لمقابلة الرئيس العراقي بعد احتلال القوات العراقية للكويت، فأجرى السياسي البريطاني المخضرم، محادثةً مطوَّلة مع صدام حسين، نصحه خلالها بسحب جيشه من الداخل الكويتي، إلى حزامٍ أمني في الأراضي الكويتية على الحدود العراقية، مُحدِّدًا منطقة “المطلاع”…  والتفاوض بالوساطة، من طريق طرفٍ ثالثٍ مقبول منه، حول مطالبه من الكويت لقاء الانسحاب الكامل، وهو إجراءٌ من شأنه أن يُبعِدَ شبح الحرب الشاملة… إلّا أنَّ صدّام حسين لم يقبل بهذا الاقتراح.

كانت لديه قناعةٌ راسخة من ناحيةِ حتميَّةِ الحرب، مُستَبعِدًا أي حلٍ للمشكلة بطريقةٍ أخرى، نابعة من يقينه، حسب الوثائق العراقية التي استولى عليها الأميركيون بعد احتلالهم بغداد (أي بعد 13 سنة على احتلال صدام للكويت)، بأنَّ الأميركيين وحلفاءهم عازمون على تدميره، وتدمير جيشه، وتمزيق العراق، وإضعافه الى الأبد، “لأنَّ الصهيونية هي التي تتحكَّم بالقرار الأميركي”!

ما من شكٍّ في أنَّ الطريقة التي اقتحمَ فيها صدام حسين الكويت كانت قاسية وشديدة، مهما قيل في الأسباب الموجبة لردع الصلف الكويتي. لكن هذا هو صدّام حسين الذي لا يحتمل المزاح واللعب معه، وكان على الكويتيين أن يعرفوا ذلك، وأن يتداركوه.

من جهةٍ ثانية، ألقى غضبه من الكويتيين وعليهم غشاوةً على عينيه فما عادَ ميَّز بين عدوٍّ وصديق، خصوصاً أنه لم يجد أيَّ نصيرٍ كويتي له، حتى من خصوم آل الصباح الحاكمين، وبالأخص في صفوف “حزب البعث الكويتي” الموالي سابقًا للعراق. لم يقبل البعثي الكويتي فيصل الصانع، وكان نائباً في مجلس الأمة، أن يُشَكِّلَ حكومةً كويتية موالية له، فاحتجزه صدام حسين وأعدمه مع رفقاءٍ آخرين. وقد كتبتُ، وقتها، أكثر من مقال في نقدِ واستنكارِ تعامل الرئيس العراقي مع فيصل الصانع، وهو صديقٌ قديمٌ لي، منذ أن كان يدرس في باريس في أواخر ستينيات القرن الماضي.

لكن الغريب في الأمر، أنَّ عدمَ تعاوُنِ أيٍّ من السكان المحلّيين معه لم تكن تجربته الأولى، فقد واجه الحالة ذاتها من قبل عند احتلاله لمنطقة “خوزستان” العربية في إيران في بداية الحرب العراقية–الإيرانية، مع أنه كانت في تلك المنطقة سابقًا حركة تمرُّد على الحكم الإيراني تُسمى “جبهة تحرير عربستان”. تمامًا كما جرى في الكويت تاليًا، لم يجد له في “المُحمَّرة” أيَّ نصيرٍ عربي!

إذن، ما هي تلك الأسباب التي أخرجت صدام حسين عن طوره، ودفعته الى الغزوة المدمِّرة؟

***

السبب الأهم، قناعة صدام حسين الراسخة أنَّ الأميركيين وضعوه أمام خيارَين صعبين، بتدبير وتخطيط من “الحركة الصهيونية”، التي تُديرُ وتتحكَّمُ في قرار واشنطن:

إما أن يُبادرَ إلى محاربة نظام الخميني في طهران، وإلّاَ فإنَّ العراق سوف يواجه حالةً من التمزُّق بفعل الثورة الإسلامية في إيران، يمكن أن تتطوّر إلى حربٍ أهلية ساحقة ينهار العراق بفعلها ويتشظَّى!

فهو عندما عقد اتفاقية الجزائر مع شاه إيران في العام 1975، الذي أدّى الى انهيار التمرُّد الكردي المدعوم من إسرائيل في شمال العراق، أيقنَ أنَّ الشاه “خرج عن طاعة الصهيونية”، لا سيما أنه قبلَ ذلك وَضَعَ حدًّا لتَحَكُّمِ شركات النفط الأجنبية بأسواق الطاقة، وصولًا إلى تأميم تلك الصناعة. يومئذٍ، أدرك صدام حسين أنَّ الشاه محمد رضا بهلوي بات “في دائرة الخطر”، لا سيما أنهُ جاهرَ من على شاشاتٍ أميركية، بالحديث الصريح عن “آليات التحكُّم الصهيوني” بقراراتِ الدول الغربية!

أما التفكير الآخر في عقل صدام حسين، كان يتركّزُ على أنَّ الحربَ بين إيران والعراق، لا تكفي لتعطيل تأثير هاتين القوتين الإقليميتين في الخليج.

صحيحٌ، أنَّ الحربَ أضعفتهما، لكنها لم تُخضِعهما. وبالتالي، كان لا بُدَّ من فرض عزلةٍ صارمةٍ عليهما، بالإضافة إلى حصارٍ مُطبِق، وحربٍ اقتصادية من وراء الستار، خصوصًا في موردهما الأساس، أي النفط الخام.

في هذا المنحى، مضى الشيخ علي خليفة العذبي الصباح، وزير النفط الكويتي، ليُغرِق الأسواق بنفطٍ رخيصٍ جدًا، من أجل هدفٍ سياسي هو حرمان العراق وإيران من مداخيل وافية للنهوض من ضنك الحرب، التي جرت إطالتها عن عمد للغاية ذاتها.

وقد سار الوزير الكويتي في هذا الاتجاه على خطى وزير النفط السعودي الأسبق أحمد زكي اليماني، على عهد الملك فيصل بن عبد العزيز، (قبل عزله من قبل الملك فهد)، الذي أطلق ما اصطلح على تسميته في ذلك الوقت “حرب الأسعار”.

فوق ذلك، تقدّمت الكويت الصف الخليجي لمطالبة العراق بسدادِ ديونٍ عليه للحكومة الكويتية، فور أن وضعت الحرب العراقية–الإيرانية أوزارها. صحيحٌ أنَّ صدام حسين في احتلاله الكويت كان غاصبًا، لكنه في ساعته أخذَ منحى انتقاميًا، ضاربًا عرض الحائط بحسابات الربح والخسارة. فقد كان يعلم أن خطوته الغاصبة تلك، سوف تُكلِّف الكويت ودول الخليج، في أيِّ موردٍ وردت، حربًا أو سلمًا، أضعاف أضعاف ما لها من ديون على العراق.

***

قد يكونُ أن ما أغرى صدام حسين في غزوه للكويت، تَقَلُّب الوضع السياسي الداخلي في الإمارة الصباحية من حيث المشادة الدائمة بين الحكومة ومجلس الأمة، الأمر الذي أدّى في مراحل مختلفة إلى حلِّ المجلس وتعطيل الحياة النيابية لفترات طويلة. وربما كان يتصوَّر أنَّ فريقًا مُعارضًا على الأقل يمكن أن يواليه، وهذا خطأٌ فادحٌ في التصوُّر، لا يضاهيه سوى سوء الفهم بينه وبين سفيرة الولايات المتحدة، آبريل غلاسبي، قبيل دخوله إلى الكويت.

في الحقيقة أنَّ الوضعَ الداخلي في الكويت لم يكن على ما يرام، خصوصاً من الفترة الممتدة من منتصف السبعينيات حتى الغزو العراقي. وقد لاحظتُ ذلك بنفسي يوم كنتُ في الكويت من أواخر 1976 وحتى منتصف 1977.

حدث خلال تلك الفترة أن كان وزير النفط الكويتي عبد المطلب الكاظمي في مهمة خارجية، ولدى عودته كان في استقباله في المطار وزير الإعلام آنذاك الشيخ جابر العلي. لفتتني تلك البادرة لأنه لم يسبق أن أقدم شيوخ العائلة الحاكمة على مثل هذه المراسم لشخصياتٍ من عامة الشعب!

لفتني أكثر من ذلك، أنَّ الشيخ جابر ألقى كلمة ترحيب بالكاظمي تحدث فيها عن أهمية التمسُّك بالوحدة الوطنية والحفاظ عليها، لا سيما أنه لم يكن معروفًا لأحد من خارج الكويت أنَّ فيها “مشكلة وحدة وطنية”. وقد شدَّ ذلك انتباهي، كون عبد المطلب الكاظمي شيعي المذهب، وهذا قبل الثورة الخمينية في إيران بثلاث سنوات!

في أثناء وجودي في الكويت خلال تلك الفترة القصيرة، حدث أن تأسّست مجموعةٌ استثمارية، هي “مجموعة الشارقة”، طرحت أسهمها للاكتتاب العام، وسُمح فيه لجميع المُقيمين في الكويت، شمل غير الكويتيين، لأول مرة في سجل الشركات الكويتية. وعندما نُشرت لوائح أسماء المساهمين، تبيَّن أنَّ هناك عددًا من شيوخ العائلة الحاكمة اشتروا أسهمًا في تلك المجموعة، فثارت ثائرة الشيخ جابر العلي ذاته، وألغي الاكتتاب.

ربما كان دافع الشيخ جابر العلي، أنَّ ذلك من شأنه أن يُخِلَّ بالعقد الاجتماعي بين العائلة الحاكمة وعموم الكويتيين، باعتبار أنَّ دخولَ الشيوخ في التجارة يُشكّلُ توجُّهًا لمنافسة التجار، الذين هم القوة الثانية الفاعلة بعد العائلة الحاكمة.

لذلك رفع الصوت بما معناه: “نحنُ حُكّامٌ ولسنا تُجّارًا”!

***

استطاع الرئيس الأميركي جورج بوش الأب، بتشجيعٍ من مارغريت ثاتشر رئيسة الحكومة البريطانية، بصفتهما “قائدين للعالم الحر”، تشكيلَ تحالفٍ دولي، عسكري وسياسي، ضمَّ أكثر من 30 دولة، بجيوشها وأساطيلها، تحت يافطة: “معركة تحرير الكويت”.

تجمّعَ هذا الحشد العالمي كله في المملكة العربية السعودية، تحت إمرة جنرال أميركي هو نورمان شوارزكوف، وقائد اسمي هو الجنرال السعودي الأمير خالد بن سلطان.

لكن هذا الحشد العالمي كله، ما كان ليستطيع أن يفعلَ شيئًا، لولا القناع السياسي لضمان “شرعيته العربية”، التي من دونها يُصبح هو الآخر قوة احتلال غاصبة. فاتجهت الأنظار لتأمين “الشرعية العربية” إلى دمشق، لإقناعِ الرئيس السوري حافظ الأسد بالمشاركة بقواتٍ سورية في الحشد العالمي (بشروطٍ مُغرية ومُمَيَّزة)، فاقتنع. وكانت حجته في ذلك، الدفاع عن استقلال دولة عربية شقيقة، كما فعل جمال عبد الناصر من قبل في زمن عبد الكريم قاسم!

ضمن جورج بوش ما كان يصبو اليه.  إلّا أنه بقيت هناك مسألة حساسة، يمكنها من الناحية الإعلامية والدعائية أن تفسد كل شيء، بما في ذلك إمكانية المشاركة السورية، وهي استبعاد إسرائيل من الحشد العالمي، مع أنها في واقع الأمر عصبه الخفي، خصوصًا أنَّ صدام حسين عمل قصارى جهده لإقحام إسرائيل في تلك المعمعة، فأطلق بضعة صواريخ على تل أبيب.

على مضض “اقتنعت” إسرائيل بأن تتنحى جانبًا، ومع ذلك فإنَّ اللوبي الصهيوني في أميركا أسقط جورج بوش في انتخابات الرئاسة التي فاز فيها بيل كلينتون، على الرُغم من انتصاره المؤزر في “عاصفة الصحراء”، وعلى الرُغم من أنه حمل الأمم المتحدة على إلغاءِ قرارٍ سابق اتخذته باعتبار الصهيونية “شكلًا من أشكال العنصرية”!

تحت نظر جورج بوش الأب ارتكبت القوات الأميركية مجزرة بشعة بقصفها قوافل الجيش العراقي المُنسحبة من الكويت، وهي ليست في وضعٍ قتالي، مما أنزل بالقوات العراقية المُنسَحبة خسائر بشرية ومادية ترقى الى “جرائم الحرب”، لو كانت هناك عدالة دولية. وعندما ظهرت الصور الأولى التي كشفت حجم وبشاعة تلك المجزرة، أمر جورج بوش بسحب تلك الصور، وإتلافها، لئلا تستثير الرأي العام العالمي.

سنتها، وخلال الحملة الانتخابية أطلق كلينتون في وجه خصمه العبارة الصاعقة التي ذهبت مثلًا: “إنه الوضع الاقتصادي… أيها الغبي”!

يومها أيضًا، ذهب كبير الحاخامين اليهود في نيويورك الى البيت الأبيض لتهنئة المرشح الفائز بيل كلينتون، فقال له، كما جاء في صحيفة “هيرالد تريبيون”: هل سألت نفسك لماذا أنتَ وليس غيرك؟”!

على أنقاضِ رئاسة جورج بوش اليتيمة، أطلق أنطوني لايك، مستشار الأمن القومي لخليفته كلينتون، سياسة “الاحتواء المزدوج”، أي حصار إيران والعراق كليهما.

كان كلينتون آخر مسؤول عالمي التقاه الرئيس السوري حافظ الأسد في جنيف في العام 2000 (قبل وفاة الرئيس السوري بعد ثلاثة أشهر فقط). وعندما سُئلَ كلينتون عن مجريات لقائه مع الرئيس السوري،، قال: “لقد بحثنا مستقبل سوريا لربع القرن المقبل”!

***

قبل انطلاق معركة تحرير الكويت بأيام، عقد القائد الأميركي الجنرال شوارزكوف مؤتمرًا صحافيًا حول استعداداته وتوقعاته. وفي ذلك المؤتمر الصحافي، أعلن أنه سوف يُطبّقُ “خطة هنيبعل” في الحرب. لكن أحدًا من الصحافيين الحاضرين لم يُكلّف نفسه عناء السؤال عمَّا هي تلك الخطة، (ربما لكيلا يبدو جاهلًا)!

حتى أنَّ المراقبين من الخارج لم يتوقّفوا عند عبارة “خطة هنيبعل”، أو شرح معناها. فمرّت هكذا كأنّها مجرّد عبارة في الهواء لا معنى لها!

من المؤكد أنه قصد بما قال عن تطبيق “خطة هنيبعل”، حصر المعركة بشقّها العسكري، بمعنى أنه توخّى “تحرير الكويت” فقط، وعدم المضي في الزحف إلى أبعد من ذلك، أي إلى بغداد لإطاحة نظام صدام حسين.

ذلك أن القائد القرطاجي هنيبعل، في الحرب البونية الثانية مع الرومان، استطاعَ أن يهزمَ الجيش الروماني في معركة “كاني” (جنوب شرق إيطاليا) يوم الثاني من آب (أغسطس) من العام 216 قبل الميلاد، لكنه لم يتابع انتصاره بالزحف على روما.

ويمكن القول بأنَّ إقدامَ جورج بوش الابن على احتلال العراق، خلال فترة رئاسته الأولى، وإطاحة نظام صدام حسين، هو خطوة تكميلية لخطة هنيبعل الناقصة التي، في ما بعد، أسقطت قرطاجة ذاتها ودمَّرتها!

المسألة الأخرى الغامضة في تلك الحرب هي حرق آبار النفط الكويتية كلها دفعة واحدة، وهو الحريق الذي أخمده الخبراء الأميركيون وغيرهم، لكن فعله المرتجى في أسواق النفط العالمية قد تمّ، لأنه أحبط خطة “حرب الأسعار” التي أشعلها وزير النفط الكويتي بعدما حققت أغراضها!

اتُّهِمَ صدام حسين وجيشه بأنهما هما اللذان أشعلا الآبار الكويتية، وهي تهمة يُصدّقها جميع الناس الذين لا يعرفون مداخل ومخارج الصناعة النفطية وسياساتها، وهي قابلة للتصديق لدى هؤلاء لأنَّ سمعة صدام حسين الانتقامية تجعلها كذلك. لكن المرجح أنَّ العراقيين، عسكرًا وخبراء نفط، لا يعرفون مواقع تلك الآبار كلها، وليست لديهم القابلية التكنولوجية لتحديد مواقعها من الجو، ولا إمكانية إشعالها كلها دفعة واحدة، كما حصل.

المعلومات الدقيقة والمؤكدة حول تلك المواقع لا يعرفها كل المعرفة سوى الذين اكتشفوها وحفروها ووضعوا خرائطها. والسير بهذا المنطق يؤدي الى الاستنتاج بأن الذي أطفأ النار هو الذي أشعلها!

(الحلقة الثانية عشرة يوم الأربعاء المقبل: المُنَظِّر).

  • سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى